قضايا وآراء

حول إمكانية استمرار المقاومة الشعبية للاحتلال

"محاولات مُقاومة تحاول أن تنظمها مجموعات صغيرة في الأردن ولبنان، وفي مصر أيضا، بمقابل محاولات الأنظمة إحباطها وقمعها والقبض على أعضائها"- الأناضول
منذ أسابيع بسيطة، أثارت الحكومة الأردنية قضية ما عرف بـ"خلية الصواريخ"، وهي مجموعة قد قُبض عليها في وقت سابق، تتكون من بضعة أفراد، كانوا يخططون لعمل مسلح يمس بـ"الأمن القومي" حسب البيان الرسمي للسلطة. ومن ثم، بعدها بأيام، صنَّفت جماعة الإخوان المسلمين كجماعة محظورة داخل المملكة الهاشمية. كذلك، من حين لآخر، تعلن الحكومة اللبنانية إحباطها محاولات عمل مُسلح، أي قصف إسرائيل، من قبل مجموعات تعمل داخل جنوب لبنان، كما عبّرت مؤخرا، وبلهجة شديدة الغضب، عن تحذير حركة حماس من "استخدام الأراضي اللبنانية للقيام بأي أعمال تمس بالأمن القومي اللبناني، حيث سيتم اتخاذ أقصى التدابير والإجراءات اللازمة لوضع حد نهائي لأي عمل ينتهك السيادة اللبنانية".

هذه محاولات مُقاومة تحاول أن تنظمها مجموعات صغيرة في الأردن ولبنان، وفي مصر أيضا، بمقابل محاولات الأنظمة إحباطها وقمعها والقبض على أعضائها بحجة المساس بـ"الأمن القومي"، في ظل الإبادة الإسرائيلية الجارية في غزة. فهل تنجح الأنظمة العربية في القضاء على مجموعات المقاومة الصغيرة بمجرّد القبض عليها أم ستولد مجموعات أُخرى من جديد، مع الوقت، تزداد وتنمو لمقاومة إسرائيل؟ أو بمعنى آخر، هل الفترة القادمة ستشهد موجات عنف جماعي، أي منظم، كرد فعل على الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني؟

موت الأيديولوجيات الحالمة بالممارسة الفكرية للمجتمعات، وصعود ما عرّفها كثيرون من الفلاسفة بالأيديولوجيات أو الثقافات السائلة، التي تتمثل في مفاهيم العمل والإنجاز والفردانية والاستهلاك وتأليه الذات، وكيفية تَمظهره عبر الجسد، أي تأليه الجسد ذاته، وغير ذلك من ثقافات تقاوم صعود أي عمل فكري وتنظيمي جماعي، لا سيما إن كان عملا مقاوما وتحرريّا

قبل أن نرجع إلى سياق تاريخي، ومعاصر، في منطقتنا العربية، نحاول من خلاله فهم تشكّل العنف كعمل جماعي منظَّم، نحاول استحضار مشاهد العمل العنيف الفردي والجماعي الصغير، المنظّم، الذي شهدناه من بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر وبداية الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. في مصر، كان العنف فرديا وشِبه جماعي في بضع عمليات، بدايتها حين قام أمين شرطة مصري في الإسكندرية، يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أي في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، بقتل سائحين إسرائيليين، وثالثهما المرشد السياحي المصري، بعد مشادات بينهما بسبب استفزاز السياح الإسرائيليين له بعد رفضهم إنزال العلم الإسرائيلي. بعد ذلك، بقرابة 8 أشهر، كان العمل منظما، إذ قامت مجموعة عرّفت نفسها باسم "طلائع التحرير: مجموعة الشهيد محمد صلاح"، نسبة إلى الجندي المصري محمد صلاح، بقتل "زيف كيبر" وهو رجل أعمال كندي إسرائيلي يعيش في مصر منذ سنوات، وتتبعته المجموعة واستهدفته، بهدف ملاحقة كل الصهاينة والداعمين للصهيونية وإبادتها في العالم.

أما في الأردن، بين كل فترة وأخرى، حاول بضعة أفراد اقتحام الحدود أو التسلل عبرها، كان أشهرهم سائق الشاحنة "ماهر الجازي" الذي قتل ثلاثة رجال أمنيين إسرائيليين بعد أن أطلق النار عليهم عند المعبر، ومن ثم تمكنت القوات الأخرى من قتله. وفي جنوب لبنان، والتي كانت أرضه مسرحا للاشتباك اليومي، الجوي والبري، مع الجيش الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر إلى إعلان الهدنة في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، لكن حتى بعد وقف إطلاق النار الذي التزم به حزب الله وخرقته إسرائيل يوميا، تقوم مجموعات مسلحة، على الأرجح فلسطينية، وبشكل غير مُنسق مع حزب الله، بقصف الصواريخ من جنوب لبنان إلى شمال فلسطين المحتلة. وقد عبّرت الدولة اللبنانية عن استهجانها هذه الأفعال وتحذير الشباب الفلسطينيين التابعين إلى الفصائل الفلسطينية، حماس وغيرها، من هذه الأعمال، فضلا عن القبض على هؤلاء الشباب.

طيلة العقد الماضي، أي ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تحديدا مع بداية موجة الربيع العربي أواخر عام 2010، وحتى القضاء على قوة تنظيم الدولة في العراق وسوريا، بمقتل رأسها أبي بكر البغدادي أواخر عام 2019، شهدت المنطقة صعود جماعات مسلحة منظمة ومدرّبة وممولة، والتي خاضت نزاعات قوية وحكمت مساحات واسعة لسنوات، في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، وجزء من شمال سيناء المصرية. لكن الملمح الأهم في تلك الجماعات وديناميات صعودها هو امتلاكها "أيديولوجيات" متقاطعة ومتباينة، استطاعت من خلالها تنظيم نفسها، بالإضافة إلى استقطاب عشرات الآلاف من المقاتلين حول العالم. هذه الأيديولوجيات الطموحة، ما بعد سقوط الأنظمة "القومية" شكلّيا، كانت حالمة في تطبيق شريعتها على أرض الواقع كنظمٍ للحكم تعيش المجتمعات تحت تشريعاتها. لكن، بعد سنوات من القتال والنزاع، تفتتت هذه الجماعات، بفعل سقوط الأيديولوجيات نتيجة الانشقاقات والاقتِتال الداخلي بينها، كما والأهم بفعل تحالفات القوى الدولية (روسيا وإيران والولايات المتحدة ودول أوروبية) في القضاء عليها عسكريا.

في ظل موت أي تنظيم يحتضن الأفكار التحررية والمقاومة بالعنف، يصنع الفرد مع نفسه، أو عدد قليل جدا من حوله، تنظيمه الفرداني، ومن خلاله يمارس الأفراد والمجموعات الصغيرة أعمالا عنفيّة، كرد فعل، مقاوم وانتقامي، لما حدث من فعل وحشي إباديّ أمام أعين العالم كُله، منزوع الأيديولوجيا، إذ يصبح العنف ذاته هو "أيديولوجية" ممارسة تسبق إطارها النظري، ردا على العنف المقابل ليس إلَّا، لكن مع أدوات الرصد والرقابة الحديثة التي تستخدمها الأنظمة العربية الأمنية، يندثر أي فعل أو نية للفعل

حتى إن النسخة الأخيرة والقوية من تلك الجماعات، والتي تجسَدتْ في هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) والتي كانت تُدير "المُحرَر" من سوريا الأسد في الشمال، والتي فيما بعد تحركت منه لتحرير دمشق من دولة البعث، بعد سقوط الأسد أعلنت الهيئة أن جهاديّتها الفصائلية لم تعد بحاجة لها، الآن هي دولة، والحديث عن جهادية سياسية، نسخة حديثة من الإسلام الحركي، فقد حلّت الدولة بقيادة أحمد الشرع الفصائل وأدمجتْ أغلبها في وزارة الدفاع السورية، وهي تحاول الآن، كما تقول، برغم الكثير من الصعوبات التي تواجهها في الفترة الحالية، أن تنتقل من الفصيل الجهادي إلى الدولة التي لديها شرعية داخلية، والأهم خارجية لدى أوروبا والولايات المتحدة، وهي القوى التي تعتبر في صلب أيديولوجية الجهادي السنّي قوى إمبريالية واحتلالية تجب مُحاربتها، هي والأنظمة القومية الموالية لها. لكن، تدرك الهيئة جيدا، وعلى رأسها ورأس سوريا أحمد الشرع، أنها في زمن موات الفصائلية والأيديولوجيات العابرة للحدود، ولا صوت أو شرعية سوى للدولة وأيديولوجيتها "القومية" التي تلتزم بالحدود.

لكن موت الفصائلية وخصوصيّتها الثقافية لم يكن تماهيا مع الواقع فحسب، بل سبقه ما عرف بموت السرديات الكُبرى، حسب ما نظَّر الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار، أي موت الأيديولوجيات الحالمة بالممارسة الفكرية للمجتمعات، وصعود ما عرّفها كثيرون من الفلاسفة بالأيديولوجيات أو الثقافات السائلة، التي تتمثل في مفاهيم العمل والإنجاز والفردانية والاستهلاك وتأليه الذات، وكيفية تَمظهره عبر الجسد، أي تأليه الجسد ذاته، وغير ذلك من ثقافات تقاوم صعود أي عمل فكري وتنظيمي جماعي، لا سيما إن كان عملا مقاوما وتحرريّا، أي عمل يأخذ صاحبه إلى كل تمثلات العذاب من التعذيب والسجن حتى القتل والاختفاء، كما حديث تاريخيا، ويحدث الآن مع كل المقاومين، في زمن عزت فيه المقاومة.

هذا من ناحية الثقافة والفكر، أما من ناحية الواقع، وفي ظل موت أي تنظيم يحتضن الأفكار التحررية والمقاومة بالعنف، يصنع الفرد مع نفسه، أو عدد قليل جدا من حوله، تنظيمه الفرداني، ومن خلاله يمارس الأفراد والمجموعات الصغيرة أعمالا عنفية، كرد فعل، مقاوم وانتقامي، لما حدث من فعل وحشي إباديّ أمام أعين العالم كُله، منزوع الأيديولوجيا، إذ يصبح العنف ذاته هو "أيديولوجية" ممارسة تسبق إطارها النظري، ردا على العنف المقابل ليس إلَّا، لكن مع أدوات الرصد والرقابة الحديثة التي تستخدمها الأنظمة العربية الأمنية، يندثر أي فعل أو نية للفعل، ويذهب صاحبه ومجموعته إلى السجون أو القتل، فيكون مثالا رادعا لأي فكرة مشابهة عند ذوات أُخرى. ويسود الاستسلام لسُطلة الأمر الواقع سواء سلطة الدولة القمعية أو حتى سلطة الهيمنة الإمبريالية المتمثلة في الولايات المتحدة وحليفتها الصغرى إسرائيل، دولة الاحتلال الإبادية..