كتاب عربي 21

الخطط الصهيونية والإسرائيلية للدروز العرب

"نجحت الدولة الإسرائيلية في استقطاب شريحة واسعة من أبناء المجتمع الدرزي"- إكس
في الأسبوع الماضي، خصّص الجيش الإسرائيلي جزءا من جدول أعماله المزدحم بإبادة فلسطينيي غزة، وقصف وإطلاق النار على الفلسطينيين في أنحاء الضفة الغربية، وقصف لبنان، وسلسلة غاراته الجوية على الأراضي السورية، بما في ذلك العاصمة دمشق، لشنّ غارة جوية إضافية، على ما زعمت إسرائيل أنها "جماعة متطرفة" هاجمت أفرادا من الدروز السوريين، تدّعي إسرائيل أنها "تعهدت" بحمايتهم والدفاع عنهم داخل سوريا نفسها.

في ظل سيطرة ميليشيات طائفية متشددة في سوريا، أُطلق العنان لأعضائها لارتكاب مجازر طائفية ضد العلويين والدروز السوريين تحت راية النظام الإسلامي الجديد، الذي وصل إلى السلطة في كانون الأول/ ديسمبر الماضي بدعم من تركيا وإسرائيل وعدد من دول الخليج العربية والولايات المتحدة، تشعر الأقليات الدينية في سوريا بالحصار والخوف المتزايد مما ينتظرها. وبالرغم من تأكيدات أحمد الشرع، العضو السابق في تنظيم القاعدة، الذي نصّب نفسه رئيسا للبلاد، بحماية الأقليات الدينية، واصل النظام الجديد فرض قيود "إسلامية" متشددة، شملت العديد من المؤسسات، بما في ذلك تغيير النظام والمناهج التعليمية والفصل بين الجنسين في وسائل النقل العام.

في خضمّ هذا الواقع الطائفي، وجدت إسرائيل فرصتها السانحة لتعزيز أحد مشاريعها القديمة، الذي بدأته الحركة الصهيونية في عشرينيات القرن الماضي، والمتمثل بخلق انقسامات جديدة أو استغلال الانقسامات القائمة في فلسطين والدول العربية المحيطة بين مختلف الطوائف الدينية عبر استراتيجية "فرق تسد" الاستعمارية المعهودة.

وجدت إسرائيل فرصتها السانحة لتعزيز أحد مشاريعها القديمة، الذي بدأته الحركة الصهيونية في عشرينيات القرن الماضي، والمتمثل بخلق انقسامات جديدة أو استغلال الانقسامات القائمة في فلسطين والدول العربية المحيطة بين مختلف الطوائف الدينية عبر استراتيجية "فرق تسد" الاستعمارية المعهودة

تهدف هذه الاستراتيجية الإسرائيلية المستمرة إلى إعادة تعريف إسرائيل، ليس بوصفها مستعمرة استيطانية صهيونية أوروبية أنشئت لخدمة المصالح الإمبريالية الأوروبية والأمريكية، بل كدولة تستمد شرعيتها من طبيعتها الدينية الطائفية ويُفترض أن تُتخذ كنموذج إقليمي لحماية الأقليات في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وتسعى إسرائيل إلى فرض هذا النموذج عبر تفكيك النسيج المجتمعي في دول الجوار، ودفع الطوائف الدينية الأصلية إلى الانعزال ضمن دويلات منفصلة، على غرار النموذج الإسرائيلي. وترى أن تطبيع وجودها في المنطقة يمرّ عبر تعميم هذه البُنية الطائفية، خاصة في لبنان وسوريا.

ومن هذا المنطلق، عقد الإسرائيليون تحالفات مبكرة مع بعض الجماعات المارونية اللبنانية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، توّجت بتوقيع اتفاقية سياسية مع الكنيسة المارونية عام 1946. وكان دعمهم اللاحق للجماعات المسيحية اللبنانية الفاشية، مثل حزب الكتائب الذي سعى إلى إقامة دولة مارونية في لبنان، متوافقا مع التوجه الصهيوني ذاته تجاه الطائفة الدرزية الفلسطينية، والذي تعود جذوره إلى عشرينيات القرن المنصرم، حين بدأ المشروع الصهيوني باستهداف الدروز الفلسطينيين كمجتمع يمكن فصله واستقطابه.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ومباشرة بعد شمول الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بالرعاية البريطانية، سعت القيادة الصهيونية جاهدة إلى اختلاق انقسامات طائفية بين المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين؛ الذين كانوا متحدين في "الجمعيات الإسلامية المسيحية الفلسطينية" التي تأسست عام 1918 كمنصة مؤسسية رئيسة لتعزيز الوحدة الفلسطينية ومقاومة الاستيطان الصهيوني والنظام الاستعماري البريطاني آنذاك.

سعى الصهاينة في تلك المرحلة إلى عزل المجتمع الدرزي الفلسطيني الصغير عن باقي المجتمع الفلسطيني، باعتباره حليفا محتملا للمشروع الصهيوني. ففي بداية الانتداب البريطاني عام 1922، بلغ عدد الدروز الفلسطينيين 7000 نسمة، يتوزعون على 18 قرية في مختلف أنحاء فلسطين، ويمثلون أقل من 1 في المئة من سكان فلسطين البالغ عددهم 750 ألف نسمة. وعلى غرار ما فعله الفرنسيون في الجزائر عندما زعموا أن البربر الأمازيغ الجزائريين هم من نسل شعوب الغال الأوروبية، بهدف فصلهم عن مواطنيهم العرب، عمد البريطانيون إلى اختراع تصنيف للدروز بزعم أنهم من نسل الصليبيين، وبأنهم "عرق أبيض" غير عربي "أقدم" و"أنظف وأفضل مظهرا" من بقية الفلسطينيين، مستندين في ذلك إلى ملامحهم الجسدية التي غلبت عليها البشرة الفاتحة والعيون الزرقاء.

ورغم أن الصهاينة لم يولوا الدروز اهتماما يُذكر في البداية، إلا أن موقفهم تبدّل في أواخر عشرينيات القرن العشرين، حين بدأوا بتكثيف جهودهم لاستقطابهم. وكما استغلّ الصهاينة التنافس والغيرة بين العائلتين الفلسطينيتين البارزتين من ملاك الأراضي في القدس، آل الحسيني وآل النشاشيبي، فقد سعوا إلى تطبيق الاستراتيجية ذاتها مع الدروز، فشجّعوا الانقسام بين العائلات الكبرى، لا سيما آل طريف وآل خير، وسعوا لدفعهم نحو تبنّي هوية طائفية مستقلة.

أسست سلطات الاحتلال البريطاني نظاما طائفيا في فلسطين لخدمة مشروع الاستعمار اليهودي الأوروبي، وكان من أبرز تجلياته العمل على فصل المجتمع الدرزي الفلسطيني الصغير عن باقي مكونات الشعب الفلسطيني. وبمساعدة الصهاينة، شرع البريطانيون، في تعزيز الانقسام الطائفي والديني منذ عشرينيات القرن الماضي، وهو ما تُوّج بتأسيس "جمعية الاتحاد الدرزي" ذات الطابع الطائفي عام 1932، شأنها في ذلك شأن الجمعيات الإسلامية السنية والمسيحية الأرثودوكسية التي أسست في تلك الفترة نتيجة السياسات البريطانية الطائفية التفتيتية.

وفي العام نفسه، تصاعدت محاولات الصهاينة لاستقطاب قادة الدروز، عبر دعم أحد الفصائل الدرزية وتشجيع نزوعه الطائفي، مما أدّى إلى اندلاع صدامات بين الفصائل الدرزية المختلفة عام 1933. ومع ذلك، حافظت عائلة "طريف" الوطنية على قيادتها التقليدية للطائفة، وتمكنت من إحباط الفصيل المتعاون مع الصهاينة وهزيمته. وعلى الرغم من هذه النتيجة، ظل الصهاينة يأملون أن يتيح لهم اختراق المجتمع الدرزي الفلسطيني مدخلا لبناء تحالفات مع المجتمعات الدرزية الأكبر حجما في سوريا ولبنان.

في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين، وفي خضم تصاعد الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني والاستعمار الصهيوني الأوروبي (1936-1939)، وانخراط الدروز في فلسطين وسوريا ولبنان في الثورة الفلسطينية، كثّف الصهاينة والبريطانيون استراتيجيتهم الطائفية بين الفلسطينيين لمنع الدروز الفلسطينيين من الانضمام إلى الثورة المناهضة للاستعمار. وجنّدوا لهذا الغرض زعيما فصيليا درزيا من قرية عسفيا الفلسطينية يُدعى الشيخ حسن أبو ركن، الذي اغتيل على يد الثوار الفلسطينيين بوصفه متعاونا في تشرين الثاني/ نوفمبر 1938، وتعرضت قريته عسفيا لهجوم الثوار لتعقب المتعاونين الآخرين فيها. فاستغل الصهاينة الحادثة لاستقطاب المجتمع الدرزي بتصويره كضحية طائفية، متجاهلة أن الثورة أعدمت نحو 1000 متعاون من مختلف الطوائف خلال الثورة الفلسطينية، وكان معظمهم من المسلمين السنة، وكان من بينهم أبناء عائلات فلسطينية بارزة.

وفي نهاية عام 1937 بينما عمل الصهاينة بجد لبثّ الطائفية بين الفلسطينيين والدروز في سوريا ولبنان، كانوا يخططون في الوقت نفسه لطرد جميع السكان الدروز -الذين بلغ عددهم آنذاك نحو 10,000 نسمة- من "الدولة اليهودية" المقترحة وفق توصيات لجنة بيل البريطانية، إذ كانت جميع القرى الدرزية تقع ضمن الحدود التي أوصت بها اللجنة لتلك الدولة.

وفي موازاة ذلك، دفعت سلطات الانتداب البريطاني حملتها الطائفية خطوة أبعد، من خلال تقديم رشاوي لبعض القادة الدروز مقابل عدم الانخراط في الثورة الفلسطينية. وفي عام 1938، أقام الصهاينة قنوات اتصال مع الزعيم الدرزي السوري المناهض للاستعمار، سلطان باشا الأطرش، الذي تم قمع ثورته (1925-1927) ضد الفرنسيين قبل ذلك بعقد من الزمن.

عرض الصهاينة على الأطرش "خطة النقل" أو "الترانسفير"، والتي تقضي بترحيل الدروز الفلسطينيين بذريعة حمايتهم من الثوار الفلسطينيين. وقد رفض الأطرش إبرام أي اتفاقيات صداقة مع الصهاينة، واقتصر موقفه على القبول بالهجرة الطوعية لمن يرغب في طلب اللجوء فقط.

استخدم الصهاينة للتواصل مع الأطرش أحد معارفهم، ويُدعى يوسف العيسمي، وهو سوري درزي كان مساعدا سابقا للأطرش، وكان يعيش في المنفى في شرق الأردن في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث زار خلال فترة نفيه الدروز الفلسطينيين وأقام علاقات مع الصهاينة.

بحلول عام 1939، أبدى رئيس المنظمة الصهيونية، حاييم وايزمان، حماسة لفكرة طرد الدروز؛ إذ اعتبر أن الهجرة "الطوعية" لعشرة آلاف فلسطيني، "سيتبعهم آخرون بلا شك،" كما قال، تمثّل فرصة عظيمة لتوسيع الاستعمار اليهودي الأوروبي في منطقة الجليل شمال فلسطين. لكن الخطة لم تُنفّذ، بسبب تعذّر تأمين التمويل اللازم لشراء الأراضي الدرزية، إلى جانب تصالح بعض العائلات الدرزية مع الثوار الفلسطينيين عام 1940، مما خفف الضغوط عن القادة الدروز وأفشل الرهان الصهيوني المبكر على الطائفة.

وفي عام 1944، خططت منظمة الاستخبارات الصهيونية (التي كانت تُسمى آنذاك "شاي") بالتعاون مع يوسف العيسمي لتهجير الدروز إلى شرق الأردن وتمويل إنشاء قرى لهم هناك مقابل الاستيلاء على جميع أراضيهم في فلسطين. وقد أوفدت بعثة استطلاعية إلى شرق بلدة المفرق الأردنية لتنفيذ الخطة، غير أن معارضة الدروز والبريطانيين أجهضت مخططها نهاية عام 1945. ومع ذلك، نجح الصهاينة في عام 1946، عبر متعاونين دروز وصهاينة، في شراء أراضٍ مملوكة لأفراد من الطائفة داخل فلسطين.

في كانون الأول/ ديسمبر 1947، انخرط عدد متزايد من الدروز الفلسطينيين في المقاومة الفلسطينية المسلحة، في حين كان الصهاينة، إلى جانب بعض المتعاونين الدروز، يعملون على الحفاظ على حياد المجتمع الدرزي أو تجنيد أفراد منه لصالح المشروع الصهيوني.

تسعى إسرائيل اليوم إلى تكرار نموذجها السابق مع الدروز الفلسطينيين، عبر استقطاب بعض القيادات الدرزية السورية على أمل تحقيق ما حققته مع المتعاونين الدروز الفلسطينيين في السابق. لكنها لا تزال تواجه مقاومة صلبة من هذه القيادات التي تؤكد انتماءها غير القابل للمساومة إلى الشعب السوري

في الواقع، شارك دروز من سوريا ولبنان أيضا في القتال إلى جانب الفلسطينيين عام 1948. وردا على هجوم شنّه مستوطنو مستعمرة "رامات يوحنان" في نيسان/ أبريل 1948، خاضت وحدات المقاومة الدرزية الفلسطينية معركة دفاعية لكنها تكبدت خسائر فادحة. وفي ظل الانتصارات الصهيونية المتسارعة، شكّل انهيار معنويات المقاتلين وفرارهم فرصة للمخابرات الصهيونية، وعلى رأسها الزعيم الصهيوني الأوكراني الأصل موشيه ديان، لتجنيد المنشقين الدروز، بمساعدة عناصر متعاونة من الطائفة نفسها.

وعندما تأسست المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية عام 1948، بادرت إلى ترسيخ الانقسامات وبثها في صفوف الشعب الفلسطيني عبر تقسيمهم إلى فئات عرقية وهمية تقوم على مبدأ الطائفة الدينية. وكان أول هذه الإجراءات الاعتراف بالدروز الفلسطينيين، البالغ عددهم آنذاك 15,000 نسمة، كطائفة دينية "منفصلة" عن المسلمين، مع تأسيس محاكم دينية خاصة بهم. بعد وقت قصير من إعلان قيام الدولة، شرعت إسرائيل في استخدام تسمية "دروز" بدلا من "عرب" للإشارة إلى الدروز كعرق وجنسية منفصلين عن العرب، في محاولة لترسيخ هويتهم كجماعة قومية متميزة عن المحيط الفلسطيني والعربي. غير أن الواقع ظل على حاله، إذ بقي الدروز، كما هم اليوم، يعانون من التمييز العنصري ذاته الذي يواجهه سائر الفلسطينيين داخل إسرائيل، بما في ذلك مصادرة الأراضي وسياسات القمع اليهودي المتعصّب.

بعد إقامة الدولة (إسرائيل)، وبدعم من الحكومة، بسط المتعاونون من أبناء الطائفة نفوذهم على المجتمع الدرزي، إلى درجة أن بعض قادتهم دعوا الحكومة إلى فرض التجنيد الإجباري على الدروز في الجيش الإسرائيلي، وهو ما تمّ فعلا. ومع ذلك، ظل الدروز ممنوعين من الالتحاق بالوحدات العسكرية "الحساسة".

وعلى الرغم من نجاح الدولة الإسرائيلية في استقطاب شريحة واسعة من أبناء المجتمع الدرزي ظلّت مقاومة الاستعمار الاستيطاني متواصلة في صفوف الطائفة. ومن أبرز رموز هذه المقاومة الشاعر الفلسطيني الدرزي سميح القاسم (1939–2014)، أحد أعمدة الشعر المقاوم إلى جانب محمود درويش وتوفيق زياد، والذي لم تُلقَ قصائده في أوساط الفلسطينيين فحسب، بل غُنّيت من قبل فنانين مثل كاميليا جبران وريم البنا. كما برزت شخصيات درزية أخرى في مجال الأدب والفكر والمقاومة الثقافية، من بينهم الكاتب والروائي سلمان ناطور (1949–2016)، والشاعر المعاصر سامي مهنا، الذي تعرض للسجن والاعتقال أكثر من مرة على خلفيات سياسية، والأكاديمي الراحل سليمان بشير (1947–1991)، أحد أبرز الباحثين في تاريخ الإسلام المبكر وتاريخ الصهيونية وعلاقة الاتحاد السوفييتي والأممية الشيوعية بالفلسطينيين والصهاينة، والمؤرخ البارز قيس فرو (1944–2019)، المعروف بدراساته عن تاريخ الدروز والاستعمار.

وتسعى إسرائيل اليوم إلى تكرار نموذجها السابق مع الدروز الفلسطينيين، عبر استقطاب بعض القيادات الدرزية السورية على أمل تحقيق ما حققته مع المتعاونين الدروز الفلسطينيين في السابق. لكنها لا تزال تواجه مقاومة صلبة من هذه القيادات التي تؤكد انتماءها غير القابل للمساومة إلى الشعب السوري، على الرغم من معارضتها للسياسات الطائفية للنظام "الإسلامي" الجديد في سوريا. غير أن الرغبة الإسرائيلية في تمزيق الوحدة العربية، عبر إذكاء نار الانقسامات الطائفية، لا تزال سياسة ثابتة، كما كانت منذ تأسيس المستعمرة الاستيطانية الصهيونية.