منذ أيام ولا تتوقف برامج "توك شو" عن مناقشة
وتحليل تسريبات الرئيس
المصري السابق جمال
عبد الناصر مع الرئيس الليبي السابق
معمر القذافي، حول إظهار عبد الناصر حالة الإحباط التي يشعر بها تجاه مواقف
الرؤساء والملوك العرب، بعد هزيمة 1967، ورغبتهم في خوض مصر الحرب، دون أن يقدموا
الدعم اللازم لذلك، في مقابل خطابات "شعبوية" على حد تعبير عبد الناصر،
لا طائل منها.
هذا الحوار كان بمناسبة نية عبد الناصر قبول مبادرة وزير
الخارجية الأمريكي السابق روجرز، والتي تهدف إلى وقف إطلاق النار بين مصر
والاحتلال الإسرائيلي.
لعل الصادم في كلام عبد الناصر، رائد القومية العربية وزعيمها، هو حديثه عن أن على
الفلسطينيين أن يقوموا بقضيتهم، وأن قضيته هي تحرير الأراضي المصرية التي احتُلت
بعد هزيمة 1967، وإن كان الكلام اجتزئ من سياقه، إذ إن الرجل وللأمانة كان يعبر عن
حالة إحباط لا استسلام، حتى ولو أن نيته كانت تحميل الفلسطينيين مسؤولية ما يخصهم
من القضية العربية- الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يتم على أرض الواقع، ولا يدري أحد؛
لأن المنية كانت أسبق من أن ينفذ معتقده، أم أن كلامه في التسريبات كان من قبيل
الغضب والكبت والإحباط، لا سيما وأن الهزيمة أوقعت رمزا كبيرا في مخيال الأمة
العربية.
يأتي الجدل حول التسريبات بسبب توقيت خروج هذه التسريبات، إذ إن الفلسطينيين ولا سيما المقاومة في غزة والضفة يعيشون أزمة كبيرة، جوهرها الخذلان؛ لا العدو والخسائر التي خلفها من عدوانه سواء على غزة أو الضفة، في وقت تطالبهم القوى العربية الكبرى بأن يلقوا سلاحهم
ويأتي الجدل حول التسريبات بسبب توقيت خروج هذه
التسريبات، إذ إن الفلسطينيين ولا سيما
المقاومة في غزة والضفة يعيشون أزمة كبيرة،
جوهرها الخذلان؛ لا العدو والخسائر التي خلفها من عدوانه سواء على غزة أو الضفة،
في وقت تطالبهم القوى العربية الكبرى بأن يلقوا سلاحهم، ويتركوا مساحة لوقف
العدوان من خلال مفاوضات إرضاء العدو، وهو ما أحدث هذا الجدل، سواء على مستوى
الحاضر في دعوة العرب للمقاومة إلقاء سلاحها، أو على مستوى استشهاد من يرى ذلك بما
تم تسريبه من لقاء عبد الناصر والقذافي، إذ يرى هؤلاء أن ذلك عين العقل، حيث يوفر
قرار إلقاء السلاح وقف نزيف الدم والأرواح للمدنيين في غزة والضفة.
دارت السجالات بين من رأى أن عبد الناصر كان واعيا
ومقدرا للموقف أكثر من كل حكام العرب، في حينها، وهو الخط الذي سار عليه السادات
من بعده، ولحقه كل العرب فيما بعد، ما يؤكد رجاحة عقله وثبت زعامته، وأن القومية
لا تعني العنترية أو سحب البلاد إلى مغامرات غير محسوبة، وبين من يرى أن مغامرات
عبد الناصر أودت بالعرب إلى ما هم عليه الآن، وأنه سبب الهزيمة في 1967 وما قبلها،
وأنه هو من أدخل العنترية واللامنطقية إلى ساحات السياسة، وأن إسقاط موقف عبد
الناصر و"حكمته" على الحالة الفلسطينية اليوم لا يمت للعقل ولا مقتضى
المنطق. كما أن بحث كل قُطر عن مصالحه والانكفاء على حل مشاكله، ليس واجب الوقت
كما يدعي أصحاب الرأي الأول.
وبين هؤلاء وهؤلاء يبرز تساؤل كبير حول الهوية والقضية،
وما إذا كانت القضية الفلسطينية هي قضية العرب كلهم، كما يرى القوميون والعروبيون،
أم هي قضية الفلسطينيين، كما يرى أنصار تيار التغريب والليبرالية و99 في المئة من
خيوط القضية في يد أمريكا، أم هي قضية دين وعقيدة، كما يرى الإسلاميون، أم هي
مسألة صراع سياسي كما كل الصراعات، كما يرى دعاة الحياد والأكاديمية.
القضية ليست يا سادة في تسريبات عبد الناصر، ولا من موقفه، ولا من الدفاع عنه أو إدانته، القضية بل الأزمة الحقيقية أننا كأمة أصبحنا لا نعرف من نحن، وماذا نريد
لقد كانت القضية الفلسطينية بنت العروبية والإسلاموية، تتنازعانها،
فالأول يرى أن أرض فلسطين هي أرض عربية اغتصبها شذاذ الآفاق وعلى القومية العربية
أن تثبت هوية عروبتها، وهم في ذلك باحثون عن قضية جامعة رافعة لأيديولوجيتهم، التي
جاءت على أنقاض الخلافة العثمانية "الإسلامية". فالقضية سابقة على ميلاد
فكرهم بمئات السنين، وربما بما يقارب الألف عام، حين فتح عمر بن الخطاب القدس، لذا
فإن الإسلاميين يرون أنها قضية إسلامية بدأت مع نزول الوحي وإسراء الله سبحانه
بنبيه إلى المسجد الأقصى، وبالتالي هم أولى بالقضية من غيرهم. وعلى مستوى القضية
الفلسطينية في العصر الحديث، فإن أول طلائع المقاومة على المستوى الشعبي، كانت
مدفوعة بالعقيدة والتاريخ، وحتى على المستوى الرسمي، كما يقول البعض، كانت مدفوعة
برغبة الملك فاروق في استعادة زعامة العالم الإسلامي بقيادة الجيش المصري للجيوش
التي سافرت إلى فلسطين للذود عن حياض الأقصى وفلسطين.
القضية ليست يا سادة في تسريبات عبد الناصر، ولا من
موقفه، ولا من الدفاع عنه أو إدانته، القضية بل الأزمة الحقيقية أننا كأمة أصبحنا
لا نعرف من نحن، وماذا نريد. لقد مرت الأمة بقرن من أصعب القرون مرت عليها، وأصبح
حالنا حال من يتخبطه الشيطان من المس، لا نعرف إن كنا عروبيين، أم إسلاميين، أم
كما بعضنا انحاز إلى حضارة كانت على أرضه ولم يبق منها إلا بعض الحجارة والأساطير،
فهذا فرعوني، وذاك آرامي، وهؤلاء سومريون، حتى أصبحنا أمة تبحث عن ذاتها، بل صار
السؤال الكبير هو: هل نحن بالفعل أمة؟
هو السؤال الذي سنجيب عنه في سلسلة من المقالات إن شاء
الله في الأسابيع القادمة..