قضايا وآراء

عن سيولة الممانعة على مواقع التواصل الاجتماعي

"مقاومة الاحتلال باتت أمرا يتوجب على الفرد أن يؤكد على تأييده لها"- جيتي
"أنت ممانع جديد.. أنت متصهين.. أنت خائن.. أنت منبطح.. أنتَ بوق إيراني".. هذه هي الاتهامات التي ملأت وسائل التواصل منذ أكثر من عام، إذ كانت ساحة انتشر فيها خطاب الكراهية والتخوين بين الكثيرين من مختلف الانتماءات، أيا كانت هذه الانتماءات، وحتى من أبناء الانتماء الواحد، سواء كان انتماء دينيا، أو أيديولوجيا، أو عرقيا أو غير ذلك. ويزداد هذا الخطاب، في اللحظات التاريخية المشحونة بالعواطف، تحديدا في لحظات الحرب.

عشت في لبنان منذ بداية ما عرف بجبهة "الإسناد" الذي فتحها حزب الله على إسرائيل إلى أن توسعت الحرب منذ أيلول/ سبتمبر حتى الهدنة في 27 تشرن الثاني/ نوفمبر 2024. كنت أرى أن لبنان، خلال أشهر الحرب، تعيش حالة من الاستقطاب المُجتمعي المشحون بخطابات التخوين والكراهية. ولم يكن المجتمع اللبناني يستقبل هذه الحالة بشيء من الغرابة، بل على العكس، كان الخطاب مألوفا بين اللبنانيين، كل ما فعلوه هو استرجاع أشباح الحرب الأهلية، ومفرداتها التي كانت تتوزع بين مقاوم، ومنبطح، وعميل لإسرائيل. لم يتخط لبنان ذاكرته من حيث الحرب والكراهية، ما زال عالقا فيها، بل يستدعيها عند كل لحظة تاريخية. فالذاكرة اللبنانية في حالة "سي زيفية" ما زالت تُكرر ذاتها، متحصنة في خنادقها، حيث يبدو كل كائن على أرض لبنان، مواطنا كان أو أجنبيا، بالضرورة متخندقا مع فريق ضد الآخر.

فلان يعمل في الجريدة التابعة لفئة ما، إذن هو مثلهم تماما، في كل شيء، ذابَ في كل ما يقولونه أو يتبنّونه، في غياب تام للذاتية الفردانية، حتى الانتقاد أو التعليق أو التحليل بأي مفاهيم وآراء أُخرى غير التي كانت تخرج من جماعة ما، حزب الله مثلا، تضعك في خانة ترديد السردية الصهيونية، وهذه هي القوانين التي تحكم الأحداث ومجرياتها. أيضا، ساعد في هذا انجرار الذوات الفردية نحو التخندق الجماعي، إذ وجود الذات منفردة أو مستقلة، تدعم وتؤيد المقاومة بطريقتها الخاصة يندثر تماما، فخرجت مسمّيات جديدة مثل الممانعين الجدد "نيو ممانعة"؛ أُطلقت هذه التسمية على الفريق الذي عاش في أوساط يسارية وتقدمية من حيث التنظيمات والأفكار، كما يتحدث ويكتب بأكثر من لغة، لكنه بات مؤيدا للمقاومة، فهذا لم يعجب فئات أُخرى ترى أن تأييد المقاومة يجب أن ينحصر في نمط معين ذو سردية صلبة، ومحددة.

يضيق الخندق على أصحابه، ولا مكان لأي آراء نقدية أو مواقف مركبة غير متخندقة وتأمن تهمة الخيانة إذا نطقت بنقدٍ ما. في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، على من يقول رأيه في شيء يجب أن يثبت كل يوم أنه مع أو ضد، حتى في مسلّمات الأمور
في مقابل ذلك، تقوقع من تسموا بالممانعين الجدد، حول تأييدهم الأعمى لإيران وحزب الله وأطيافِهم، في غياب تام للنقد، فأصبحوا ليسوا ممانعين جددا، بل هم إنتلجنسيا تتحدث اللغة الإنجليزية وتُخاطب الغرب بفكر الحزب من خلال لغة أخرى غير لغة فقه الجهاد والمقاومة، وفي إطار تلك المهمة، صمتوا عن أي نقد لحزب الله، في تاريخ عمله السياسي والعسكري والأيديولوجي، أو من الناحية الهيكلية التنظيمية داخليا من فساد واغتيالات، وفي الأدوار الإقليمية التي لعبها الحزب في سوريا والعراق بشكل أقل. وهؤلاء، بدلا من أنهم كانوا يعملون لإحياء عمل وفكر مهدي عامل وحسين مُروة، وغيرهما من أقطاب تاريخ اليسار اللبناني، باتوا يتغزّلون في مقولات شعبوية لقيادات طائفية، وتعترف أنها كذلك.

يضيق الخندق على أصحابه، ولا مكان لأي آراء نقدية أو مواقف مركبة غير متخندقة وتأمن تهمة الخيانة إذا نطقت بنقدٍ ما. في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، على من يقول رأيه في شيء يجب أن يثبت كل يوم أنه مع أو ضد، حتى في مسلّمات الأمور، فحين كنت أكتب رأيا ناقدا لشيء ما يخص حركة حماس أو حزب الله، كان لزاما عليّ أن أؤكد في البداية عن تأييدي مقاومتهما لإسرائيل، مدافعا عن نفسي، ومستبقا أي اتهام أو تخوين. مقاومة الاحتلال باتت أمرا يتوجب على الفرد أن يؤكد على تأييده لها بادئ ذي بدء وإلا تعرض لحملة من الاغتيال المعنوي، حيث في زمن الانتماءات السائلة التي تتغير وتتجدد أسبوعيا، يجب على الكثيرين أن يكتبوا تنويهات باستمرار عن مواقفهم الثابتة من القضايا التي لا تتغير بمرور الزمن.

في سياق القضية الفلسطينية عموما وحتى لا نغرق في تاريخ متخيّل وغير حقيقي، كانت المزايدة روتينا داخلا في عملية المقاومة وظاهرة الجمهرة حولها، ولكن على الأقل في الماضي، كان يتطلب الأمر موقفا وفعلا محددا تجاه إسرائيل والفلسطينيين، وعلى هذا الموقف بالتحديد فقد أشخاص مثل وصفي التل ويوسف السباعي وأنور السادات حيواتهم في مزايدات على مواقفهم من القضية الفلسطينية.
هذا الانعزال بدلا من ملئه بالعمل الواقعي بما يلزم من نقد وتصحيح وأفكار ورؤى تدعم وتقوّم وتقوّي العمل السياسي، وفي القلب منه العمل المقاوم، يكون التخندق بين ممانع وممانع جديد وخائن ومرتزق ومُتصهين. والخروج من هذه الحالة يتطلب جهدا ذاتيا كبيرا، لأنه يعد خروجا من انكفاء الذات عن نفسها وتمردا عليها
أما الآن كفى بالإنسان أن ينقد عملا ارتكبته مقاومة، لا فعل المقاومة بحد ذاته، ليكون ذلك مسوغا لاغتياله معنويا، وربما تصفيته جسديا، لولا أن السلطة تحتكر العنف والسلاح في الكثير من أماكن الوطن العربي.

يمكننا أن نرد تلك الحالة إلى موات السياسة وتنظيماتها، كما انعزال الجماهير عن العملية التنظيمية و"الفعلية" للعمل السياسي، والمقاوم، ومدى تعقيده ومواقفه المركبة على أرض الواقع، التي تستدعي مثلا حماس لشكر المخابرات المصرية باستمرار ومديح الأسد قبل سقوطه، في الوقت الذي يحب مؤيدو حماس على السوشيال ميديا أن يصبوا جام غضبهم على تلك الأنظمة. هناك انفصال حقيقيّ بين الجماهير والفصائل التي تؤيدها، وهذا الانفصال والتغييب عن عملية صنع القرار أو المشاركة فيه، يتسبب لدى الكثيرين بحالة زائفة من الطهرانية الثورية التي تجعل "المتحزب" يتصور منظومة معينة تؤطرها سردية مانوية تنظر إلى العالم بموقف أبيض أو أسود، إن لم تكن معنا فأنت علينا.

هذا الانعزال بدلا من ملئه بالعمل الواقعي بما يلزم من نقد وتصحيح وأفكار ورؤى تدعم وتقوّم وتقوّي العمل السياسي، وفي القلب منه العمل المقاوم، يكون التخندق بين ممانع وممانع جديد وخائن ومرتزق ومُتصهين. والخروج من هذه الحالة يتطلب جهدا ذاتيا كبيرا، لأنه يعد خروجا من انكفاء الذات عن نفسها وتمردا عليها. هنا، الذات تهدم نفسها، وتعيد البناء من جديد، ما يتطلب معرفة ووعيا نقديا لما مرّت به الذات، وتمرّ به، فضلا عن معرفة وقراءة منصفة غير متحيزة عن تاريخ عمل الحركات السياسية المقاومة. هذا عن الذات الفردية، والتي يساعد عملها، قادة تلك الحركات، إذ يجب عليهم تقديم خطاب غير مُضلل أو عاطفي جياش للجماهير، بل خطاب واع يحترم عقل الجمهور، يُصارحه بالأخطاء ويدعوه للمشاركة والفعالية في صناعة القرار القادم.