كتاب عربي 21

أشكال من الاندماج: بالكلمة والنار وسواهما

"أفضل وصف لاندماج العربي في الغرب هو التذويب، فالحياة في الغرب شاملة، وتلتهم العادات والتقاليد، لولا قوة طباع العربي النازح التي تأبى الاندماج والصهر"جيتي
شاع في الإعلام مصطلح الاندماج كثيرا بعد "التغريبة السورية"، والتغريبة السورية من التغريبات الكبيرة في التاريخ، وما شاع إلا بعد إدماج الكيان الصهيوني في الجسم العربي. والاندماج يشتمل على رغبة، أما الدمج، فلا محيص منه، ولا مهرب، شرطا للعيش والبقاء في المنافي والمنازح والمغارب. وليست التغريبة السورية أول التغريبات، وكان التغريب عقوبة في الإسلام، ثم صار بعد حكم "المندمجين" المتنكرين الحاكمين في الدول الوطنية المحدثة مثوبة وجائزة.

لا تتحصل الهجرة إلى المنافي المختارة إلا بشق الأنفس، من بيع للدار، ومشاق في البر، وأخطار في البحر. والاندماج في المجتمعات الأوروبية بتعريفه الشائع عملية طويلة المدى، هدفها المشاركة المتساوية والشاملة للمهاجرين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في بلاد الملجأ -والمساواة صعبة- أما صفة "الشاملة"، فالغرب يحبها، وتشرط بلاد اللجوء على اللاجئين للاندماج، لواصق وصموغا مثل؛ تعلم طبقة من اللغة، والعمل، واحترام القوانين، واتباع أعراف المجتمع بإحسان.

تطرح بلاد المغترب الأوروبي شروطا قاسية للإقامة، أما الجنسية فشروطها أشد. الاندماج يقابله الائتلاف، والتأديم عربيا، والتأديم اصطلاح عربي مأثور ذكر في سياق الخطبة بغاية الزواج، وهو إيقاع الأدم بين الشخصين: يكون بينهما الألفة والمحبة. الأدم والإيدام هو الإصلاح والتوفيق، من أدم الطعام، وهو إصلاحه بالإدام، وجعله موافقا للطاعم، وهو من أبينا آدم. وكان اللاجئون -مسلمين وغير مسلمين- يفدون إلى عواصم المسلمين، فيأتدمون بسرعة من غير شروط (حي المهاجرين في دمشق مثلا، وقد صار من أفضل الأحياء وأغلاها وأعزها، وبه قصر المهاجرين من قصور الرئاسة).

أما أول تغريبة معاصرة معروفة، فهي تغريبة الترك وتشريدهم عن دينهم وأصولهم بعد سقوط السلطنة العثمانية، وبدأها مصطفى كمال أتاتورك، بتهجير الشعب التركي روحيا ونفسيا وعقليا، وتشريده عن دينه ولغته وحرفه وعاداته وتقاليده بالإكراه، وهي أشقى أنواع الهجرة الذاتية. وبلغ التغريب والإدماج ذروته في زرع الكيان الصهيوني في صدر الديار العربية، قلبا صناعيا، والزرع قابله نزع، واستبدال عضو أصلي بعضو صناعي، وما معركة طوفان الأقصى إلا صرخة فلسطينية لرفض الدمج، والخلع.

الدمج أضراب وأصناف؛ دمج الأفراد، وهو ما جرى للاجئين العرب وغير العرب في أوروبا، وكان اللجوء إلى الغرب لغير الفلسطيني نادرا حتى أواخر الستينيات، ثم صار غاية في بلاد الربيع العربي، ومنه ضرب من الاندماج اختياري، صمغته الهوى، كاندماج نخبة من المثقفين أشهرهم أدونيس، رموزهم الشعرية إغريقية وأهواؤهم أوروبية، إن لاموا إسرائيل على قتلها الشعب في فلسطين لم يستثنوا من اللوم حماس، وعزوا إليها الأسباب، وقد أبدوا رضاهم عن حركة حكمت الهجري الدرزية، وأعلنوا ولاءهم له!

وضرب ثان؛ دمج الدول القومية والوطنية، وهو ما وقع للدول العرب في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وضرب ثالث، وهو دمج الكيانات السياسية في الدولة المحدثة، ويقابله نزع يضاده ويشاكله، كاستئصال الإخوان المسلمين من المجتمعات العربية، مثل دمج الأحزاب السورية في الجبهة الوطنية التقدمية، كما في سوريا البعثية الأسدية.

ويشرط في زرع العضو في الجسم البشري عدة شروط، أولها حاجته إليه قبل الزرع، وشرط العمر (البلوغ)، واختبارات الدم، وخلو الجسم من الأمراض الجسيمة والنفسية (التي تنتقل عبر الدم)، وهو ما لم يكن يؤمن به فريق من المتعلمين اليساريين قبل فترة وجيرة، ومثل هذه الشروط أو أقل منها تشترط في زرع مجتمعات دخيلة، وقد سعينا، مواطنين أو رعايا، للاندماج في دولنا الوطنية الناشئة، بعد تولية حكام غرباء تسللوا إلى الحكم، من الأقليات الدينية ربما، وأوهمونا باندماجهم فينا، فقضينا أعمارنا نعيش بشخصيتين، جيكل وهايد أو "جو ومحمد".

ويسعى الكيان المزروع في أرض اللبن والعسل للاندماج بطريقته، من غير أن يتغير قيد أنملة، إنما غيّرنا نحن لنكون مثله، وهو في خطابات الاندماج والتطبيع يقول: منكم المال ومني العقل، وهو يحافظ في مسيرة الاندماج والتطبيع على حصونه وأسواره (التي يسميها إعلامه بالجدران العازلة، تلطيفا) وقبابه الحديدية البرية والجوية والنفسية.

وقد فزعت الحكومات العربية المندمجة في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية من فوز محمد مرسي بالرئاسة بعد ثورة يناير، بفزع الكيان الصهيوني المزروع من فوزه، كأنه جسم دخيل غير متوافق مع الحكومات العربية المتجانسة معها، فعملوا متعاضدين متكافلين متراحمين -لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس- على نزع مرسي، وقد فعلوا. وهم يمنعون اندماج الحكم السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع، مع ما يبذله من جهد لا يخفى في الاندماج في النظام العالمي والتوافق مع العضو المزروع في فلسطين، بل وصيانته أيضا، بتعلم اللغة السياسية العالمية، وموافقة أزيائه وقوانينه، والتكفل بحماية الأقليات "المختارة"، لكن الكيان يرتاب في شأنه ويرفض أمره، وقد بلغ الكيان الدخيل (كيا بالنار) رتبة من الدمج بالتوافق مع الحكومات العربية المندمجة في الجسم العالمي، بأصباغ التطبيع، وتكميم الإسلام وترويضه بالاتفاقات الإبراهيمية التي بذل فيها جهد عالمي، لجعل الأديان دينا واحدا. إنّ هذا لشيء عجاب!

وتعمل الحكومات العربية التي عاشت مندمجة مع الكيان، الذي يؤلمها جسدها، حتى إذا اشتكى عضو من الكيان الدخيل تداعت له سائر الحكومات العربية بالسهر والحمى، وبلغ من اندماجها معه وبه، أنها تشارك في حصار غزة، وتمنع العرب في التظاهر في عواصمهم ومدنهم من أجلها، حتى أن جلَّ المتضامين في أسطول الحرية، سفينة الضمير التي تحركت قبل أيام لنجدة غزة بالمؤن والطعام هم من الناشطين الدوليين، من المجنسين بجنسيات غربية، ومن غير العرب!

يعاني العرب من صعوبات الاندماج في أوطانهم، ولم يدمج الفلسطينيون دمجا حسنا في بلاد النزوح العربية، فعاشوا في مخيمات على أطراف المدن مع توافقهم في الزمرة الدموية والعادات والتقاليد، فثاروا في غير عاصمة عربية، مثل بيروت، واتُهموا في الكويت بمناصرة العراق، وأُوذوا في سوريا بعد انطلاق الثورة السورية أذى كبيرا.

إن أفضل وصف لاندماج العربي في الغرب هو التذويب، فالحياة في الغرب شاملة، وتلتهم العادات والتقاليد، لولا قوة طباع العربي النازح التي تأبى الاندماج والصهر.

ومن ضروب الاندماج سعي إيران الفارسية الهوى للاندماج في الجسم السني العربي الإسلامي بتزعمها للمقاومة، ففي السيف السؤدد، والبرهان على انتسابها لآل البيت، وهو ما ينكص عنه قادة السنة الذين يكتفون بأصولهم، ملتزمين بشروط الاندماج، لا يحيدون عنه شبرا، وإنما حال المقاومة الفلسطينية التي تسعى جاهدة لنيل رضى القادة العرب، وهم منها يهربون، يشبه حال الأعشى الذي يهوى هريرة ويريد "الاندماج" بها:

عُلَّقتُها عَرَضا وَعُلَّقَت رَجُــــــــلا
غَيري وَعُلَّقَ أُخرى غَيرَها الرَجُلُ

المقاومة علقت بالعرب، والعرب علقوا بالغرب، وإيران علقت بالمقاومة.

x.com/OmarImaromar