الكتاب: أنطونولوجيا الوعي الجمالي عند
سارتر
الكانب: عبد الباسط محمد حاجة
الناشر: تموز ـ ديموزي للطباعة والتوزيع و
النشر-دمشق، الطبعة الأولى 2025، (غدد الصفحات 144 من الحجم الوسط).
يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني
في هذه القراءة الخاصة لكتاب "أنطولوجيا الوعي الجمالي عند سارتر"،
تقديم عرض عميق لأبرز معالم الوعي الجمالي في فكر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر،
مع تسليط الضوء على الأثر الواسع لهذا الوعي في إعادة تشكيل المشهدين الأدبي
والفلسفي المعاصرَين. وفي إطار هذه الدراسة، يربط المديني بين مفهوم الجمال
الموضوعي كما تجلّى في الفلسفات الكلاسيكية – خاصة عند أفلاطون وأرسطو – وبين
الطروحات الوجودية السارترية، التي انطلقت من الحرية الفردية ووعي الذات والآخر،
لتعيد تعريف علاقة الإنسان بالعالم وبقيم الجمال والفن.
من خلال هذا الربط، يستعرض الكاتب كيف
تتقاطع مفاهيم الجمال الموضوعي، التي ترى الجمال كخاصية قائمة في الشيء ذاته بغضّ
النظر عن إدراك الإنسان له، مع أطروحات سارتر التي تقوم على تمييز حاسم بين
"الوجود في ذاته" و"الوجود لذاته"، في محاولة لفهم موقع
الجمال ضمن التجربة الوجودية والوعي الذاتي.
طبيعة الجمال عند الاتجاه الموضوعي
يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن الجمال صفة
حالة في الشيء الجميل، وتنبت في أرجائه بغض النظر عن وجود عقل يقوم بإدراك هذه
الصفة أو تذوقها، فالجميل عند أنصار هذا الاتجاه موضوعي وله خصائص موضوعية مستقلة
عن الذهن الذي يدركها.
أصحاب هذا الاتجاه عارضوا الاتجاه الذاتي
ونقدوه لإهمالهم الموضوعية في الشيء الجميل، ومن ثم عدوا موضوع الجمال مستقلاً
قائماً بحد ذاته وموجوداً خارج النفس، ظاهرة موضوعية مما يؤكد تحرّر مفهوم الجمال
من التأثر بالمزاج الشخصي، وإن للأشياء الجميلة خصوصيات مستقلة كلياً عن العقل
الذي يدركها، فالجميل جميل سواء وجد من يتذوّق هذا الجمال أو لم يوجد، على ضوء ذلك
فالشيء جميل، ولنفترض شجرة أو لوحة فنية، هذه اللوحة جميلة سواء كنا نراها جميلة
أو غير جميلة، ومن يراها غير جميلة بسبب مزاجه الشخصي، الجميل موجود واللوحة موجودة
والأشخاص أحرار في رؤية هذا الجمال أو عدم رؤيته.
بمعنى آخر إن الجميل عند أنصار الاتجاه
الموضوعي متحرر من التأثر بالمزاج الشخصي، وإن للجميل صفات مستقلة عن العقل الذي
يدركها، الجميل يعد جميلاً إذا توفرت فيه صفات معينة سواء وجد من يتذوق هذا الجمال
أم لم يوجد، وإن جمال كائن ما أو أثر فنّي أو أدبي ما يدين بجماله إلى صفاته
الجميلة المتوفرة فيه، وتنتقل صور هذه الصفات إلى عقل المتأمل لها بواسطة التأثير
الضوئي، فينطبع على شبكية العين، لهذا فإنّ المتأمل في الجمال لا يخلق صفات الجميل.
يقول الكاتب عبد الباسط محمد: "ومن
أنصار هذا الاتجاه في الفلسفة اليونانية أفلاطون، أما (ديمقريطس Democritus) (460 – 370 ق.م) فنجده يؤكد على العنصر
الموضوعي أول فيلسوف يوناني نظر إلى الجمال نظرة موضوعية مادية، فالجمال هو عنده
انتظام أجزاء الأشياء المادية وتناسبها، وأهم خاصة للجميل هي الاعتدال، هكذا يؤكد
أن للجمال أسساً موضوعية وأن جوهر الشيء الجميل يكمن في البناء المنتظم وفي
التناسب، بذاته ومستقل عنا ومتحرر من التأثير بالمزاج الشخصي، نجده يجعل للجمال
مثالاً بالذات، والمثل عند أفلاطون هي أسس الموجودات وهي أصول الأحكام وهي الحقائق
المثالية، أي هي التي تقوم على أساسها الموضوعية في عالم الحس ينادي بموضوعية
الأحكام الجمالية، ويؤكد أن إحساس الفنان بالجمال يعتمد على العنصر الموضوعي وليس
على ذاته، من هنا فإن سمة الجمال التي تؤسس مفهوم الجميل وطبيعته إنما تستمد
أصولها من العالم العلوي من مثال الجمال، فالجمال الحقيقي هو ما يصدر عن الحقيقة
أو عالم المثل.
إن الجميل عند أنصار الاتجاه الموضوعي متحرر من التأثر بالمزاج الشخصي، وإن للجميل صفات مستقلة عن العقل الذي يدركها، الجميل يعد جميلاً إذا توفرت فيه صفات معينة سواء وجد من يتذوق هذا الجمال أم لم يوجد، وإن جمال كائن ما أو أثر فنّي أو أدبي ما يدين بجماله إلى صفاته الجميلة المتوفرة فيه، وتنتقل صور هذه الصفات إلى عقل المتأمل لها بواسطة التأثير الضوئي، فينطبع على شبكية العين، لهذا فإنّ المتأمل في الجمال لا يخلق صفات الجميل.
وكذلك أرسطو الذي ينظر إلى الجمال نظرة
موضوعية، إن الجمال صفة لها وجودها الخارجي والموضوعي، فالعقل يدرك الجمال بخصائص
موضوعية معينة في الموضوع الخارجي أو في العلاقات التي بين أجزائه وذلك نتيجة
اعتماده على كم معين وحجم معين ونسق محدد، وإن من أهم صفات الجميل: الترتيب،
التناسب، الوضوح، إذا الجمال الأرسطي موضوعي، يتمثل فيما يتصف به الشيء من ترتيب
وتناسب، ويؤكد أن الواقع الموضوعي هو أساس التصورات والانفعالات والأحاسيس
الفنية"(ص29).
الوعي الجمالي وأبعاده عند سارتر
يُعَدُّ سارتر قائدًا لتيار فلسفي وأدبي،
يعتمد على الحرية الفردية والمسؤولية، وتؤكد هذه الفلسفة التي يكون فيها أساساً
لأي تغيير وتطور على مصير الفرد وحريته.ويخطئ من يعتقد أنّ هناك مذهباً قائماً
بذاته يسمى الوجودية، إذ لا وجود لغير وجوديات مختلفة تشترك في بعض العناصر، وتسمى
بأسماء الفلاسفة الذين ابتدعوها، يمكن القول: إنَّ هناك وجودية هيدجر، وجودية
يسبرز، وجودية سارتر، وهنا نتساءل هل الفلسفة الوجودية نزعة تتخذ من الوجود
الإنساني محوراً لها؟ إنَّ الفلسفة الوجودية تجعل من الإنسان محوراً للدراسة، على
اختلاف الفلسفة القديمة. فالإنسان في الفلسفة القديمة موضوع علم بينما في الوجودية
هو موضوع تجربة، ونقطة البداية في الوجودية هي التجربة العينية الحية التي يعاينها
الإنسان. إذا الإنسان هو محور البحث والدراسة.
أرادت الوجودية بفكرها أن تحرّر الانسان
وتجعله يعيش واقعه دون أن يشعر بالقلق والخوف من المستقبل، لذلك كان الإنسان موضع
اهتمامها، وفضلاً على ذلك فإن الوجودية تنقسم إلى تيارين متعارضين، فنقول إنَّ
هناك وجودية مؤمنة ووجودية ملحدة، أما التيار الأول: فهو وجودية تؤمن بالدين، وقد
نشأت في أحضان الكاثوليكية ، وهي التي تبدأ بتأملات كير كيجارد الدينية، وتضع
الإنسان في علاقة مباشرة مع الله، ويمثل هذا التيار كير كيجارد ويسبرز، أما التيار
الثاني: فهو يزعم هذا الاتجاه سارتر، وهو الشخص الذي تنسب إليه الوجودية الحديثة،
ربما الفلسفة الوجودية كلها، الاتجاه الثاني هو الإلحاد يبدأ بإعلان نيتشه عن موت
الله ويمثل هذا الاتجاه نيتشه وهيدجر وسارتر.
ومن الزاوية الأدبية الخالصة تعد الوجودية
من أحدث المذاهب الفلسفية، وأهم حركة فكرية تركت أثرها في الأدب المعاصر في أوروبا
وفي أرجاء أخرى من العالم، وهي أصدق تعبير عن حالة القلق الذي تملك العالم الشعور
الحاد به بعد الحرب العالمية الأولى والثانية وقد كان للوجودية الفرنسية الحديثة
بوجه خاص رأيها المتكامل في الأدب، على نحو ما ظهر في كتاب جان بول سارتر ما الأدب.
يقول الكاتب عبد الباسط محمد :"الوجودية من أهم
الحركات الفكرية التي تهتم بالقيم الإنسانية، وهي بلا شك من أكثر فلسفات القرن
العشرين شهرة وشعبية، لأن موضع اهتمامها ودراستها هو الإنسان والوجود الإنساني، إذ
تعلي من قيمة الإنسان نتيجة ما أصاب الإنسان عقب الحرب العالمية حيث عاش الإنسان
في القرن العشرين في أزمة الحربين العالميتين، حيث ولدت لديه مشاعر العبث
والغثيان، وكان لابد من وجود هذا المذهب للتأكيد على الإنسان، من هنا كانت مشكلة
الإنسان وتخليصه مما هو عليه هي مسألة مهمة الوجودية لم تكن نتيجة مباشرة لأية
ظروف أو أسباب محددة، بل كانت رد فعل لانهيار الكثير من الأنظمة في العالم الغربي،
وجاءت ردا على الأوضاع التي دمرت الإنسانية والظروف التي ولدت لدى الإنسان
الأوروبي ولا سيما الإنسان الفرنسي مشاعر الخوف والقلق والغثيان، هذه الظروف التي
راح ضحيتها الملايين من البشر، وقد جاءت لتأكيد وجود الإنسان وفرديته ووعيه في فعل
الوجود، أنت للبحث في مشكلة الإنسان وتخليصه من هذه الأزمة أخذت الحركة الوجودية
تنتشر باسم سارتر، ولكن السؤال ما الذي جعلها تأخذ بالانتشار مع اسم سارتر وليس
باسم فيلسوف وجودي آخر؟"(ص 42).
تدين الوجودية بشهرتها وذيوع صيتها في
الأوساط الأدبية إلى الفيلسوف الفرنسي الراحل جان بول سارتر، لأنه لم يكتف
بالتعبير عن فكره الفلسفي في كتب ومقالات وأبحاث فلسفية، كما فعل الفلاسفة
السابقون نيتشه وهيدجر ويسبرز، بل كان يجسد هذا الفكر أيضاً في روايات ومسرحيات
بمعنى أن اهتمام هذا الفيلسوف الفرنسي انصب على المشكلة الإنسانية بتجسيد فكره في
الأعمال الروائية، وأصبح الإنسان يأتي بالمرتبة الأولى، وأخذ يتفاعل مع وجوده وهذا
الأمر هو الذي جعل الوجودية المعاصرة تنتشر انتشاراً واسعاً جعلها تحتل مكاناً
مهماً في الفكر المعاصر لم يحتله مذهب من قبل.
يتجه معظم الفلاسفة الوجوديون إلى تصوير
فلسفتهم بروايات ينشرونها حيث تتجسد الأفكار بالشخصيات الحية وتصرفاتها لتنصرف
الفلسفة من كتابات جافة نظرية إلى تجسيم حي يتمثل بشخوص يتصرفون بتصرفات إنسانية
اعتيادية، إذ عمل الوجوديون على توظيف أفكارهم وآرائهم الفكرية الفلسفية في
الأعمال الأدبية والتعبير عنها من شخوصها، وعلى رأسهم سارتر، المفكر الأكثر شهرة
وسط الحركة الوجودية، لقد شاع لفظ هذا المذهب بالاقتران مع اسم سارتر ؛ لأنه
الفيلسوف الوحيد من كل الفلاسفة الذي قبل أن يصف اتجاهه الفكري بالفلسفة، وبما أنه
آخر الفلاسفة الوجوديين فقد استفاد من ثمارهم الفكرية.
وقد أخذ مذهب سارتر بالانتشار بكتاباته
وأعماله التي تؤكد الوجود الإنساني والتي تدور موضوعاتها الأولى حول الفرد بوصفه
ذاتاً واعية والإحساس بفقدان المعنى وعبثية الحياة وعدمية الوجود الإنساني والقلق
والاكتئاب الذي يملأ الحياة الإنسانية، تتجلى هذه الموضوعات الفلسفية في أعماله،
فتظهر أفكار العدمية، وبطلان الحياة وجهالة المصير هادفاً إلى تخليص الإنسان من
مشاعر القلق والعبث، وهذا ما أكده أيضاً في مؤلفه الوجودية مذهب إنساني قائلاً إنّ
الفلسفة الوجودية هي مذهب يجعل الحياة الإنسانية مختلفة، مذهب يؤكد على كل حقيقة وكل
عمل، يستلزمان بيئة معينة وذاتاً إنسانية الوجودية السارترية تؤكد وجود الإنسان
وذاتيته وفرديته، فهي تضع الإنسان مواجهاً لنفسه، لذلك المبدأ الأول والرئيسي الذي
تقوم عليه هذه الفلسفة ألا وهو أسبقية الوجود على الماهية، ولكن ما المقصود بذلك؟
إن الجميل عند أنصار الاتجاه الموضوعي متحرر من التأثر بالمزاج الشخصي، وإن للجميل صفات مستقلة عن العقل الذي يدركها، الجميل يعد جميلاً إذا توفرت فيه صفات معينة سواء وجد من يتذوق هذا الجمال أم لم يوجد، وإن جمال كائن ما أو أثر فنّي أو أدبي ما يدين بجماله إلى صفاته الجميلة المتوفرة فيه، وتنتقل صور هذه الصفات إلى عقل المتأمل لها بواسطة التأثير الضوئي، فينطبع على شبكية العين، لهذا فإنّ المتأمل في الجمال لا يخلق صفات الجميل.
إن الوجود هو القيمة الأولى لدى الإنسان إذ
لا قيمة للفرد دون وجوده الإنسان يولد أولاً ثم يتعرف إلى نفسه ويحتك بالعالم
الخارجي فتتكون لديه صفاته، ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده، فإذا لم يكن
للإنسان في بداية حياته صفات محددة فذلك لأنه قد بدأ من الصفر، ولن يكون سوى ما
قدره لنفسه يذهب سارتر في المبدأ الأول إلى القول بأنّ الوجود سابق على الماهية،
والمقصود بذلك أنه ليس هناك ماهية للإنسان خلقها الإله قبل وجوده، الإنسان يوجد في
البداية ومن ثم يتعرف إلى نفسه ويحدد ماهيته، الأمر كله مرهون باختيار الإنسان لما
يريد، لأن وجوده سابق على ماهيته، وإن اختيارنا للماهية يعني أننا نختار الشخصية
التي نريد أن نكونها، الفرد في البداية لا يكون له أية طبيعة أو ماهية كما كان عند
الفلسفات المدرسية والمثالية، فالإنسان هو الوحيد الذي يولد دون طبيعة عكس كل شيء.
يجد الوجودي نفسه أمام الوجود مباشرةً وقبل
أي تحديد، ولا يتحول الوجود إلى كينونة إلا بالإنسان، فالوجود سابق على الماهية،
لقد اعتادت الفلسفات المدرسية والمثالية أن تضع الماهية أولاً ثم الوجود إذاً لا
تتحدّد ماهية الإنسان قبل وجوده، بل يوجد أولاً ومن ثم يصنع لنفسه ما يشاء، إنه
مشروع يتميز بالتعالي على وضعيته ليس بانغلاقه على كينونته، بل بانفتاحه على
العالم وعلى الآخرين، الإنسان يوجد أولاً وبلاقي نفسه وهو غير حامل لأية صفة أو
ماهية، بعد ذلك يشرع في تأسيس ذاته عن طريق اختياره الحر.
يقول الكاتب عبد الباسط محمدبأنَّ سارتريؤكد
:"أنَّ كل فرد وصياً على نفسه، بمعنى أن كل فرد مسؤول عن نفسه، ومسؤول عن
اختياره وعليه أن يتحمل نتيجة اختياره، ليس مسؤولاً عن نفسه فقط، وإنما عن بقية
الناس أيضاً، لأن الإنسان عندما يقوم باختيار شيء ما، لا يختاره لنفسه، وإنما
للإنسانية جمعاء، لأن القرار الذي يتخذه أو اختياره لنفسه يمس جميع الناس، الإنسان
حينما يختار نفسه هو في الوقت نفسه يختار لسائر الإنسانية، إذ إنّ اختياره لهذا أو
ذاك تأكيد في الوقت نفسه على قيمة الشيء الذي تم اختياره، لأننا لا نختار أبداً ما
نؤمن أنه شر، وإنما نختار دائماً ما نعتقد أنه خير، ولا يمكن أن يكون خيراً لنا
دون أن يكون خيراً للإنسانية، ومن ثم فالإنسان ملزم بالمسؤولية. إذن باختياري لما
أريده تتشكل صورة للإنسانية بأكملها، فما دام الإنسان في بدء وجوده ليس شيئاً،
ومادام هو من يصنع نفسه، فهو حر، بل هو الحرية نفسها، وبهذه الحرية يخلق الإنسان
نفسه، لهذا كان تمجيد الفعل من الركائز الأساسية في هذا المذهب (ص 47).
يرى سارتر أن هناك نوعان منفصلان تماماً من
الوجود أو نطاقان للوجود يظهران داخل الوعي، فهناك وجودي أنا نفسي كوعي، وهناك
وجود ما هو مغاير لذاتي، وهو وجود الموضوعات التي أدركها، الوجود لذاته الوجود في
ذاته، أما الوجود في ذاته فإن أبرز ما يظهر من هذه المبادئ هو النبذ الحاسم لمذهب
أرسطو في حالة ما بالقوة، ولا يوجد شيء بالقوة، حيث يرى أنه ليس هناك في الوجود
ولا يمكن أن يكون هناك أية إمكانية، أية قوة بالمعنى الأرسطي نجده لا يعترف بالوجودية في حالة القوة، فهو
يرى أن كل شيء يكون بالفعل، ولا يوجد عنده شيء بالقوة، فالوجود في ذاته، ليس
فاعلاً وهو وجود الأشياء والعالم، وجوده صلب لا شعور ولا إحساس، يتضمن صوراً لواقع
اللاوعي، وهو وجود موضوعات الوعي، ووجود الأشياء، ونحن نعد الأشياء التي تكون
موضوعات للوعي موضوعات مستقلة عن الوعي وواقعية بشكل مستقل أو كأشياء في ذاتها،
إذا الوجود في ذاته، هو وجود الموضوعات ووجود الأشياء، ويقوم معتمداً على ذاته لا
أكثر، قذف به إلى العالم، فهو في هوية مطلقة مع ذاته.
أما الوجود لذاته، فهو الوجود الإنساني، وهو
وجود الذات والأنا، وهو من يستطيع تحديد ماهيته لأنه يتمتع بالحرية، هو الوجود
الإنساني الواعي، حيث يتميز الإنسان بالوعي، والقدرة على الوعي بالنفس، ومن أهم
خصائص هذا الوعي الإنساني أنه قصدي، فهو دائماً وعي بموضوع، فالوجود لذاته هو
الوجود الإنساني الواعي، أي الوجود المتبوع بوعي الذات لذاتها وإدراكها لوضعها في
العالم، فهو موجود متغير متحرك، قوامه الوعي والشعور، إذ يفرق سارتر بين الإنسان
وبين الكائنات الأخرى، حيث يجعل من الإنسان الكائن الوحيد الذي يحس بوجوده، وهو
الوحيد الذي يستطيع تحديد ماهيته واختيار طريقه ومستقبله لأنه إنسان حر إذا كان
الإنسان حراً فذلك لأن من شأنه باستمرار أن يخرج عن ذاته، ويعلو على نفسه، ويفترق
عن ماضيه، فلا يكون في وسعنا مطلقاً أن نحدد ماهيته أو أن نقول عنه أنه عين ذاته
وهذا ما يجعل الإنسان متميّزاً من باقي الموجودات، فالإنسان أي الموجود لذاته لا
يكف عن خلق نفسه بهذه الحرية، فالحرية هي عين وجودنا.
وهناك نمط آخر من الوجود هو الوجود للآخرين
أو الوجود لأجل الآخر: وهو الشعور ولكن منظوراً إليه من حيث علاقته بالمشاعر
الأخرى، أي من وجهة النظر الاجتماعية والوجود مع الآخرين إن الأنا الخاص بي يتحول
إلى شيء أو موضوع، نتيجة وجود الآخر، فالآخر هو سجن الأنا، وفيه تعلن عن وجودها
الزائف، زائف لأن الآخر يسلبني حريتي إن العلاقات مع الآخر جوهرية وضرورية
للإنسان، ويعلن سارتر أنه ليس لنا دوافع جنسية لأننا نحمل أعضاء جنسية، إنما العكس
هو الصحيح فالإنسان له أعضاء جنسية لأن الإنسان في ماهيته موجود جنسي، أي إنه
موجود لأجل الآخر.
إذن فلسفة سارتر فلسفة مفتوحة على الآخرين،
أي أنها تعترف بوجود الآخر، والنظرة هي التي تكشف لي عن وجود الآخر، فقد كشف عن
ذلك تحليله لمسألة الوجود من أجل الآخر بأن الوجود المرئي يعني أن كينونة الواحد
تتحدد دائماً بوجود الآخرين، فحتى يعرف الفرد نفسه فلا بد له من آخر، فالآخر شرط
لاكتشاف الذات، ففي شعوري بالخجل مثلاً، أخجل من نفسي أمام الآخر، وحين أرتكب
عملاً شائعاً دون أن يراني أحد، قد لا أخجل ولكنني عندما أتخيل أن هناك شخص قد
يراني ما فعلت، ينتابني الخجل، فالخجل إما أن يكون أمام الآخر مباشرة وإما أمام
الآخر بالتخيل، فهو مرتبط دائماً بشعور المرء أنه مرئـي مـن الآخر، فالآخر هو من
يسبب الخجل، ولولا وجود الآخر ونظرته إلينا لظل شيئاً من بين الأشياء لا يمتاز
عنها بشيء، أيضاً بنظرته إلى يحيلني إلى عالمه كموضوع للنظر، إذن وجود الآخر هو
دائماً في حالة صراع مع وجودي، والخطأ الأكبر هو وجودي في عالم يوجد فيه الآخر،
وهذا ما قصده سارتر بعبارة الآخر هو الجحيم التي تجلت في عمله المسرحي جلسة سرية
فالآخر هو من يسلبني عالمي، عندئذ تنتفي الحرية نتيجة لوجود شخص آخر يقوم بتقييدي
ويحد من حريتي.
الأدب الفلسفي السارتري وتأثيراته
مع نهاية الحرب العالمية الأولى والثانية،
استيقظ المثقفون والأدباء على واقع جديد فرضته الحرب، التي كان من نتائجها القتل
والدمار وكبت الحريات العامة للإنسان، ولا سيما الإنسان الفرنسي، وفي ظل عملية
البحث عن الحرية جاء الأدب الوجودي السارتري ليشكل قوة تتصدى لمعالجة ما يسمى
بالمشاكل الوجودية بوصفها مشاكل إنسانية، ترتبط بالوجود الإنساني، الموت، الحياة،
المعاناة، وحالات الاغتراب، حيث ركزت التجربة الوجودية اهتمامها المباشر على
الإنسان بوجوده البشري، وتجربته الحية بوصفها الوسيلة المثلى التي يعرف الإنسان
العالم عن طريقها، ويوصفها تعد ثورة حقيقية على نظرية المعرفة.
جاء الأدب السارتري في المدة التي أعقبت
الحرب العالمية، صورة معبرة عن الحياة الفرنسية وإنسانيتها، وعاملاً في الوقت ذاته
على انحلال هذه الحياة بمعنى أن أدبه يجعل من الإنسان القيمة الوحيدة المطلقة، في
ضوء ذلك ظهر عدد من الأدباء الذين تبنوا مناقشة القضايا الوجودية الإنسانية في
كتاباتهم، وكان من بينهم، جان بول سارتر، حيث تؤكد أعماله الأدبية الوراية والمسرح
والقصص على العلاقة بين الفلسفة والأدب، باعتبار أن الفلسفة والأدب تيارين فكريين
مرتبطين ببعضهما ولا يمكننا على أحدهما عن الآخر، فالفلسفة والأدب كلاهما يهدف إلى
البحث عن الحقيقة، وكلاهما يتخذ من الإنسان محوراً له، وإن كانت الفلسفة قديماً
محورها الرئيسي هو الطبيعة، إلا أننا نجد اليوم بأن الفلسفة الحديثة كان محور
اهتمامها الرئيسي هو الإنسان، وجوده، مصيره، وحريته في هذا العالم، كما سيتضح لنا
في الأدب الوجودي هكذا نجد أنه لم يقتصر على فلسفته فقط، بل ذهب إلى أدب الرواية
والمسرح، حيث وجد فيه خبر وسيلة للتعبير عن فلسفته الوجودية، الأعمال الأدبية تؤكد
أن الفلسفة والأدب، في علاقة مترابطة، الأدب عبارة عن طريقة أو وسيلة لكي يحقق
انتشار أكبر لوجوديته، ومن ثم تكون سهلة على الجمهور والقراء.
جاء الأدب السارتري في المدة التي أعقبت الحرب العالمية، صورة معبرة عن الحياة الفرنسية وإنسانيتها، وعاملاً في الوقت ذاته على انحلال هذه الحياة بمعنى أن أدبه يجعل من الإنسان القيمة الوحيدة المطلقة،
أما فيما يخص المدرسة الوجودية فقد اعتمد
الفلاسفة الوجوديون على الأدب والأعمال الأدبية، للتعبير عن أفكارهم الفلسفية،
يعكس نتاج سارتر الأدبي الغزير تطور الكاتب فكرياً وفنياً في آن معاً، إذ يصير
الأدب أداة للتعبير عن مواقفه الفلسفية والسياسية، فيحقق لها تأثير أكبر في دائرة
أوسع من القراء والمشاهدين إذ يعمد إلى التعبير عن أفكاره الفلسفية من خلال
المواقف المسرحية والرواية، الرواية والمسرح كثيراً ما كانت وسيلة التعبير المفضلة
في عرض الآراء الفلسفية، لغاية أو السبب الذي جعل الفلسفة تدخل في علاقة مترابطة
مع الأدب، هو اهتمامه بالإنسان وقضاياه، الوجود الإنساني، مسائي المصير الشخصي،
القلق، علاقة الأنا مع الآخر، من هنا بدأت الفلسفة تلتقي مع الأعمال الأدبية، لأن
الموضوع الرئيسي كما تجلى في فلسفته هو الإنسان، وما القرابة الحقيقية التي تجمع
بين الفلسفة والأدب، في تلك التي تتمثل في اهتمام كل من الفيلسوف والأديب بمصير
الإنسان، ومواقفه البشرية، وقيمه الأخلاقية وصراعه ضد شتى القوى الإنسانية...
وقد جسد ذلك بأعماله الأدبية، حيث عمل على
مزج الواقع الفرنسي الأليم المملوء بالحرب والدمار بمغامرات أبطاله، وتأملاته
الفلسفية، إذن ربط بين الفلسفة الأدب، الرواية السارترية رواية تربط الأدب بالوجود
إن الرواية بدأت تقدم صورة واقعية عن الإنسان تصوره لنا في إطاره الاجتماعي أو
أهوائه ورذائله، وشتى مظاهر نقصه، وتجرده من وظائفه الاجتماعية لكي تضعه وجهاً
لوجه أمامنا على نحو ما هو في صميم علاقاته بذاته وبالعالم وبغيره من أبناء هذا
العالم ۳، بمعنى أنه لم يكن هنالك خط فاصل بين
الفلسفة والأدب. الروايات الأدبية أصبحت مع روايات فلسفية لأنها تناقش مشكلات
ميتافيزيقية في سياق روائي، فتقدم لنا مزيجاً من الأدب الفلسفي، فهما أي الأدب
والفلسفة لا يختلف أحدهما عن الآخر من حيث عملية الإبداع بقدر ما هما يعدان نوع
واحد أصله العملية الفكرية الحسية التي اعتمدت اللغة كأداة للتعبير، لهذا يحاول
التعبير عن الوجود الإنساني في جميع مظاهره من العلاقة التي تربط الإنسان بالعالم،
وهي تلك العلاقة التي يقولون عنها أنها في صميمها فعل وعاطفة، قبل أن تكون فكراً
وتصوراً وقد فضل الوجوديين باستمرار القصة والمسرحية لطرح المشكلات الإنسانية
والميتافيرزيقية، وكثيرون منهم تجنبوا البحث النظري الفلسفي المباشر لأن العلاقة
التي تربط الإنسان بالعالم هي في صميمها فعل وعاطفة قبل أن تكون فكراً وتصوراً
والرواية التي تسمح للفيلسوف بأن يقف على الانبثاق الأصلي للوجود في حقيقته
الكاملة النوعية التاريخية، إن المزاوجة بين النثر القصصي والفلسفة مزاوجة واعية
ومتعمدة وناتجة عن تصور الوجوديين المرن للحقيقة الإنسانية، إذن الفكر السارتري لا
يريد أن يعبر عن نفسه بالأعمال الفلسفية، بل اختار الأعمال الأدبية الروائية
والمسرحية وحتى الأفلام السينمائية، حيث التمس فيها تعبيراً جمالياً عن جميع مظاهر
الإنسان ووجوده، إن السر في تقرب الفلسفة من الأدب، إنما هو اهتمام سارتر بالعودة
إلى الإنسان وحرصه على الرجوع إلى التجربة البشرية بما فيها من عمق وواقعية وثراء
الأدب هو تعبير وتمثيل للبعد الوجودي في فلسفة سارتر.