كتب

علوم العرب القديمة وقضاياهم المعاصرة بعيون أبرز العقول العربية المهاجرة

الإسلام ليس مجرد دين، إنه ثقافة عريقة تمتد إلى خمسة عشر قرنا تحققت فيها الكثير من الاكتشافات.
الإسلام ليس مجرد دين، إنه ثقافة عريقة تمتد إلى خمسة عشر قرنا تحققت فيها الكثير من الاكتشافات.
الكتاب: محادثة مع رشدي راشد في الرياضيات، في تاريخ العلوم وفي العالم العربي الإسلامي
الكاتب:  ديديي غازانيادو، ترجمة وتقديم د. يوسف بن عثمان مراجعة رشدي راشد
الناشر: منظمة المجتمع العلمي العربي، إنجلترا ويلز ومؤسسة الربان للدراسات والبحوث، الدوحة- الطبعة الأولى،  2025.
عدد الصفحات: 190 صفحة

ـ 1 ـ

هذا الكتاب حوار مطوّل أجراه أستاذ الأنثروبولوجيا ديديي غازانيادو، مع الأستاذ الباحث في فلسفة العلوم رشدي راشد، سلّط فيه الضوء على  حياته الخاصة وعلى مسيرته العلمية والفكرية. وفضله يتمثّل في كونه قدّم لنا قامة علمية عربية لا نكاد نعرف عنها الكثير من جهة نشأتها في القاهرة أو من جهة طلبها للمعرفة في الجامعات الأوروبية ثم إسهامها في إنتاجها هناك.

نشأ رشدي راشد صاحب الأصول القروية واليتيم الأب، ضمن عائلة تقليدية يرعاها جدّ مثقف، حاصل على الدكتوراه من جامعة الأزهر. وخوّل له تميّزه بين أقرانه أن يختتم دراسته الجامعية في مصر بالحصول على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة القاهرة بتفوّق والحصول على منحة للدراسة في فرنسا. وهناك أحرز على البكالوريوس في الرياضيات من جامعة باريس ثم على درجة الدكتوراه في تاريخ الرياضيات وتطبيقاتها.

ولأنه يرفض العيش في بلاد لا تحترم معنى المواطنة ويتبنى مواقف فكرية وسياسية لا ينظر إليها النظام بعين الرضا عاش مغتربا. فانخرط بصفته باحثا، في أهم مراكزها البحثية كالمركز القومي الفرنسي للبحث العلمي ثم تولى إدارة بعضها كمركز الأبحاث في معهد تاريخ العلوم والفلسفة في باريس أو أبحاث الابستمولوجيا وتاريخ العلوم في جامعة دنيس ديدرو ـ باريس أو مركز الفلسفة والعلوم والفلسفة العربية للعصور الوسطى وأسّس فريق بحوث الابستمولوجيا وتاريخ العلوم والمعاهد العلمية. وأشرف على موسوعة تاريخ العلوم العربية التي صدرت في لندن ونيويورك طبعتها الأولى في 1996م وحرّر بنفسه بعض مداخلها. وبديهي أن يكون الحصاد العلمي وفيرا. فقد نشر أكثر من ثلاثين كتابًا في مجالات تخصصه الدقيق ووجد الاعتراف العالمي فنال الجوائز الكبيرة والأوسمة التقديرية.

ـ 2 ـ

مثلت دراسته للهندسة الكروية وعلم الفلك وبحوثه في الرياضيات التحليلية وفي فلسفتها وتطبيقاتها في العلوم الاجتماعية أُسس مشروعه العلمي. ومثّلت نظرية الاحتمالات قطب الرحى منه. ولعلّه تأثر بهاجس الفلسفة الوضعية التي كان لها وقع على مختلف مناحي الحياة المعاصرة وبسليلتها، البنيوية من بعد. فاشتغل على موضوع ترييض النظريات غير المهيأة، ويقصد بالمصطلح شكلنة العلوم الإنسانية رياضيا ضمن نظريات وقواعد.

لا يجد رشدي راشد في هزيمة 1967 هزيمة عسكرية بقدر ما يفهمها باعتبارها هزيمة ثقافية وحضارية. فمن الجانب العربي يُرجِع سببها إلى خلل في التعاطي مع العلم والحرية السياسية والديمقراطية. وبالمقابل فمن خلقوا إسرائيل، هم في معظمهم يهود أوروبيون بل وأمريكيون وهم بالأساس أشخاص من ذوي الثقافة والعلم. أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل قد احتضنت عددا مهولا من العلماء السوفييت. والتوازن الذي يحفظ الحقوق يقتضي وجود دول عربية تقدمية، واعية ثقافيا، تستثمر في العلم وما ينتج عن العلم. وهذا غير موجود في زمننا الحالي.
وعمل على تطبيق الرياضيات في العلوم الاجتماعية. وكانت غايته أن يفهم طبيعة عمل العلوم الاجتماعية ودرجة موضوعيتها وأن يجيب عن بعض الأسئلة الحارقة حينها. فقد كان الاختلاف قائما حول طبيعة هذه العلوم، هل هي علوم حقيقية أم إيديولوجيا خالصة وبسيطة، وحول مدى قابلية تلك العلوم للشكلنة الرياضية. ومن هنا نشأةُ ما اصطلح عليه بعلم الاحتمال. والمراد به حساب الاحتمالات بما هي حسابات مطبقو في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.

ـ 3 ـ

انتهى البحث برشدي راشد إلى أنّ النظرية الاجتماعية ذاتها لم تتبلور بشكل كاف. فهي ليست محكمة الترابط كفاية لتقبل تشكّلا رياضيا. وقدّر أننا لا نتوفر بعدُ على نظرية في العلوم الاجتماعية تقبل أن تُلبس، بالمعنى الصارم للكلمة، الرياضيات، وإنما توجد إيديولوجيات ليبرالية خاصّة تهيمن على كل الدراسات وتوجه نتائجها العلمية لفائدتها، وتعيق بالنتيجة كل محاولات ترييض العلوم الاجتماعية. وهذا ما جعله يتفق مع كلود لفي شتراوس في رأيه القائل بكونه "لا يشعر بأي ضيق في الاعتراف بأنه ليس بوسعنا أن نزعم وجود تكافؤ حقيقي بين هذه العلوم والعلوم الدقيقة والطبيعية".

ومثلت دراسته لعلوم الرياضيات العربية ولتطبيقاتها في مجال البصريات مجال اهتمامه الثاني. فبحث في فكر كبار العلماء العرب واعتنى بتحليل أعمالهم ونزّلها في سياقاتها الحضارية. وسعى من خلال البحث في تاريخ العلوم العربية وفي فلسفتها إلى أن يمنح للتراث العلمي العربي المكانة التي هو جدير بها ضمن العقلانيات والتقاليد العلمية التاريخية. وظلّ مدافعا عن أطروحته القائلة بفكرة وجود عقلانيات متعددة ممكنة. وللبرهنة على صواب فكره عرّف مختلف أشكال العقلانية وبلورها. وبيّن علاقة العلوم العربية التطورية بالعلم اليوناني السابق عليه والعلم الغربي الحديث اللاحق به. و"أمكن له بواسطة هذا المنهج، وفق محرر الكتاب، أن يكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم العربي/الإسلامي وللمجتمعات العربية / الإسلامية التي أنتجته وكيفية تميزه عن العلوم السابقة واللاحقة عليه".

ـ 4 ـ

على مستوى علاقته بهموم المجتمع العربي وانخراطه في قضاياه يذكر رشدي راشد أنه حضر في العام 1958 حفلا في سفارة مصر بباريس احتفاء بالوحدة مع سوريا. وكان طالبا بعد يعوّل على منحة الدولة المصرية لمواصلة دراسته. فإذا به يأخذ الكلمة، وخلافا لخطابات الاحتفاء والتمجيد عبّر عن تشاؤمه بشأن مستقبل هذه الخطوة السياسية لأنّ "الوحدة لا يمكن أن تقوم في ظل الدكتاتورية". وكان لهذا الرأي تبعات. فقد تم إيقاف صرف منحته ممّا جعله مضطرا للعمل بصفة مساعد في فلسفة العلوم والمنطق في برلين، في ظل جمهورية ألمانيا الديمقراطية.

ورغم عودته للوطن الأم في العام 1965 بعد أن وصلته دعوة للحضور إلى مصر وبعد أن منحه عبد الناصر الأمان، اختار الهجرة من جديد. فالخطاب السياسي حينها جعله يشعر أنه لا وجود لمفهوم المواطن أو لفكرة المواطنة في أذهان السّاسة، سواء كان مثقفاً أو غير مثقف. ويبدو أنه ظل قريبا من الهموم السياسية العربية فكريا، بعيدا عنها جغرافيا، على الأقل. وهذا ما منحه القدرة على التفكير في القضية الفلسطينية وفي أثر هزيمة 1967  ومعاهدة كامب دافيد ونزعات التدين التي اجتاحت العالم العربي وما صحبها من ظهور للإسلام السياسي بروية بعيدا عن الحماسة والانفعال.

ـ 5 ـ

لا يجد رشدي راشد في هزيمة 1967 هزيمة عسكرية بقدر ما يفهمها باعتبارها هزيمة ثقافية وحضارية. فمن الجانب العربي يُرجِع سببها إلى خلل في التعاطي مع العلم والحرية السياسية والديمقراطية. وبالمقابل فمن خلقوا إسرائيل، هم في معظمهم يهود أوروبيون بل وأمريكيون وهم بالأساس أشخاص من ذوي الثقافة والعلم. أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل قد احتضنت عددا مهولا من العلماء السوفييت. والتوازن الذي يحفظ الحقوق يقتضي وجود دول عربية تقدمية، واعية ثقافيا، تستثمر في العلم وما ينتج عن العلم. وهذا غير موجود في زمننا الحالي.

من هنا يجد في معاهدة كامب دافيد أكبر الأخطاء السياسية. فهذه الخطوة التي لجأ إليها نظام أنور السادات المهدّد بالمحافظة على بقائه بشكل رسمي، تسبّبت في تفتيت وحدة العالم العربي، وسمحت بصرف النظر عن القضية الفلسطينية. ورغم ما فيها من بنود تخص الفلسطينيين، شأن مسألة حق العودة وإنشاء دولة فلسطينية، فإن إسرائيل تلقي بها عرض الحائط ولا يمكن لمصر أن تفرض تفعيلها. وأما البنود الأخرى التي لم يفصح عنها بشكل علني كمنع مصر من الاستثمار في بعض حقول البحث، لا سيما في مجال الفيزياء النووية فتنفذ بدقة. وعليه وبشكل، ما يجد أنّ ما يجري اليوم في غزة من بين تبعاتها الثقيلة.

ـ 6 ـ

يصدر رشدي راشد في آرائه من قناعته بأنّ القضية الفلسطينية هي القضية الأساسية في العالم اليوم. ويجد في الطريقة التي يعامل بها فلسطينيو 48 إحدى أكبر فضائح القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. ذلك أنّ دولة إسرائيل دولة يهودية وأن الأقلية العربية مسلوبة لحقوق. فيطرد الناس من ديارهم وتغتصب أراضيهم. وقانون الجنسية الذي تم التصويت عليه حديثا في البرلمان الإسرائيلي، على سبيل المثال، لا يسمح، للفلسطيني المتزوج بعربية إسرائيلية الحصول على الجنسية الإسرائيلية. وبالمقابل لا تحرك المجموعة الدولية بأسرها ساكنا إزاء التمييز العرقي وحروب التطهير والإبادة الجماعية. وتدع الأشياء تحدث. والأدهى أنّ الأمم المتحدة، التي تمثل المجموعة الدولية، تدعم دولة إسرائيل بشكل ممنهج.

يمكننا أن نكون شيوعيين ملحدين. ولكن لا يمكننا أن ننكر أنّ الدين الإسلامي قد أسهم في خلق حضارة عظيمة توجب علينا أن نقدرها حق قدرها أولا وقد لعب دورا بخصوص قيمة اللغة العربية ومباحثها اللغوية ثانيا.
أما عن السلطة الفلسطينية فيقدّر أننا لا نستطيع فهم تصرف مسؤوليها دون تحليل اجتماعي. فمن يكون هؤلاء الأشخاص من الناحية الاجتماعية، مقارنة بالشعب الفلسطيني؟ وفي أسئلته ما ينزع عنها التزامها بالخط الوطني. وهذا السؤال لا يطرح بشأن السلطة في غزة. ومع ذلك يجد أن رجالها يفتقرون إلى النضج السياسي الذي يخول لهم تحليل الوضع السابق، والعلاقة مع الوضع الدولي للتصرّف بحكمة.

هل هم يتصرفون من منطلق اليأس أكثر من التحليل العميق للوضع الراهن؟ تدفعنا مجريات الأمور إلى التسليم بذلك. فالولايات المتحدة تبارك بشكل ممنهج ما تقوم به إسرائيل. ومن مصلحتها أن تحافظ على هذه الوضعية أي أن يكون لها رجل مسلح على عين المكان طالما مثّلت المنطقة مصدرا رئيسيا للطاقة. وكل الفاعلين الآخرين ليسوا سوى شركاء عاجزين. والإسرائيليون الذين يريدون التوصل إلى حلّ حقيقي وسلام دائم يمثلون أقلية تتناقص بشكل مطرد. ولا سلام يلوح الآن في الأفق.

ـ 7 ـ

يمثل الإسلام السياسي وعلاقته بتديّن الشعوب ركنا رئيسيا اليوم في كلّ تفكير حضاري. ويرى رشدي راشد الذي نشأ في شبابه قريبا من الفكر الإخواني ثم وجد نفسه يتبنى أطروحات اشتراكية لاحقا، ضرورةَ التمييز بين ما هو أصيل وما هو غير أصيل. فيمكننا ألا نؤمن بدين معين، ولكن لا يمكننا إلاّ أن نؤمن بحضارة لعب فيها الدين دورًا رياديا. وعليه يمكننا أن نكون شيوعيين ملحدين. ولكن لا يمكننا أن ننكر أنّ الدين الإسلامي قد أسهم في خلق حضارة عظيمة توجب علينا أن نقدرها حق قدرها أولا وقد لعب دورا بخصوص قيمة اللغة العربية ومباحثها اللغوية ثانيا. فقد حفز الهمم. فظهر نحاة كبار كانت دوافعهم دينية في بواكير الحضارة الإسلامية، ثم أصبحت هذه العلوم مقصودة بذاتها لاحقا.

ومن هنا يرى الباحث أنّ الإسلام ليس مجرد دين، إنه ثقافة عريقة تمتد إلى خمسة عشر قرنا تحققت فيها الكثير من الاكتشافات. وعليه أيضا فأغلبنا مسلم دينيا ولكنّ جميعنا مسلم ثقافياً وحضارياً. ومنه يخلص إلى أنّ ["الإسلام قد خلق حضارة عظيمة، أما أن يوجد اليوم استعمال آخر للإسلام أو أن أشخاصا آخرين يحوّلون وجهته، فتلك مسألة أخرى. ذلك هو التاريخ فأولئك الذين يسمون جهاديين أو إرهابيين ليسوا متدينين البتة. أنا أنتمي إلى جيل أو إلى تكوين ينظر إلى الدين كما هو علاقة بالمقدس وعنصر مؤسس الحضارة". وبأسف حول تراجع حريّة التفكير، يذكّرنا بأنّ ابن حزم مفكر قرطبة الكبير، في القرن الحادي عشر، قال : "إن القرآن ليس معجزة"، وأنه لو قالها اليوم، لقتل. لكنه قال ذلك ولم يُحدث صدمة. ووجه الانحراف في العالم العربي الحديث وجود حكم جاهز يؤخذ دون دراسة معمقة للنصوص"]. ولئن عدّ كل الأطروحات ممكنة، فإنّه يحترز على الدفاع عن بعضها دون عمل العقل في بنائها مسبقا.
التعليقات (0)