كتب

المستشرقون والأصوليون.. نحو فهم أسباب التفاوت بين الدول.. قراءة في كتاب

الاستعمار هو إمبريالية مظلمة: فهي تنطوي بالنسبة إلى كثيرين، على تباينات اجتماعية جائرة، وانتهاكات بشرية، وواجبات أخلاقية، وجميعها تستدعي أعمال مقاومة..
الاستعمار هو إمبريالية مظلمة: فهي تنطوي بالنسبة إلى كثيرين، على تباينات اجتماعية جائرة، وانتهاكات بشرية، وواجبات أخلاقية، وجميعها تستدعي أعمال مقاومة..
الكتاب: غنى الأمم وفقرها لماذا بعضها غني جدًا وبعضها فقير جدًا
الكاتب: ديفيد لانديز ، ترجمة هدى عبد الفتاح الكيلاني
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2023.
(عدد الصفحات 861 من القطع الكبير)


تتعالى المشاعر العلمية عندما تتعلق الأمور بقضايا الشرق الأوسط؛ ويكون بوسع القراء والجماهير معرفة الإجابات مسبقاً. فالمناظرات، التي غالباً ما تكون غاضبة ومتجهمة، لا تتعدى كونها مناقشات لا أحد مستعد لتسليم سلاحه في الخارج؛ فقد يحتاج إليه من العوامل المسببة للحروب الصراع العربي الإسرائيلي؛ الإمبريالية الاقتصادية الأوروبية، سواء الشكلية منها أو غير الشكلية؛ والانتقادات الغربية ومن ثم الافتراءات للثقافة العربية أو الإسلامية، ولا سيما فيما يتعلق بمعاملة النساء.

في ظل هذه الظروف، اتخذت معظم المناقشات شكل التنابز بالألقاب؛ والهدف من هذه الألقاب (أو تأثيرها) هو تهميش أو استبعاد الخصم. حيث يقال: إن هذا الشخص (ضع في المصنف الكلمة التي تريدها)؛ ولا حاجة بعد ذلك إلى قول المزيد.

أكثر هذه الهجمات الرافضة تأثيراً ابتكار ما يسمى "الاستشراق"؛ وهو جرم الكتابة عن قارة آسيا، ولا سيما الشرق الأوسط، من الخارج، أي من وجهة نظر الغرب المتعالي، والعدائي والمستغل. تعود الهجمات على الأشياء الشرقية التي كانت تحظى بسحر كبير إلى ستينيات القرن العشرين على أقل تقدير؛ إلا أن نشر كتاب إدوارد سعيد، عام 1978، تحت اسم (الاستشراق) هو الذي منح هذه الاتهامات سيرورتها، ودعا إلى التشكيك في معظم الكتابات الغربية عن الشرق الأوسط.

انْتَقَدَ إدوارد سعيد في كتابهِ الأضخم الاستشراق (الذي ربط اسمه بحقل من الدراسات الثقافيّة المهتمّ بدراسة الاستشراق والاستعمار ونقد الحداثة، والذي ما زالت بصمته عليها حتى الآن)، الخطابَ الغربيَّ عن العالمِ الإسلاميِّ والمرحلةِ الاستعماريةِ الأوروبيةِ لدُوَلِ العالم الثالثِ منذُ بداياتِ القرنِ الثامنِ عشر حتى منتصف القرن العشرين، كما انْتَقَدَ المرحلةَ الجديدةَ مِنَ الْهَيْمَنَةِ الْغَرْبِيَةِ على دُوًلِ الْعَالمِ، والتَحَكُمَّ في مُقَدِّرَاتِ الشُعوُبِ وثَرَوَاتِهَا، وفرضِ النمطِ الثقافيِّ الغربيٍّ عليها؛ وبالرغم من أَنَّ فِكْرَ ما بعد الكولونيالية كان سائدًا في الجامعاتِ الغربيةِ إلا أنَّ كتابات إدوارد سعيد أسْهَمَتْ في رفدهِ بمفاهيم وتحليلاتٍ جديدةٍ مَكَّنَتْ من فهم أعمقٍ للظاهرةِ الاستعماريةِ وتمظهراتها المختلفةِ، حيث اندمجتْ كتابات سعيد مع التصوراتِ السابقة لفِكْرِ مَا بَعْدَ الْكُولُونْيَالِيَةِ لتشَكِّلَ نظريةً نقدية ًللظاهرةِ الْكُولُونْيَالِيَةِ ومحاولة إرساءِ رؤيةٍ جديدةِ لفضاءٍ ثقافيٍّ تَعَدُدِيٍّ يَسْتَوْعِبُ جميع الثقافاتِ دون التركيزِ على ثقافةٍ مركزيةٍ مُحَدٍّدَةٍ..

إن حقيقة الفوارق الدقيقة لا تستبعد النور الذي يأتي من التعميم؛ من المؤكد أن كل شيء أكثر تعقيداً مما يبدو. كل شخص، وكل حدث هو فريد من نوعه. مع ذلك، لا بد من بذل بعض الجهد لتبسيط الأمور، وللعثور على نماذج يحتذى بها؛ وإلا فإننا لن نجد سوى جراب حظ يحتوي على معلومات غير ذات صلة.
يقول إدوار سعيد: لقد وَجَدْتُ اسْتِخْدَامَ مَفْهُومَ ميشيل فوكو للخطاب، كما يصفه في كتابيه "حفريات المعرفة والمراقبة والعقاب" ذا فائدةٍ هنا لتحديدِ هويةِ الاسْتِشْرَاقِ وما أَطْرَحُهُ هنا هو أنَّنَا ما لم نكتنه الاستشراق بوصفه خطابًا، فلن يكون في وسعنا أبدًا أنْ نفهم الفرع المنظم تنظيمًا عاليًا الذي استطاعتْ الثقافةُ الغربيةُ عن طريقه أنْ تَتَدَبَّرَ الشرق ـ بل حتى أنْ تُنْتِجَهُ ـ سِيَاسِيًا واجتماعيًا وعسكريًا، وعقائديًا وتخييليًا، في مرحلة ما بعد عصر التنوير، وعلاوة على ذلك؛ فقد احتل الاسْتِشْرَاقُ مَرْكزًا من السيادة بحيث إنَّنِي أُؤْمِنُ بأنَّه ليس في وسع إنسانٍ يكتبُ عن الشرقِ، أو يُفَكِّرُ فيه، أَوْ يُمَارِسُ فِعْلاً متعلقًا به أنْ يقوم بذلك دُونَ أنْ يأْخُذَ بعين الاعتبارِ الحدود المعوقة التي فرَضَها الاستشراق على الفكر، والفعل ولا يعني هذا أنَّ الاستشراقَ بمفردهِ، يُقَرِّرُ ويُحَتِّمُ مَا يُمْكِنُ أنْ يقال عن الشرق، بل إنَّه يُشَكِّلُ شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورةٍ لا مَفَرَّ منها في كل مناسبةٍ يكون فيها ذلك الكيان العجيب "الشرق "موضعًا للنقاش.

لقد تأَثَّرَ إدوارد سعيد بمنهجية ميشيل فوكو (1926م ـ 1984م) في دراسة العلاقة بين الخطاب والسلطة وفلسفة جاك ديريدا (1930م ـ 2004م) التفكيكية من أجل الكشف عن التمركزات في الثقافة الغربية، واستحضر الرؤية الفكرية لأنطونيو غرامشي (1891م ـ 1937م) في الحديث عن التسلط الثقافي، وقد ربط خطابه الاستشراقي بنزعة التباين والاختلاف بين الشرق والغرب مبينًا التفوق الغربي مقابل التخلف الشرقي في مجالات الفكر والثقافة والتمدن حيث مثل الاستشراق الغربي نوعًا من التسلط الثقافي.

تضم لائحة الاتهامات ما يلي:

تستسلم القوالب النمطية إلى الأفكار العنصرية والتحيز؛ وتفصل بين جماعة وأخرى، وتثير مشاعر الغطرسة من جهة، ومشاعر الاستياء من جهة أخرى. إذا تمكنا من التخلص من "الشرق"، فسيصبح لدينا علماء، ونقاد، ومفكرون، وبشر، أولئك الذين تعد الفروق العرقية والعنصرية والقومية بالنسبة إليهم، أقل أهمية من المشروع المشترك لتعزيز المجتمع البشري.

لا يمكننا الاعتراض على المشاعر السامية، لكن المشاعر لا تكفي. لقد أصبح الجهد المبذول لتطهير هذا المجال من تلك الأمراض المفتعلة اعتداء على المعرفة. في المقام الأول، يستبعد الأسلوب المعادي للاستشراق أدوات التحقيق التي لا غنى عنها. كما يعرف أي باحث في علم المقارن، تعد الفروقات مادة الفهم. لا يمكن للعالم المناهض للاستشراق أن يأخذ كلا الجانبين، أي أن يندد بالسعي وراء خصائص مميزة كونها جوهرية في حين يدعو إلى تفهم الاختلافات بين المجموعات. هذا الفهم هو الذي يحول التنوع إلى شعور بالإنسانية المشتركة.

يقول المؤرخ البريطاني ديفيد لانديز: "من المفارقات أن هؤلاء المستشرقين المدانين بشدة هنا من علماء لغة، وعلماء آثار، ورحالة، وغربيين مولعين بشكل الشرق الأوسط ـ كانوا مغرمين بشدة بالعالم العربي الإسلامي. بعضهم كان يبحث عن الفردوس المفقود. نقتبس عبارة من كتاب حديث: "تشكل فتنة الجزيرة العربية وسحرها، كما يطلق عليها غالباً، مرض المخيلة. يتعرض اليوم هؤلاء المستشرقون إلى التعنيف بوصفهم إمبرياليين عنصريين متغطرسين، وبسبب عواطفهم، حيث لم تفلت أي مشاعر لطيفة من العقاب. أكانوا مخلصين في مشاعرهم؟ وماذا في ذلك؟ الإخلاص أتفه الفضائل، وأقلها عمقاً.

ثانياً، إن حقيقة الفوارق الدقيقة لا تستبعد النور الذي يأتي من التعميم؛ من المؤكد أن كل شيء أكثر تعقيداً مما يبدو. كل شخص، وكل حدث هو فريد من نوعه. مع ذلك، لا بد من بذل بعض الجهد لتبسيط الأمور، وللعثور على نماذج يحتذى بها؛ وإلا فإننا لن نجد سوى جراب حظ يحتوي على معلومات غير ذات صلة.

ثالثاً، الأخبار السيئة ليست بالضرورة خاطئة؛ فقد تلقي الملاحظات الجوهرية ضوءًا سلبياً، ولكن يجب الحكم على هذه الأدلة بناءً على مزاياها، وليس رفضها بوصفها مزيفة مسبقاً. تتربص تلك الطريقة لمبدأ الرقابة الذاتية والإهمال في أداء الواجب. بالإمكان اختصار معظم الكتابات النقدية المعادية للاستشراق في مذكرة يقدمها المحامي للدفاع. حيث يتقاضى المحامون المال مقابل قيامهم بذلك؛ في حين يواجه العلماء التزاماً أكبر"(ص626).

في هذا الصدد، يجب على المرء أن يرفض المعنى الضمني بأن كل ما هو غريب يعد غير مؤهل، فالمسلمون فقط هم من يمكنهم فهم الإسلام، والسود فقط هم من يمكنهم فهم تاريخ السود، والمرأة فقط هي من يمكنها فهم الدراسات حول النساء، وما إلى ذلك. يفرض هذا الأسلوب جواً من التباعد والانفصال، ما يسمى بحوار الصم. كما أنه يستبعد الرؤى القيمة للأجانب ويؤدي إلى العنصرية. تعرفت ذات مرة في بوسطن على شخص هندوسي لم يستطع تفهم رغبة طالب من أصل إيطالي في إجراء دراسة حول كريستوفر كولومبس (كان جواب الطالب: اعتقدت أن كريستوفر شخص إيطالي)؛ وفوجئ شخص آخر من رؤية طالب أمريكي من أصل أفريقي يدرس التاريخ الروماني، كما لو أنه مواطن روماني أكثر من كونه أمريكياً.

علاوة على ذلك، يستدعي التمييز في مثل هذه الحالات الاستقصائية اختبار الولاء: هل يتصرف عالم ما بشكل صحيح؟ ينطبق ذلك على كل من الغرباء، الذين بوسعهم كسب القبول عن طريق التفكير الصحيح، وكذلك على المطلعين، حيث يتجاوز حتى اللون. هكذا يكون المؤرخ أو السياسي الأفرو ـ أمريكي الذي لا يفي بمعايير الصواب السياسي أشبه بقطعة أوريو، وهو اسم نوع معروف من البسكويت المحشو بالشوكولاتة والكريما.

في المعسكر الشرق أوسطي المناهض للاستشراق، تعد الشعارات معادية للصهيونية؛ وأي تساهل تجاه "إسرائيل" إنما هو دليل على الخطأ وعدم الصلة، إن لم يكن أسوأ من ذلك. هكذا عمل إدوارد سعيد وأتباعه على إقصاء برنارد لويس ، بوصفه "مستشرقاً" "وجوهرياً"، إلا أنه أيضاً مؤيد بقوة للصهيونية و"إسرائيل" بحيث لا يمكن اعتباره قادراً على إصدار حكم غير متحيز. من المؤكد أن (لويس قد قدم أفضل ما لديه. مع ذلك، لاقت مقالات سعيد النقدية قدراً كبيراً من التأييد في أوساط العلماء الغربيين، في حين أحدثت صدى طيباً لدى الإسلاميين وغيرهم في الشرق الأوسط.

الإمبراطورية وما بعدها

وفي الفصل الحامس والعشرين، تطرق المؤرخ البريطاني إلى الإمبراطوريات الأوروبية،التي نشأت في القرن الخامس عشر تضم جزر المحيط الأطلسي (جزر الكناري، وماديراس) وأجزاء من شمال أفريقيا، وانتهت بشكل أو بآخر في النصف الثاني من القرن العشرين. خمسمائة سنة من الهيمنة، لا شك أنه وقت طويل جداً. مع ذلك، ورغم جميع الآثار الهائلة للاستعمار، فقد كانت ظاهرة عابرة في المدى الأكبر لتاريخ العالم. كل شيء قد زال واختفى، التفاخر والتبجح من جهة، وأوجه الإذلال من جهة أخرى. لا يمكن نسيان ذلك؛ بل تبقى الذكريات إلى الأبد. مع ذلك، ثمة إمكانية لإصلاح الخسائر؛ والاحتفاظ بالمكاسب؛ وتبقى المهام والفرص في انتظارنا.

تحتاج المصطلحات التالية إلى تعريف: إمبراطورية، إمبريالية، مستعمرة، استعمار. الإمبريالية هي النظام (المبدأ أو الروح) والسعي لإنشاء إمبراطورية؛ أي هيمنة دولة على دول أخرى. نشأت الإمبراطوريات مع قيام الدول، واحدة أقوى من الأخرى. بالنظر إلى هذا التاريخ الطويل وربط الإمبراطورية بالاحتياجات العسكرية والمؤسسة الدبلوماسية، وبالمكانة والسلطة والثروة، كانت مصطلحات "الإمبراطورية" و"الإمبريالية"، في وقت ما، كلمات تدل على الفخر. لذلك كانت الصيحة الأخيرة التي أطلقها الملك جورج الخامس في كانون الثاني عام1936: ما حال الإمبراطورية؟

قد يبدو أن الإشارة إلى أن نشوء الإمبراطوريات يعود إلى فجر التاريخ حقيقة بديهية، لكنها في الواقع ليست تأكيداً سطحياً. يصر البعض، على سبيل المثال، على أن الإمبريالية، التي بلغت أوجها في نهاية القرن التاسع عشر، هي بطريقة ما ابتكار أو نتيجة ثانوية للرأسمالية الحديثة؛ أو وفق تعبير لينين: "أعلى مراحل الرأسمالية". بناءً على ذلك، يحاولون أن يبرهنوا أن الإمبراطورية كانت ضرورية لا غنى عنها) لازدهار الرأسمالية الحديثة وديمومتها. يمكن قياس مدى ثبات هذا الاعتقاد من خلال الكتابات الغزيرة التي تجزم بأن هدف الإمبريالية، قبل كل شيء، المكاسب المادية حتى عندما تكون التكلفة والخسارة واضحة للعيان.

يقول المؤرخ البريطاني ديفيد لانديز: "يشوه التاريخ هذه الصلات الجوهرية بالرأسمالية. تأمل الإمبراطوريات القديمة التي نشأت في كل من مصر والصين، وآشور، وبلاد فارس، وروما، وغيرها؛ أو تلك التي نشأت في العصر الحديث، كالإمبراطورية الاشتراكية الشيوعية السابقة، غير المأسوف عليها، في الاتحاد السوفياتي تعكس كميات الحبر الغزيرة التي أهدرت على هذه القضية الحاجة إلى تشويه سمعة الإمبرياليين والرأسماليين عن طريق تشجيع المقاومة والثورة. لقد شاركوا في الأمر من أجل المال، أثمة أمر أسوأ من ذلك؟ في الوقت نفسه، تؤدي التعريفات والتفسيرات السيئة إلى استنتاجات سيئة.

الاستعمار هو إمبريالية مظلمة: فهي تنطوي بالنسبة إلى كثيرين، على تباينات اجتماعية جائرة، وانتهاكات بشرية، وواجبات أخلاقية، وجميعها تستدعي أعمال مقاومة، ومطالبات بتحقيق العدالة، وحركات نضالية من أجل التحرر. كانت البداية مع كلمة مستعمرة بريئة للغاية، ففي العالم القديم، استخدمت للإشارة إلى مكان بعيد للاستيطان، كمستعمرة قرطاج الفينيقية أو المستعمرات اليونانية في إيطاليا. لكن ينطوي الاستيطان، كما نعلم الآن على نوع من التهجير (الأرض الفارغة نادرة الوجود)، ومن ثم لا يمكن أن يكون عملاً جيداً أو فاضلاً، على الأقل ليس بالنسبة إلى الضحايا؛ لذلك من الواضح أن الاستيطان (الاستعمار) نظام سيئ. في الخطاب الأخير، توسع مفهوم الاستعمار ليشير إلى "أي حالة تبعية اقتصادية أو سياسية"، سواء أدت إلى نزوح السكان الأصليين أم لا. دفعت هذه الصفة الازدرائية بنقاد الهيمنة الأجنبية (الغربية) المعاصرين إلى تفضيل استخدام مصطلح "الاستعمارية" على مصطلح "الإمبريالية" السابق. يبدو مصطلح الاستعمارية أكثر سوءاً"(ص634).

تعود الإمبريالية الأوروبية (الاستعمارية) ـ سأستخدم المصطلحين بالتناوب - إلى العصور الوسطى، إلى حملة الانتشار نحو الشرق التي قام بها شعب الجرمان للأراضي السلافية، وإلى غزوات شعوب إسكندينافيا في إنجلترا وإقليم نورمنديا وسكان إيرلندا الإنجليز، وإلى حملة استرداد إسبانيا. اتخذ جزء كبير من هذا التوسع شكل الاندماج. فقد انصهر الغزاة في السكان الأصليين إلى درجة انطمست فيها هويتهم الخاصة، أو أنهم بدورهم استوعبوا الشعوب المحتلة. (يتجلى ذلك في الزيجات المختلطة، واللغة، والأسماء الشخصية). هكذا هزم النورمانديون قبائل الأنجلو ساکسون (1066وما بعد)، الذين كانوا في وقت سابق قد طاردوا الرومان وأخضعوا البريطانيين الأصليين (شعوب سلتية غزت المنطقة، وأخضعت سكانها)، وقادوا أعداداً كبيرة من الناطقين باللغة السلتية أمامهم إلى مقاطعة الويلز عبر القناة، إلى ما عرف بمقاطعة بريتانيا. حتى يومنا هذا، يمكن لمتحدثي اللغة البريتونية الاستماع إلى البث الإذاعي باللغة الويلزية وفهم معظم ما يقال.

بعبارة أخرى، تعد جزيرة بريطانيا بأكملها لوحاً قديماً من الغزوات والهجمات المتتالية، والتي طمس معظمها في مجتمع موحد؛ على الرغم من أن حلم الاستقلال المبكر والهوية المميزة ما يزال يراود مخيلة بعض أفراد شعوب الويلز وإسكتلندا المحتلة. يمكن للمرء أن يجد بؤر تظلم مماثلة في إقليم الباسك في إسبانيا (بدرجة أقل في فرنسا)، وفي كتالونيا وكورسيكا، وفي أنقاض إمبراطوريتي هابسبورغ ورومانوف القديمتين؛ تذكرنا المأساة الحالية للبوسنة بأن ذكريات الهزيمة والغزو تدوم طويلاً، أو يمكن إيقاظها واستغلالها، وأن الحياة قصيرة لكن الانتقام مداه طويل. في عام 1389، هزم الأتراك الصرب في كوسوفو؛ نسي الأتراك هذه الحادثة منذ فترة طويلة، لكن الصرب جعلوا هذه النكسة النكراء حجر الأساس لتطلعاتهم الوطنية.

من الواضح أن النظرة الشائعة للإمبريالية بوصفها ابتكاراً غربياً واحتكاراً أصاب الشعوب غير الأوروبية هي وجهة نظر خاطئة. مع ذلك، هذا ما يعتقده معظم الناس على أنه من المؤكد أن شيئاً ما مختلفاً قد حدث عندما أبحر الأوروبيون أو جالوا العالم وأخضعوا القبائل والأمم الغريبة بواسطة تفوقهم في السلاح والعلم.
يمكن للمرء أن يجوب أرجاء العالم؛ فعلى مدى قرون طويلة، توجه الصينيون نحو الجنوب، وأخضعوا الشعوب التي لا تنتمي إلى العرق الصيني (هان)، ودمجوها معهم. احتل اليابانيون جزرهم الأصلية وطردوا منها شعب الآينو، وحولوه إلى بقايا لا قوة لها في أقصى الشمال. هاجر سكان بورما من موطنهم الأصلي في منغوليا، وأطلقوا اسمهم على أرض تقع في أقصى الجنوب، واندمجوا مع معظم السكان، لكنهم أبقوا على عدد من القبائل ليقاتلوها حتى يومنا هذا. خرج العرب من الصحراء إلى الهلال الخصيب، ثم اجتاحوا شمال إفريقيا، وتمكنوا من إدخال معظم رعاياهم في دين الإسلام. كونوا دولاً إسلامية، وأصبحت لغتهم العربية السمة التعريفية المشتركة لهذه المجموعات المتنوعة. (كما حدث في عام 1998، اللغة العربية هي اللغة الوحيدة الرسمية في الجزائر عوضاً عن الفرنسية). نتيجة لذلك، يمتد المصطلح الأوروبي (الشرق الأوسط) إلى الشواطئ الأفريقية للمحيط الأطلسي.

من الواضح أن النظرة الشائعة للإمبريالية بوصفها ابتكاراً غربياً واحتكاراً أصاب الشعوب غير الأوروبية هي وجهة نظر خاطئة. مع ذلك، هذا ما يعتقده معظم الناس على أنه من المؤكد أن شيئاً ما مختلفاً قد حدث عندما أبحر الأوروبيون أو جالوا العالم وأخضعوا القبائل والأمم الغريبة بواسطة تفوقهم في السلاح والعلم. كانت هذه الأماكن والشعوب بعيدة جداً من الناحية الثقافية والجغرافية والمادية. بينما كانت الفتوحات المبكرة تقع في مناطق مجاورة وتقتضي ضمناً الاندماج والتماثل، اعتبرت هذه الأراضي الجديدة بمثابة غنائم وميادين للفرص، أي لم تكن مكونات بل ملحقات. لكن، ماذا عن السكان الأصليين؟

إنهم سلالة أدنى مرتبة، من الممكن الاستفادة منهم، ويملكون القدرة على التطور، ولكنهم فعلياً ليسوا أوروبيين لم تتصور الدولة الأم حدوث الاندماج بين القديم والجديد، على الرغم من أن ذلك قد يحدث وحدث فعلاً، كما هو الحال في مستعمرات أمريكا الإسبانية والمستعمرات البرتغالية في العالمين الجديد والقديم. تخبرنا الرياضة القصة بأكملها. ففي عام 1898، قام حاكم بريطاني في غرب أفريقيا ببناء ملعبين لرياضة الكريكيت، أحدهما للأوروبيين، والآخر للسكان الأصليين عندما لعب الفريقان مع بعضهما البعض مباراة رياضية، تحولت هذه المباراة إلى مسابقة عرقية؛ وعندما بدأ الفريق الإفريقي بالتقدم على منافسه الأوروبي، كان لا بد من إيقاف المنافسة عند هذا الحد. إلا أننا قطعنا شوطاً طويلاً منذ ذلك الحين، فقد انخفض مستوى التعالي الاستعماري وزادت خسائره.

اتخذت عملية ضم هذه الأراضي البعيدة واستثمارها أشكالاً عديدة. بالنسبة إلى الإسبان، تركز جوهر الموضوع في الحصول على الثروات؛ فقد كانت إمبراطوريتهم تتألف من مناجم للمواد الخام التي ترتبط بخطوط إمداد محلية وإقليمية لتوفير العمالة، والغذاء، والمصنوعات، وبخطوط بحرية تمتد إلى أوروبا. من ناحية أخرى، عمل البرتغاليون في آسيا، في أراض يقطنها أعداد كبيرة من شعوب لا يمكن، بالنسبة إليهم، قهرها. لذلك، اضطروا إلى بناء مستعمراتهم على ممتلكات صغيرة يمكن الدفاع عنها مثل غوا ـ لتشكل نقاط وجود والانطلاق من هناك للبيع والشراء، وابتزاز أموال الحماية من التجار المحليين.

سعى الهولنديون والإنجليز وراء التجارة، على الرغم من أن الصفقات التجارية غالباً ما أدت إلى التدخل في الخلافات المحلية والاستيلاء على الأراضي. من المؤكد أن عمليتي تشكيل الحكومة وتحقيق الأمن يحتاجان إلى أموال طائلة، يقع توفيرها على عاتق رجال الحرب ورجال السلاح. لكن بالإمكان تحويل الأراضي إلى مناطق امتياز واحتكار، وتحويل تكاليف الحكم إلى البلد الأصلي وإلى السكان المحكومين في آن معاً. إلى جانب ذلك، كان للحكام الإداريين في هذا المجال أجندتهم الخاصة بهم؛ ولم يكن الإسبان الغزاة الوحيدين.

حالما تقلدوا مناصبهم، وضع الهولنديون والبريطانيون نصب أعينهم هدف إخضاع الزراعة إلى الإدارة، بما يتجاوز ما توفره الطبيعة. فالإمبراطورية هي قصة مشروع يتعلق بالنباتات ينقل المحاصيل إلى الأراضي الزراعية ومناخات الفرص الملائمة فقد بدأت زراعة السكر في منطقة المحيط الهندي وانتشرت حول العالم وصولاً إلى جزر الكاريبي؛ ونقلت نبتة الشاي من الهند إلى الصين وسيلان (الشاي الهندي مقابل الشاي الصيني)؛ وهربت بذور المطاط من البرازيل لتزرع في الملايو؛ وانتقل نبات الكينا من أمريكا الجنوبية إلى جزيرة القديسة هيلينا وإلى جزيرة جاوة؛ وانتقلت النباتات التي تحوي زيوتاً من العالم الجديد إلى غرب إفريقيا؛ حيث وجدت القهوة هنا، والكاكاو هناك. لعبت هنا الحدائق النباتية الملكية في كيو على ضفاف نهر التايمز، والتي بدأت كهواية لإحدى الأميرات، دوراً رائداً، بوصفها أنموذجاً للعلم والتجارة متحدين. شكل كل ذلك استثماراً أكثر ربحية واستمرارية من أعمال النهب أو الاغتصاب، على الرغم أنه من الواضح أن أحداً لم يعترض على اكتشاف الكنوز النفيسة، مثل الألماس في الهند وجنوب أفريقيا، والذهب في أستراليا وأفريقيا، والنفط في بورما وجزر الهند الشرقية، على مدى قرون طويلة.

يقول المؤرخ البريطاني ديفيد لانديز: "في الأيام الخوالي، تعلم طلاب التاريخ العالمي (أو الأوروبي) كل شيء عن الإمبراطوريات (القديمة) و(الجديدة) ضمت الإمبراطوريات القديمة الأراضي التي جرى الاستيلاء عليها منذ عام 1500 إلى 1800: كالمناطق الأمريكية الخاضعة لإسبانيا، والمكتسبات الإنجليزية والفرنسية في أمريكا الشمالية، والمناطق المغتصبة في المحيط الهندي من قبل البرتغاليين، والهولنديين، والبريطانيين. ثم، في مطلع القرن التاسع عشر تقريباً، انفصلت جميع الأجزاء الأمريكية تقريباً من هذه (الإمبراطوريات القديمة) عن الوطن الأم بالنسبة إلى كثيرين في أوروبا، أثبتت هذه الخسائر حماقة المشروع بأكمله، وطرحت السؤال التالي: هل حدث أن أهدر كثيرون هذه الأموال الطائلة على شيء لا قيمة له؟ تعلمنا نتيجة لذلك، أن الشهية لإقامة مستعمرات قد خبت على مدى قرن من الزمن بعد عام 1763 (معاهدة باريس بين بريطانيا وفرنسا)، قيل إن الإمبريالية تراوح مكانها (ص 642).

إقرأ أيضا: أسباب التفاوت في الثراء والفقر بين الدول.. قراءة في كتاب

إقرأ أيضا: أسباب التفاوت في الثراء والفقر بين الدول.. أمريكا اللاتينية واليابان نموذجا

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم