تداعيات انهيار التوازن التاريخي بين الدولة والدين في المجتمعات الإسلامية

الكتاب: "الإسلام والعصر الحديث - نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح"
الكاتب: الدكتور محمد الحداد
الناشر: دار التنوير للطباعة و النشر، تونس، الطبعة الأولى 2022
(242 صفحة من القطع الكبير)

قانون الهزيمة وآفاق الإصلاح

من المهم أن نلاحظ أن التزام الطرف السائد في الغرب بالهدنة كان أكبر من التزام النظام الثقافي السائد في المجتمعات العربية والإسلامية. فقد ظلت الغلبة في هذا النظام لفائدة الأطروحات المعادية للغرب، فضلاً عن سياسة الكيل بالمكيالين التي واصلتها الثقافة السائدة غير عابئة بنتائجها على المدى البعيد فكانت تطالب بقبول المهاجرين واللاجئين المسلمين في البلدان الغربية في الوقت الذي تضيق فيه الخناق على الأقليات المسيحية وتدفعها إلى الهجرة. وتنشر مراكز الدعوة الإسلامية على الأراضي المسيحية ثم تقيم الدنيا وتقعدها إذا سمعت بمبشر يعمل في الأراضي الإسلامية، وتبني المساجد في كل مكان من أوروبا وأمريكا لكنها ترفض بناء الكنائس أو مجرد ترميم القديم منها، بل حولت العديد من الكنائس التاريخية إلى مساجد أو مباني إدارية، كانت سياسة الكيل بالمكيالين راسخة في الثقافة السائدة إلى درجة أن كل هذه الأمور بدت عادية وطبيعية ولم تثر أي تفكير حول نتائجها على المدى البعيد.

اتسم الموقف الغربي سابقاً بنوع من الليونة في التعامل لأسباب عديدة بالنسبة إلى أوروبا توجد ثلاثة عناصر لتفسير موقف المهادنة: أولاً، كانت أوروبا مثقلة بعقدة الذنب الاستعمارية، ففي القرن السابق سمحت هي لنفسها أن تتبنى نفس السلوك مع عنفأكبر، فكان التبشير مقدمة للاستعمار وجزءاً منه، وكانت مقاومة الإسلام ومحاصرته فصلا من كل خططها للهيمنة.

ثانياً، كانت أوروبا تسعى إلى تقوية  الطابع العلماني لمجتمعاتها، فكانت تنظر بعين الرضا لاقتحام الإسلام الديار المسيحية وتحول المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات متعددة الديانات، ورأت في الإسلام عنصراً من عناصر إضعاف الكنسية دون أن يتحول إلى عنصر إضعاف للمجتمع وللعلمانية، ظناً منها أن تطور عدد المسلمين سيبقى محدوداً، وكذلك الدور الذي يضطلعون به في تلك المجتمعات.

ثالثاً، كانت اللغة الثقافية للمجتمعات الأوروبية قد أصبحت من صنع تيارات ما بعد الحداثة، لغة تنفر من كل تصنيف ديني وتنظر إلى المشاكل القائمة بين المسلمين وغيرهم في المجتمعات الأوروبية على أنها مشاكل عنصرية أو هجرة غير منظمة أو فشل للسياسات الاندماجية وما إلى ذلك من طوق الطرح التي تغيب البعد الديني.

أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فتوجد أربعة عناصر لتفسير مواقف المهادنة:

أولاً، إن المجتمع الأمريكي مجتمع مفتوح دينياً وعرقياً، وعندما يتمسك الأمريكان بالدين فإنهم لا يعنون ديناً بعينه، فهذا شبه مستحيل في بلد يضم أكثر من مائتين دين، والإسلام في الولايات المتحدة ليس بضاعة مستوردة وهو جزء من تاريخ تشكل المجتمع الأمريكي، حمله العبيد المستقدمون من افريقيا. فالطعن في مشروعية الإسلام سيكون بمثابة الطعن في التاريخ الرسمي لتشكل المجتمع الأمريكي، باعتباره تاريخ انصهار مجموعة كبير من الأديان والأعراق وتوسع دائرة المساواة لتشمل جميع الذين يعيشون على التراب الوطني، وإقرار بتهافت أكثر سرديات هذا التاريخ المعروفة بعبارة  melting pot 

ثانيًا، إن الإسلام والأديان عامة، اعتبرت في فترة الحرب الباردة حليفاً استراتيجياً للمعسكر الغربي وحلف الناتو ضد الشيوعية ومحاولاتها التوسع في العالم، فمن هذا الأساس تحالف صناع القرار العسكري بأكثر الحركات الإسلامية تطرفاً، فتطرفها مثل بالنسبة إليهم ضمانة بأن لا تبحث عن أية صيغة توافق مع الشيوعية أو الحركات المحلية التي يعتبرها هؤلاء موالية للكتلة الشيوعية، لا سيما أن الجزء الأكبر من احتياطي النفط العالمي يقع في العالم الإسلامي.

ثالثاً، إن الثقافة في الولايات المتحدة ليست قضية أفكار فحسب إنها أساساً قضية تسربلات فلهذا السب استطاع البترودولار العربي أن يبني المراكز الدينية ومراكز الدعوة دون حساب ولم يتابع أحد ذلك. فكان يسيرا على الحركات الإسلامية الأكثر تطرفاً أن تسيطر على العديد منها وعلى العديد من المؤسسات الخيرية وغيرها.

رابعاً، إن السياسة الأمريكية قائمة على نفوذ اللوبيات التي تتطلب توفر إمكانيات مالية ضخمة، وقدرات فائقة في رسم الاستراتيجيات على المدى الطويل، وهذان عنصران ضعيفا التوفر في الجالية المسلمة، وأول مرة برزت فيها مجموعة منظمة في الحملة الانتخابية الأمريكية كانت سنة 2000، ولعل تصويتها المكثف لصالح جورج بوش الابن قد ساهم في ذلك التقسيم الضئيل الذي ربح بفضله الجمهوريون الرئاسة لكن النتيجة كانت ما نعلم، فقد ساهمت تلك المجموعة، دون وعي، في تعزيز حضور المحافظين الجدد واليمين المسيحي في الإدارة الأمريكية!.

إن الثقافة في الولايات المتحدة ليست قضية أفكار فحسب إنها أساساً قضية تسربلات فلهذا السب استطاع البترودولار العربي أن يبني المراكز الدينية ومراكز الدعوة دون حساب ولم يتابع أحد ذلك. فكان يسيرا على الحركات الإسلامية الأكثر تطرفاً أن تسيطر على العديد منها وعلى العديد من المؤسسات الخيرية وغيرها.

ينتقل الباحث محمد الحداد في الأخير إلى الدفاع عن أطروحته بشأن الإصلاح، فيقول: "بدأت فكرة الإصلاح تنتقل من مقولة سياسية مدنية إلى مقولة دينية، لكن هذا الانتقال يضم مرحلتين متباينتين، في مرحلة أولى، انتقلت القضية من النخبة إلى طبقة أوسع من (الرأي العام)، وبما أن الثقافة السائدة كانت ثقافة دينية فقد كان طبيعياً أن تتحول مقولة الإصلاح من لغة نقدية إلى لغة دينية، ومن المعقولية إلى الحماسة، لكن الهدف، وهو تقوية حال المسلمين في مواجهة الأخطار الخارجية، لكن في مرحلة ثانية، تحولت هذه الأخطار الداهمة إلى أخطار جاثمة، وذلك بعد أن سقطت أغلب البلدان الإسلامية في براثن الاستعمار المباشر، هنا بدأ الدين الحصن الوحيد المتبقّي، وأصبحت فكرة الانحطاط بالابتعاد عن الدين والإصلاح بالعودة إليه شديدة الجاذبية. لقد انهار نهائياً، مع الاستعمار المباشر، التوازن التاريخي بين الدولة والدين في المجتمات الإسلامية، وبدا للمسلمين وكأنه لم يبقَ لهم إلا الدين، وأنّ المطلوب المحافظة عليه بأي ثمن، وأن مصيرهم أصبح ثانوياً أمام المخاطر التي تبدو محدقة بمصير الإسلام نفسه.

ومع ذلك، فقد كان هناك حل آخر غير الإيمان بنهاية الزمان أو العيش في انفصام حاد للشخصية، غير التضحية بالمسلمين من أجل الإسلام، وهذا الحلّ ما زال مطروحاً وملحّاً إلى اليوم، وهو الانتقال من نزوات  العنف إلى استراتيجيات الإصلاح.

سرديات نمطية يجب التخلص منها

لنعد إلى الأصناف الأربع للفعل ونتفحّصها واحداً واحداً، متخلِّصين الآن من ضغط السرديات النمطية السائدة، لقد انهارت معقولية القيمة، فالإسلام لم يعد أفضل الأديان، إلا في أذهان معتنقيه، بل بعض منهم فقط، والسبب في ذلك أن فكرة نهاية الأديان هي مثل فكرة نهاية التاريخ التي بشرت بها الفلسفة الغربية من هيغل إلى فوكوياما، إنها ببساطة فكرة تكذّبها الوقائع، فظهور الإسلام لم ينه الاختلافات الدينية بين البشر بل زاد عليها، ولم ينه وجود الأديان السابقة بل زادها قوة، ولم يكن خاتمة الأديان فقد ظهرت بعده أديان عديدة، ثم أيديولوجيات علمانية لا تقلّ تأثيراً عن الأديان.

ولقد حدثت تغيرات دينية عميقة في تاريخ البشرية لم يتابعها المسلمون في الوقت المناسب، فهم إلى وقت قريب (وبعضهم إلى اليوم) يدرسون تاريخ الأديان من كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني الذي عاش في القرن السادس هـ/ الثاني عشر، م. ولقد استغرب برنارد لويس كيف أن الكاتب الكبير حاجي خليفة، وكان من القلائل الذين اهتموا بتاريخ أوروبا، أطال في وصف المذاهب المسيحية القديمة التي اندثر أغلبها، ولم يكد يذكر شيئاً عن انقسام المسيحية إلى كنيستين أرثوذكسية ورومية، ثم انقسام المسيحية الرومية إلى كاثولويكية وبروتستناتية، وهما الحدثان الأكثر أهمية في التريخ الديني المسيحي، ولهما تبعات مباشرة على الإمبراطورية العلمانية.

هناك ثورة قيمية لا بد أن تحدث يوماً ما كي تتغير نظرة المسلمين إلى العالم ويتعاملون معه تعاملاً موضوعياً، ويخرجون من حالة الانفصام التي تجعلهم يعيشون على شعور الاستعلاء على الآخرين، ويضطرون للتذلل لهم في كل مناسبة لأنهم محتاجون إليهم في كل شؤونهم الحياتية ويمكن للعاطفة أن تخطب على المنابر صباح مساء، مشيدة بسماحة الإسلام وتسامحه، لكن قالت لن يجدي نفعاً إذا لم يحصل الانتقال من مقولة أفضل الأديان إلى مقولة أحد الأديان، ولن يمنع شباباً تربوا على عقيدة الجهاد من أن يخطر لهم يوماً ممارسته ضد الآخرين، فالعاطفة لا فائدة منها إذا لم تؤطرها معقولية القيمة، وقيمة التسامح لا تتجسّد في تغيير طريقة التعامل مع الآخرين بل في تغيير طريقة الرؤية إلى الذات، والحوار بين الأديان لا معنى له إذا لم يتضمن العزم الصادق على مساءلة النفس ومراجعتها.

لقد حدثت تغيرات دينية عميقة في تاريخ البشرية لم يتابعها المسلمون في الوقت المناسب، فهم إلى وقت قريب (وبعضهم إلى اليوم) يدرسون تاريخ الأديان من كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني الذي عاش في القرن السادس هـ/ الثاني عشر، م.

ولقد انهارت أيضاً معقولية الهدف وهي تحتاج بدورها إلى إصلاح شامل في المنظور الواقعي، لن يكون ممكناً لأية دولة (إسلامية)، ولا حتى لكل الدول الإسلامية مجتمعة، أن تحتل موقع الريادة والسيادة للبشرية، ولم يخسر العالم كثيراً منذ انحطاط المسلمين، بل تطوّر كثيراً في العلوم والمعارف والمهارات والاكتشافات والاختراعات، وفي معالجة الأمراض وتخفيض وفيات الأطفال وتطويل متوسط الأعمار، ولم يعد سهلاً على المجتمعات الإسلامية التي لم تواكب هذه التطورات منذ بدايتها أن تكون رائدة فيها، صحيح أن المسلم اليوم لم يعد يقف مشدوهاً منبهراً أمام النظام العلمي والتكنولوجي ولا يعدّه من العجائب والغرائب فيكتب فيه الأشعار والمدائح، لكنه ما زال بعيداً عن المساهمة في إنتاجه، وفي الغالب هو معجزة مستها، لقد استأنس العالم الحديث لكنه لم يصبح فاعلاً فيه يكفي أن تراجع قائمة الاختراعات والاكتشافات التي غيّرت العالم أو قائمة المتحصّلين على جوائز نوبل لتدرك الحجم الحقيقي للمساهمة الإسلامية في الحضارة الحديثة.

معقولية الهدف تتعلق في وضع طموحات وتطلعات واقعية وقابلة للتحقيق، أما الأهداف الطوباوية والمزايدات العقيمة، باسم الجهاد أو الثورة أو المقاومة، من صنف استرجاع الأندلس ورمي اليهود في البحر والإطاحة بالإمبريالية وأستاذية العالم وأسلحة المعرفة، كي لا نذكر استعادة الخلافة أو استقبال المهدي المنتظر، ليست مسكنات للعجز فحسب بل هي سبب من أسبابه الرئيسية، فالهدف الخاطئ يوجه إلى الوسائل الخاطئة، فتكديس الأسلحة التي لن تستخدم، أو أنها ستستخدم في حروب خاسرة، وتبني المساجد الفاخرة في الأحياء الفقيرة، وترفع قيمة الوقائع على حساب الأطباء والمهندسين، بدل تشجيع العلم الحديث والمعرفة النقدية وبناء المدارس والجامعات والمشافي، الدولة الحديثة هي الدولة المتواضعة كما قال أحد علماء الاجتماع، أما دولة الفتوحات والغزوات والقصور الفخمة والسلاطين العظام فقد ولّى عهدها، وإن ظل الحنين إليها يدغدغ مشاعر المسلمين في كل مكان، فكلما سنحت لهم بارقة أمل كاذب إلا وهرولوا نحو السراب.

هكذا تراجع مستوى العيش في أغلب البلدان الإسلامية نتيجة المغامرات العسكرية أو الثورجية الفاشلة، لقد رأينا كيف أوقف محمد علي دورة الإصلاح في مصر ليشترك في الحرب ضد اليونان، مع أن اليونان كانوا مثل المصريين، يتطلعون إلى الاستقلال من النظام القديم الجامد، هذا الخطأ الاستراتيجي تكرر دون حساب وفي حين تخلت الصين مرحلياً، من محاولة استرجاع جزيرة تايوان إلى أراضيها، أصر العرب بالعاطفة لا بالفعل على تحرير فلسين كلها ودفعة واحدة، فخسروها، بل لم يعد حال الكثير منهم بأفضل من حال أهلها.

اقرأ أيضا: نقد العقل الإسلامي العَصِيِّ على تبنِّي الحداثة.. قراءة في كتاب

اقرأ أيضا: فكرة كونية الإسلام كانت تعبيراً عن التطلع وليست للسيطرة على العالم