لم
يكن تصعيد
العدوان "
الإسرائيلي" على
سوريا من خلال قصف رئاسة الأركان،
وتوجيه قصف "تحذيري" لقصر الشعب الرئاسي مفاجئا. بل إن هذا التصعيد كان
متوقعا، إذا أدركنا طبيعة العلاقة بين
الاحتلال والمنطقة
العربية، وكيفية رؤية هذا
الاحتلال لنفسه ولمحيطه العربي وحتى غير العربي (تركيا وإيران).
إن
دلالات هذا العدوان الجديد ليست إلا تأكيدا للحقائق الجيوسياسية في المنطقة، والتي
يحاول البعض نسيانها أحيانا، أو التذاكي عليها أحيانا أخرى، ولكن طبائع السياسة
ترفض هذا النسيان أو التذاكي، فهي تفرض نفسها عليك وعلى محيطك، ما كان منه صديقا
أو معاديا، ولذلك فإن الحكمة هي التعاطي مع هذه الحقائق بدلا من محاولة الالتفاف
عليها، والخطوة الأولى لذلك هي الاعتراف بها، وتعريف نفسك، وتعريف عدوك، وتعريف
أصدقائك، قبل أن تبدأ بوضع الاستراتيجيات للتعامل معهم.
لم يلتفت الاحتلال إذن لسلوك الدولة السورية الجديدة، ولا إلى لغتها الدبلوماسية الناعمة، ولكنه نظر إلى حقيقته وحقيقتها كما يفهمها استراتيجيا، فهو دولة غريبة مقحمة في المحيط، ولا بد له من أجل الاستمرار أن يبقي على تفوقه الأمني والعسكري، وهذا لا يتم إلا بإضعاف الأطراف الأخرى
إن
الدلالة الأولى التي يؤكدها العدوان "الإسرائيلي" على دمشق هي أنه عدو
لكل دول المنطقة، بغض النظر عن سلوك هذه الدول. لم تنتهج سوريا الجديدة أي سياسة
"تستفز" دولة الاحتلال، بل إنها تعرضت للنقد -المحق- بسبب رسائل
التطمينات المجانية للاحتلال، ومع ذلك فإن الكيان قصفها مئات المرات منذ سقط الأسد
-وقبل سقوطه بالطبع- مرة لمنع وجود تهديد عسكري منها، وأخرى بحجة حماية الأكراد،
والآن بحجة حماية الدروز.
لم
يلتفت الاحتلال إذن لسلوك الدولة السورية الجديدة، ولا إلى لغتها الدبلوماسية
الناعمة، ولكنه نظر إلى حقيقته وحقيقتها كما يفهمها استراتيجيا، فهو دولة غريبة
مقحمة في المحيط، ولا بد له من أجل الاستمرار أن يبقي على تفوقه الأمني والعسكري،
وهذا لا يتم إلا بإضعاف الأطراف الأخرى، ولذلك فإن سوريا يجب أن تبقى ضعيفة، مهددة
بالتقسيم.
يضاف
إلى هذه الطبيعة التأسيسية للاحتلال، وفهم دوره وعلاقته مع محيطه، أن الحكومة
الحالية -والغالبية العظمى للساحة السياسية "الإسرائيلية- الآن هي من أتباع
مدرسة "الصهيونية التصحيحية"
التي أسسها زئيف جابوتنسكي، وهي الأب الشرعي لحزب الليكود وما تفرع عنه. هذه
الطبعة من الصهيونية التي تتبنى سياسة "الجدار الحديدي" ترى أن القوة هي
الشيء الوحيد الذي سيفرض جدارا حديديا يمنع العرب من السعي لمواجهة
"إسرائيل"، وقد تعزز هذا التيار بعد عملية 7 أكتوبر، ومع اطمئنان
الاحتلال أنه يستطيع أن يضرب أي عاصمة في المنطقة دون رد حقيقي/ جذري، وبدعم
أمريكي وغربي كامل.
مع
وجود هذه "النخبة السياسية" في دولة الاحتلال، وبالنظر لتطورات الأحداث
منذ 7 أكتوبر، فإن تل أبيب لم تعد تقبل أي دولة عربية أو محيطة لمجرد أنها مسالمة
ولا تمثل تهديدا، أو أنها تصدر لغة مهادنة، ولكنها تسعى أولا للسيطرة التامة على
المنطقة، والتحكم بدولها بما في ذلك بعض سياساتها الداخلية، وإضعافها قدر الإمكان.
بعدها فقط يمكن أن يسمح لها العيش بسلام.
الدلالة
الثانية التي يؤكدها العدوان على سوريا هي الحقيقة التي أنكرها الانعزاليون العرب
كثيرا وروجوا لسقوطها خلال العقدين الأخيرين، وهي أن "إسرائيل" موجودة
تقريبا في كل صراع عربي، سواء كان داخليا أو بين دولة عربية وأخرى، ولذلك فإن
الاحتلال ليس مشكلة فلسطينية، وإن كانت فلسطين هي التمظهر الأكثر فداحة ومأساوية
له، بل هو مشكلة عربية. في الحالة السورية تبرز مشكلة الأقليات، وهي نفسها التي
استخدمت من قبل الاحتلال بخصوص ملفات الأكراد، والمسيحيين في جنوب السودان، وغيرهم
من الأقليات. ولكن مشكلات مختلفة قد تكون هي المدخل للاحتلال في الدول العربية
الأخرى مثل: الطاقة، التسليح، اللاجئين.. الخ. دائما ثمة مشكلة يمكن للاحتلال أن
ينفذ منها ليصبح جزءا من الصراع مع هذه الدولة العربية أو تلك، ولذلك فلن تهدأ
الدول العربية وتستقر إلا بزوال هذا الاحتلال. وهذا يقودونا إلى الدلالة الثالثة!
كل ما سبق من دلالات للعدوان "الإسرائيلي" على سوريا يعني أن مصير المنطقة لا يزال غير واضح، ويشبه البحر المائج. ما بدأ في 2011 هو بداية نهاية أو إعلان فشل ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى، كل ما جرى ويجري بعد هذا التاريخ هو صراع على شكل الترتيبات الجديدة للمنطقة
يقول
بعض العرب إن اللغة الناعمة والتطمينات من هذه الدولة العربية أو تلك لدولة
الاحتلال ضرورية للهدوء، وهذا الهدوء ضروري للتنمية وتقدم الدول العربية، التي
يعتبر تقدمها ضرورة لمصلحة فلسطين لاحقا. ولكن العدوان "الإسرائيلي" على
سوريا يؤكد سقوط هذه النظرية. لن يسمح الاحتلال بتطور أو تنمية أي دولة عربية
مجاورة لأن هذا بالفعل ليس في مصلحته. قد يسكت عن بعض القشور من الرفاهية في بعض
الدول العربية، ولكنه يتحول إلى وحش حتى عندما تريد دولة بعيدة عنه تطوير قدراتها
الحقيقية بعيدا عن اقتصاد النفط مثلا، كما حصل في
موقفه الرافض من الطلب السعودي
للولايات المتحدة لإقامة مفاعل نووي سلمي، أو دوره في تعطيل صفقة بيع طائرات إف 35
الأمريكية للإمارات.
الدلالة الرابعة للعدوان الغاشم ضد سوريا اليوم هي سقوط النظرية
-المبنية غالبا على موقف مسبق من كل ما جرى في سوريا منذ بداية الثورة السلمية عام
2011- والتي تقول إن الحكم الجديد في سوريا هو مشروع صهيوني. صحيح أن هناك ملاحظات
ونقد على سلوكه تجاه الاحتلال، ولكن من التسطيح والخطأ الاستنتاج أنه مشروع صهيوني
وينفذ أجندة صهيونية. وصحيح أن دولة الاحتلال أبدت سعادتها في
البداية لسقوط الأسد، ولكنها أعلنت أكثر من مرة أن
النظام الجديد في سوريا هو نظام
"متطرف ومعاد".
كل
ما سبق من دلالات للعدوان "الإسرائيلي" على سوريا يعني أن مصير المنطقة
لا يزال غير واضح، ويشبه البحر المائج. ما بدأ في 2011 هو بداية نهاية أو إعلان
فشل ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى، كل ما جرى ويجري بعد هذا التاريخ هو
صراع على شكل الترتيبات الجديدة للمنطقة. للأسف فإن دخول أي طرف عربي وحيدا لهذا
الصراع هو محتوم بالفشل، ولكن هذا الفشل ليس نتيجة مؤبدة على أية حال، فلا يزال
الصراع محتدما، ومن المبكر الحكم على شكل المنطقة القادم.
x.com/ferasabuhelal