كتب

العنف بين الأديان والقانون الدولي.. قراءة نقدية في مشروع السلام المستحيل

اللا عنف ممارسة سياسية نضالية أرسى دعائمها الهندي غاندي وتحوّلت إلى رؤية فلسفية لاحقا تبنتها لاحقا الجمعيات المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية والسياسية والحركات المعترضة على الحرب أو المناوئة لانتشار أسلحة الدمار الشامل وحركات البيئة والمناخ.
الكتاب: سؤال العنف بين الأديان والقانون الدولي الإنساني
الكاتب: بو بكر المباركي
الناشر: مجمع الأطرش للكتاب المختص 2025
عدد الصفحات 470 صفحة.

ـ 1 ـ


يمثّل العنف موضوعا محفّزا للتفكير الفلسفي والسياسي والاجتماعي لما فيه من المفارقات العديدة، كأن يخلّف أذى عميقا في حياة الأفراد والمجتمعات ويمثّل في الآن نفسه أداة لا بدّ منها لضمان حياة اجتماعية مستقرّة أو كأن يكون مولّدا المفاهيم المختلفة،  فتكون ذات غطاء إيديولوجي يبرّر مشروعيته شأن المناداة بـ"العنف الثوري أو "الفوضى الخلاقة" أو تصحب بنيرة تهجين وإدانة كالحديث عن "الوضع العنيف" أو الإفراط في استعمال العنف.

ورغم كونه ظاهرة شاملة غطت تعبيراته حقولا ومجالات واسعة في اللغة والدين والثقافة والفن ظلت الدراسات التي تهتم به في عالمنا الإسلامي قليلة. وهذا ما حفّز الباحث بوبكر المباركي لدراسة "الدور العظيم الذي العبه العنف دائما في شؤون البشر " وللتعرف على مدى توجيهه لحركة التاريخ ودرجة تأثيره في صناعة القيم والحضارات أو هدمها. فيطرح أسئلته الحارقة بين مستويين متداخلين حينا متصادمين غالبا هما الشرائع السماوية والقانون الدولي. ويجعله موضوعا لأطروحة دكتوراه ناقشها بالجامعة التونسية.

ـ 2 ـ

تناول باحثون أفذاذ دراسة الظاهرة في أبعادها والنفسية والأنثروبولوجية وميّزوا أساسا بين نمطين منها هما العنف الإيجابي ومراد الصفة هنا  حضوره على نحو صريح ومباشر  والعنف السلبي  أي ما يمارس منه على نحو غير المباشر وغير العلني. فكثيرة هي الضغوط الاجتماعية أو السياسية والاقتصادية والإعلامية التي تعدّ شرعية وقانونية وتبدو منسجمة مع طبائع الأشياء والحياة. ولكن رغم مظهرها المسالم تندرج في باب العنف السلبي الذي لا يختلف جوهريا عن الإيجابي. ويميل الباحث إلى إدراج فلسفة اللا عنف ضمن العنف السلبي.

يحاول هذا الأثر الوقوع على البنى العميقة لمنظومات الشرائع السماوية على اختلافها والقوانين الدولية الوضعية على تعددها. فينزّلها ضمن علم الاجتماع السياسي الذي يذهب إلى أنّ العنف يُمارس وفق مبررات قانونية تربطه بالدولة وتجعله ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري.
واللا عنف ممارسة سياسية نضالية أرسى دعائمها الهندي غاندي وتحوّلت إلى رؤية فلسفية لاحقا تبنتها لاحقا الجمعيات المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية والسياسية والحركات المعترضة على الحرب أو المناوئة لانتشار أسلحة الدمار الشامل وحركات البيئة والمناخ. من خصائصها استبعاد العنف المادي المباشر من قاموسها. وليس في اختيارها هذا ضعف أو استسلام قدري للمظالم، بل هو عمل مقاوم ومؤثّر، قد يمارس بقوة وإصرار يلحقان الضرر بمصالح الخصوم، ولذلك فإن كلمة العنف قد لا تقابل اللا عنف أو تنفصل عنه بل توجد في خط مواز له.

ـ 3 ـ

بيّن إذن أنّ مسألة العنف مسألة شاملة عابرة للزمان منتشرة في المكان. وهذا ما أوجب على المباركي تحديد الزّاوية التي يقارب منها موضوعه. فتناوله من منطلق المقارنة بين الإلهي ( أو تمثلات البشر للمقدس على الأصح) والبشري. وهذا ما جعل الإجابة مركّبة توازن بين مواقف اليهودية والمسيحية والإسلام من العنف أولا ثم تقارنها بتصوّرات القوانين الدّولية منه. فانفتح الأثر على شيء من علم الأديان المقارن رغم نفي الباحث أن يكون ذلك من خلفياته النّظرية. وتنزّل ضمن مشروع علمي بدأ مع أثره "صورة المكان في النصوص الدينية: القدس أنموذجا".  ففي هذا الأثر  خلص المباركي إلى أنّ النصوص التوراتية والإسلامية تبرز التنازع القائم في ميراث الأرض المقدسة بين نسل داوود ويعقوب وأتباعه المنحدرين من رحم سارة و نسل إسماعيل وأتباع محمد المنحدرين من رحم هاجر.

وما جعله يصل بين شرائع الأرض والسماء في دراسة العنف في مباحثه انتباهه إلى أنّ قضية القدس كانت جوهر صراع دموي عنيف عجزت عن حله منظومة القانون الدولي ومؤسساته، لدور التصورات والمفاهيم المقدسة في تغذيته. فرغم ظهور أصوات تنادي بالحوار بين الشعوب والأديان خلال بداية القرن الحادي والعشرين أو تبحث عن سبل للحد من العنف والحروب تعمل أطراف أخرى أعلى صوتا ضمن الدراسات الاستشراقية أو الإعلام الغربي الذي يعاني من رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) لتؤججه. فتنظر إلى القرآن الكريم والحديث النبوي على أنهما مصدرا التحريض على الكراهية والعنف. وتغفل بالمقابل يقوم به غلاة المسيحية واليهود من مذابح وقطاعات ضد غيرهم وضد بعضهم لبعض باسم نصوص الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.

ـ 4 ـ

يقدّر المباركي أنّ الدراسات الغربية التي تتحيّز ضد الإسلام خاصّة وتختزله في خطاب جماعات تصر على احتكار تمثيله فتزيّف مقاصده وتهدر قيمه الروحية، أسهمت في حجب رسالة الأديان عامّة ومقاصدها الكلية في إشاعة السلم والتراحم والمحبة بين الناس ودورها في تجفيف منابع العنف والعدوانية والتعصب. وعليه يراهن على تناول المسألة بنفسه من منطلق مدونة النصوص المقدسة التي تثبت روح اللاعنف ويسعى إلى فهم أعمق لالتباس بعض النصوص بالدعوة للشدة والقسوة والقوة أو حثها على السلم والرحمة، عبر استجماع آليات البحث و عرض آيات القرآن الكريم والكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد على مقتضى ما توفر له من بحوث ودراسات علمية.

أول العقبات التي واجهها بوبكر المباركي  في بحثه تلك النزعة السارية التي تختزل الإسلام  في الدين الميال إلى العنف. ويردها إلى أمرين، أولهما انطباع يختزل زمن الإسلام المبكر في مشاهد الغزو والفتوحات ويحجب الجوانب الروحية من الدين الإسلامي  التي تسعى إلى حياة مستقرة آمنة. وثانيهما الرؤية الاستعمارية التي سعت إلى تكريس فكرة  الإسلام بما هو دين عنيف وإلى الحيلولة دون النظر إليه في كليته. فكانت تعزل الآيات عن أسباب نزولها وتنتزع الأحاديث النبوية من سياقاتها التاريخية بقصد ونية.

ـ 5 ـ

المقابل هذه الصورة النمطية يعود الباحث في أثره هذا إلى النصوص المؤسسة ليصادر على أن الإسلام تضمن رؤية متكاملة لشروط اعتماد القوة ولأساليبها. فيتتبع النصوص. ويستدعي سياقاتها ويناقش وتأويلاتها المختلفة. ويقدّر أن بعض القراءات كانت تفهمها متأثرة بالموروث الثقافي الجاهلي المتغني بالبطولات والممجد لحسن البلاء في الحرب أكثر مما تصدر عن روح تلك النصوص أو تربطها بالمنظومة القيمية للدين الإسلامي. أما النصوص التأسيسية في حدّ ذاتها "فقد عكست مبادئ الرحمة والموادعة التي تعد جوهر الرسالة المحمدية. كما أدانت نصوص أخرى كل إساءة لكرامة الإنسان من الغيبة والنميمة أو انتهاك الحرمة الجسدية".  وجسّدت تعاليم دين ناشئ يؤسس إلى جملة من المثل الأخلاقية وينزّلها ضمن القيم الإنسانية فيحرص على صون كرامة الإنسان وتحريره في زمني السلم والحرب.

يعد الدين محدّدا لهوية الأفراد والجماعات ومؤسسا لذاكرتهم المشتركة. ولكن التعصب له أو للمذهب يجعل المتدين يرى في الآخر نفيا للذات ومن هنا تنشأ الأصوليات.
ولئن تمثّل الاتجاه الغالب على هذه المنظومة في الدعوة إلى المسالمة والموادعة فإن الاجتماع الآمن يقتضي الدفاع عن النفس ويتطلب القوه الرادعة وهذا ما حرص الدين الإسلامي على ضمانه بعيدا عن  أشكال الظلم والعدوان والإكراه والاعتداء على الممتلكات الخاصّة بما هي انحراف عن سنن العمران البشري. وعليه يجمل موقف الإسلام من العنف في كون القتل فعل مدان باستمرار وفي كون قاتل النفس بغير ذنب كأنما قتل الناس جميعا. أما من أحياها فكأنها أحيا الناس جميعا.

ـ 6 ـ

يخوض الباحث في سؤال العنف في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ساعيا إلى تبين بعض أشكال التدين اليهودي والمسيحي عامة وممارسته في التاريخ وإلى فهم نظام قيمه ومعانيه دون أن تكون غايته المقارنة بين الأديان أو المفاضلة بينها. وانطلاقا من عرض نصوص"العهد القديم"، يصادر على أنّ آيات كثيرة منه تتواتر. فتشكلّ لاهوت عنف مقدس يدفع خطابه إلى استباحه الأغيار ويجعلهم في مرتبة دونية ويقصر دورهم على خدمة الشعب المختار.ويلاحظ أنها ترسم صورة للرب المحارب الذي يقود الجيوش بنفسه. فتمنح "الشعب المختار" المشروعية ليخوض حروبه المقدسة باسمه وليضرب أعداءه بدلا عنه. ويعرّج في هذا المستوى على يشوع بن نون الذي يمارس شريعة الإفناء تنفيذا لأوامر هذا الإله الغاضب فيستبيح مدن الشعوب ويسفك  دماء الأغيار بلا رحمة أو شفقة. ثم يُجازى بتحقيق الوعد الإلهي. فيُملّك الأرض التي تفيض عسلا ولبنا وتُسخّر له ولأهله الشّعوب لخدمته بلا كلل كما الحمير.

ويدرس في فصل لاحق  آيات العهد الجديد. فيجد أنها تعتبر السيد المسيح ابن الله الذي جاء ليخلّص الإنسانية من تبعات الخطيئة الأولى. فيقلّب النظر في كيفية تفاعلها مع واقع يرفض رسالته ويضطهد أتباعه ضمن رؤية للإصلاح والدّعوة للحق الذي أشار له بحدّ السّيف، الذي يتكرّر ذكره لأكثر من 500 مرة،  قائلا: ما جئت لألقي سلاما ولكن سيفا". فيذهب أغلب مفسّر ي الكتاب المقدّس على حمل هذا القول على المجاز. ويجدون في عبارة السيف إشارة إلى الحقّ ويشدّدون على أنّ غاية دعوة المسيح هي السّلام، ولكنهم يضيفون أنّ هذا الخلاص لا يتحقّق إلا داخل الكنيسة. وهذا ما جعل المسيحيين الأوائل ممزقين بين اعتماد التسامح والمحبة أو استعداء من هم خارج الكنيسة فيقسون عليهم.

ويجد أنّ هذه الرؤية الثانية العنيفة قد سادت في التاريخ السياسي للمجتمعات المسيحية وتجسدت فعليا في الصدامات بين الأرثودوكس والبروتستانتية أو من خلال الحرب الصليبية أو محاكم التفتيش التي خضع لها الموريسكيون بعد سقوط الأندلس. فرغم دعوات التسامح ارتكبت أكثر الجرائم وحشية باسم الدين المسيحي.

ـ 7 ـ

يعد الدين محدّدا لهوية الأفراد والجماعات ومؤسسا لذاكرتهم المشتركة. ولكن التعصب له أو للمذهب يجعل المتدين يرى في الآخر  نفيا للذات ومن هنا تنشأ الأصوليات. والأصولية مصطلح كان يفيد الالتزام بالأصول الدينية والأخلاقية والالتزام بها. ثم تحوّل ليأخذ دلالته السالبة ليرتبط بعديد الانحرافات المفضية إلى التطرف والعنصرية والإرهاب والمسببة للحروب وللإبادة الجماعية والتطهير العرقي.  فيناقض في جوهره روح التدين الحق الذي هو التعايش مع الآخر المختلف على أساس عدم الاعتداء على الآخر وحفظ نفسه وصيانة ماله وعرضه.

العقد الاجتماعي وما يتطلّب من إلزام يعني في الفلسفة السياسية أن يتخلى الأفراد عن بعض حقوقهم لصالح المجموعة وأن يُوكل إلى الدولة وحدها حقّ ممارسة العنف لفرض النظام وحمل الجميع على تطبيق القوانين. وهذا ما يجعل النظام وعنف الدولة المشروع متلازمين.
والقواعد التي تحكم التديّن النقي من الانحرافات هي نفسها التي تحدّد القوانين الإنسانية والاتفاقيات الدولية. فتعمل على التصدي للعنف والإرهاب وتلاحق مجرمي الحروب ومنتهكي حقوق المدنيين. وتسري قناعة اليوم عند فقهاء القانون أن أولى خطوات مواجهة ظاهرة العنف والإرهاب والحروب تتمثل في إشاعة روح التسامح والتعارف والحوار بين الشعوب بدلا من زرع بذور الحقد والظلم والكراهية والتحكم في ثروات الآخرين والتسلّط عليهم والتحكم في مصائرهم. فذلك أجدى من ضبط ترسانة من فصول القوانين والاتفاقيات التي يعسر تطبيقها على الأرض لصعوبات موضوعية كثيرة.

ـ 8 ـ

يحاول هذا الأثر الوقوع على البنى العميقة لمنظومات الشرائع السماوية على اختلافها والقوانين الدولية الوضعية على تعددها. فينزّلها ضمن علم الاجتماع السياسي الذي يذهب إلى أنّ العنف يُمارس وفق مبررات قانونية تربطه بالدولة وتجعله ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري. فالعقد الاجتماعي وما يتطلّب من إلزام  يعني في الفلسفة السياسية أن يتخلى الأفراد عن بعض حقوقهم لصالح المجموعة وأن يُوكل إلى الدولة وحدها حقّ ممارسة العنف لفرض النظام وحمل الجميع على تطبيق القوانين. وهذا ما يجعل النظام وعنف الدولة المشروع متلازمين.

ويأمل من خلال البحث عن الكوني من القيم الدينية أو القوانين المدنية الوضعية في إشاعة الطمأنينة في النفوس وإحلال السلام والأمن في العالم. ولكن الباحث ينتبه في خاتمة أطروحته إلى أنّ هذا التصور مثالي لا يمكن أن يتحقّق فعليا. فمنظومة القيم الأخلاقية الدينية أضحت عاجزة عن مواجهة العنف والحروب. وضعف منظومة القانون الدولي الإنساني ضعيفة غير قادرة على تحقيق السلم الدولي والإنساني بين البشر. لذلك يتساءل محبطا "هل يمكن عبر الحوار بين الأديان والحضارات بناء الثّقة والتواصل بين الأمم لمواجهة العنف وبناء سلام دائم بين الدول والشعوب؟" فلا يكاد تصوره للعلاقات الدولية يختلف عمّا جاء في أثره"صورة المكان في النصوص الدينية: القدس أنموذجا".