إنه طوفان من الشماتة محمود؛ "ولمن انتصر بعد ظلمه
فأولئك ما عليهم من سبيل"، حتى وإن كان الانتصار بحيلة العاجز، أمام ظلم
بواح، وأحكام جائزة، وخروج على كل القيم والتقاليد القضائية!
وقد تابعت هذا الطوفان، لكني كنت مشغولا بشيء آخر وهو
الوصول إلى معلومات عن هذا الذي كان لسنوات ملء السمع والبصر دون معلومات متوفرة
عنه، ولعله أحيل للتقاعد لبلوغه الإحالة للمعاش، وربما لا يزال في الخدمة، لكنه
انتهى من قضايا الرأي العام بصدور الأحكام من دائرته، ودوائر غيره من قضاة مثلوا
عنوانا سلبيا للعدالة. لا أعرف كم تحتاج
مصر من الوقت، وكم تحتاج من جهد، لتجاوز
ما تسبب فيه هؤلاء من إساءة، رغم أنهم يمثلون عددا قليلا من القضاة والدوائر، ولا
يمكن أن يمثلوا الجسم القضائي العام!
وددت لو أن تجربة الحكم الحالية لجأت إلى النموذج الناصري،
فالرئيس عبد الناصر كان يدرك أن
القضاء الذي نال استقلاله (في العهد البائد)، وكان
القضاة يدركون أنهم سلطة ليست تابعة لأي سلطة، من الصعب أن يحقق من خلالهم ما يريد،
فكان القضاء الموازي، وكانت المحاكم الاستثنائية، مثل محكمة الشعب التي يديرها
صغار الضباط، مثل السادات وحسين الشافعي، وأيضا مثل الجهول التافه اللواء الدجوي
الذي اختير رئيسا لها لفترة بعد تجربة في الأسر لدى إسرائيل، انهار خلالها ولعن
عبر الإذاعة جمال عبد الناصر، لكن الرجل الخبرة بالناس، أدرك أن هذا الجبان، صاحب
السابقة غير المشرفة سيكون عجيبة في يده، فلا مستقبل يصنعه، ولا تاريخ يحافظ عليه!
لا أعرف كم تحتاج مصر من الوقت، وكم تحتاج من جهد، لتجاوز ما تسبب فيه هؤلاء من إساءة، رغم أنهم يمثلون عددا قليلا من القضاة والدوائر، ولا يمكن أن يمثلوا الجسم القضائي العام!
ولهذا كان مما يصيبني بالدهشة محاولة الناصريين إدخال
الغش والتدليس على الناس، بالتأكيد على أن جاسوسية مصطفى أمين ثابتة بحكم قضائي هو
عنوان الحقيقة، وأن السادات أفرج عنه بعفو صحي دون رد الاعتبار إليه، في تجاوز تام
بأنه لم يحاكم أمام قاضيه الطبيعي، ولكن عن طريق القضاء الموازي الذي صنعه الزعيم
الأوحد على عينه، ومكنه من سمعة الخصوم وكرامتهم!
ولم يكن عبد الناصر بحاجة إلى القضاء الطبيعي، ولهذا فإن
مذبحة القضاة كانت لأسباب سياسية، ولأنه لم يتمكن من تطويع نادي القضاة، فاستن
قانونا جديدا ليعطيه سلطة إعادة تعيين القضاة، ففعل واستبعد مائتي قاض، عادوا بحكم
قضائي في بداية عهد السادات!
الجاهل بالقانون:
وعلى مدى ثلاثين عاما فإن الرأي العام لم يعرف سوى دائرة
واحدة يتيمة بنظام مبارك، أحيل رئيسها للمعاش، فاستبدل دائرة بدائرة، هي التي
حاكمت سعد الدين إبراهيم وأيمن نور وآخرين، واللافت أنها نفس الدائرة التي أحيل
لها ملف قضية الرئيس مبارك بعد ثورة يناير 2011، لكن أحد المحامين عن أسر شهداء
الثورة هدد بتقديم طلب برد المحكمة في أول جلسة، فدخل معه في مساومات انتهت إلى
تنحيه طواعية استشعارا للحرج دون تقديم طلب برده!
الأمر اختلف بعد ذلك من خلال هذا العدد من الدوائر الذي
نظر في قضايا سجناء الرأي (وهو مسمى قانوني لعل أول من ذكره في أحكامه هو المستشار
سعيد العشماوي منذ قضية التنظيم الناصري المسلح)، وهذه الدوائر هي لمرحلة كثر فيها
أعداد المتهمين، وكان يمكن قبول الأمر، لولا الرعونة التي بدا عليها رؤساء هذه
الدوائر وكان القاضي
شعبان الشامي هو أحد هؤلاء!
فمن أين جاء الشامي هذا؟ فلم نكن نعرف منهم سوى القاضي
شيرين فهمي، لأن عمله قديما في النيابة كان له صلة بقضايا الرأي العام، وكان
معروفا عنه اعتداده بنفسه، ويمكن فهم قبوله لهذه القضايا، وتعامله مع الماثلين
أمامه بقسوة، أنه يعبر عن انحيازاته، ويدافع عن دولته، وبالمقارنة بين عجرفته في
التعامل مع الرئيس محمد مرسي وخنوعه أمام الرئيس مبارك (وكلاهما متهم)، يتجلى هذا
الانحياز واضحا، وما كان له أن يجهر به، فيتعامل كضابط بوليس في قضية نشل في
الأتوبيس، لكنه رأى أن ينهي حياته القضائية هذه النهاية البائسة!
أما الشامي وإخوانه، فلم نتعرف عليهم من قبل ذلك، كما لم
أجد محاميا واحدا ترافع أمامهم في السابق في أي قضية، وإذا استبعدنا شيرين فهمي،
فلم يكون هؤلاء يمتلكون القدرة حتى على إدارة الجلسات بشكل يحفظ للقضاء وقاره،
لأنهم بدوا يجهلون ما عليهم، فكان هذا الباب الذي دخل منه بعض المحامين للأخذ
والرد معهم، للانجرار في مشاجرات قبل مرحلة الاشتباك بالأيدي، يبدو خلالها القاضي
الجليل جاهلا بالقانون، غشيما في التعامل!
الطوفان المرعب:
لا أدري كيف أمكن لهذا الضعف المطاع أن يتم قبوله ابتداء في سلك القضاء، فمتى حدث هذا وكيف حدث؟ وكيف نجح في الاختبارات؟!
وقد جمع بين الشامي وآخر العجز في القراءة السليمة، وهما
من تخرجا في كلية الخطباء (الحقوق)، والتي كانت معملا لتخريج الساسة، صحيح أنه بعد
عام 1952 تم إهدار كرامتها لصالح كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي أنشئت بعد
ذلك (فكرة هيكل)، وتخرجت منها الابنة الكبرى لجمال عبد الناصر وخطيبها (زوجها فيما
بعد وطليقها الآن)، لكن مع كل ما لحقها من استخفاف لم يكن يُتصور أن يكون من تخرج
فيها على هذه الدرجة من الإعياء التام في القراءة من ورقة مكتوبة! ولا أدري كيف
أمكن لهذا الضعف المطاع أن يتم قبوله ابتداء في سلك القضاء، فمتى حدث هذا وكيف حدث؟
وكيف نجح في الاختبارات؟!
وبينما طوفان الشماتة بغرق منصات التواصل الاجتماعي،
بشكل وصفه لي زميل بأنه "مرعب"، كنت أنا مشغولا بمحاولة التوصل إلى
معلومات عن الفقيد، الذي قال خبر وفاته إنه عاش في صراع مع المرض لفترة طويلة، دون
أن نسمع عنه شيئا ودون حتى إرساله للخارج للعلاج من باب تكريمه، والدولة المصرية
عرفت هذا النوع من التكريم، وعندما نُقل الشاعر عبد الرحمن الأبنودي لمستشفى القصر
العيني، بسبب جرعة زائد من الدواء، أمر مبارك بسفره للعلاج في باريس، وهو العرض
الذي قدمه له في اتصال هاتفي، فلما قال له الشاعر الكبير إن الأمر لا يستدعي السفر
للعلاج، قال له الرئيس: "روح اتفسح"!
وميزة الحكم الحالي أنه لا يشعر أن عليه
"فواتير" لأحد، ومن ثم صار أمر شعبان الشامي يخصه. وبعض المتحمسين
للمرحلة ظنوا في مرحلة معينة أنهم شركاء في الحكم، فجاءتهم البيانات فالتزموا
حدودهم، مثل أحمد الزند، وتهاني الجبالي، وأيضا مثل عدد من الإعلاميين!
وبدا هذا واضحا في التشييع المتواضع لجثمان الفقيد، فلا
ممثل عن السلطة ولا حشد من القضاة، وقد تمت الجنازة بدون حضور رئيس النادي أو أي
من أعضاء المجلس، وإن كنت أعتقد أنه ستتم التغطية على هذه الصورة بسرادق عزاء
ممتلئ، لأن هذا التشييع المهين مثل مدخلا لشماتة الشامتين، إنها جنازة بدت قاصرة
على الجيران، فأين أهل الفقيد، هل هو مقطوع من شجرة؟ وأين اللياقة الاجتماعية التي
يشترط توافرها فيمن يعينون في القضاء والخارجية، وقد استُبعد الشاب المتفوق دراسيا
والذي تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية من العمل في وزارة الخارجية لعدم
لياقته اجتماعيا، فانتحر بإلقاء نفسه في نهر النيل؟!
بعض المتحمسين للمرحلة ظنوا في مرحلة معينة أنهم شركاء في الحكم، فجاءتهم البيانات فالتزموا حدودهم، مثل أحمد الزند، وتهاني الجبالي، وأيضا مثل عدد من الإعلاميين!
وبدا هذا واضحا في التشييع المتواضع لجثمان الفقيد، فلا ممثل عن السلطة ولا حشد من القضاة، وقد تمت الجنازة بدون حضور رئيس النادي أو أي من أعضاء المجلس
العزوة الغائبة:
وفي مجتمع المدينة فإن البديل لعزوة القبيلة هي عزوة
الزملاء والأصدقاء ومحيط العمل، وفي حالته فإن السلطة هي البديل لهذا وبإمكانها
خلق جنازة مهيبة، لكنها لم تكترث بهؤلاء، ولم يستطيعوا أن يبرروا أحكامهم بما يمثل
سلاحا في معركة الصراع السياسي!
ولا أعرف لماذا كان الحرص على تصوير الجلسات ونقلها
أحيانا على الهواء، واستبعاد الحكمة القائلة إذا ابتليتم فاستتروا، وأي بلاء على
القاضي أكبر من عجزه عن قراءة جملة بشكل صحيح، فيهين وظيفته ويفضح نظام التعليم في
مصر، وقد بدا وهو يقرأ حيثيات الحكم مجرد حامل لشهادة محو الأمية.. فمن هؤلاء
الناس، ومن أين جيء بهم؟!
بحثت ولم أجد على النار هدى، وانتظرت في المنشورات على
منصات التواصل الاجتماعي، أو التعليقات لعلي أجد من يقول إنه يعرفه عن قرب؛ كأن
يكون زميلا في العمل، أو رفيقا في السفر، أو جارا بالجنب، أو زميل دراسة، لنقف على
شخصيته. وأنا مشغول بالبحث في أصل وفصل مثل هذه الشخصيات الغريبة، ففي النشأة
والتكوين والمحيط الاجتماعي من قبل ما يفسر الحالة، فعلتها مع قيس سعيد، وعندما
احتدم الخلاف مع الكَل على مولاه والمقطوع من شجرة، رئيس مجلس الشورى أحمد فهمي،
وليس في سجله ما يؤهله لهذه الترقية إلا أنه صهر رئيس حزب الحرية والعدالة، ذهبت
أكتب على منصات التواصل سائلا من هذا الشخص؟ من يعرفه؟ ما هو تاريخه؟ ما هي حكايته؟
إلى أن وجدت بعد معاناة من يرد بأن المذكور ترك بلده المنوفية مبكرا، وتزوج في
الشرقية، حيث يعمل في جامعة الزقازيق، وقديما سئل جحا عن بلده؟ فأجاب: التي منها
زوجتي!
وعندما قلت لرئيس أحد الأحزاب إنني أشك أن رئيس مجلس
الشورى إخوان، فأنا أعرف نخبتهم بحكم عملي الصحفي.. أجاب بثقة بالغة: أؤكد لك أنه
إخوان، فلما عدت لأسأله عن مصدر المعلومة وبدا لي أني وقعت على كنز ثمين... قال
أخبرني بذلك قائد الحرس، فلما سألته وكيف عرف؟ قال إنه اعتقل لمرة واحدة وهذا هو
الضابط الذي ألقى القبض عليه، فكرمه بهذا التعيين!
حتى رئيس البرلمان السابق علي عبد العال، وجدت قاضيا
يقول إنه زامله في كلية الحقوق، وأن عبد العال هذا كان الأول على دفعته.. تصور يا مؤمن،
هذا الذي يحتاج لإعادة صياغة، هو الأول على دفعته!
ومع هذا لم أعثر على معلومة عن القاضي شعبان الشامي، أو
قاضي الإعدامات الذي غادر وترك لأسرته كل هذا التراث من الشماتة. فمن يسرّه الآن
أن يقول إنه قريب أو زميل أو نسيب شعبان الشامي!
إنها شماتة مرعبة!
x.com/selimazouz1