ملفات وتقارير

الجزائر تحيي الذكرى الـ80 لمجازر 8 ماي وسط توتر خارجي وجدال داخلي

تستعد الحكومة الجزائرية لإحياء الذكرى الثمانين لمجازر 8 ماي 1945 ببرنامج وطني شامل يستهدف تمجيد الذاكرة الجماعية، وسط تصاعد التوترات مع فرنسا، واستمرار الجدل الداخلي حول الهوية الوطنية.. فيسبوك
في وقت تعيش فيه الجزائر سياقاً وطنياً ودولياً مشحوناً، تستعد الحكومة لإحياء الذكرى الثمانين لمجازر 8 ماي 1945 ببرنامج وطني شامل يستهدف تمجيد الذاكرة الجماعية، وسط تصاعد التوترات مع فرنسا، واستمرار الجدل الداخلي حول الهوية الوطنية، لا سيما بعد اعتقال المؤرخ المعروف الدكتور محمد الأمين بلغيث.

البرنامج الذي تشرف عليه وزارة المجاهدين وذوي الحقوق، يجري تحت الرعاية المباشرة للرئيس عبد المجيد تبون، ويشمل فعاليات ثقافية وتاريخية وشبابية وعلمية، فضلاً عن ملتقيات وطنية حول جرائم الاستعمار، وتكريم رموز نضالية ومؤرخين بارزين. كما يتضمن إطلاق منصة رقمية تفاعلية، وأيام سينما، ولعبة إلكترونية تربوية موجهة للناشئة.

وتحمل هذه الذكرى ثقلاً رمزياً خاصاً، إذ تعود إلى يوم 8 ماي 1945، حين قُتل عشرات الآلاف من الجزائريين العُزّل على يد قوات الاستعمار الفرنسي بعد مظاهرات سلمية في سطيف وقالمة وخراطة، مطالبين بالاستقلال. وقد اعتُبرت هذه المجازر نقطة تحوّل جذري في مسار الحركة الوطنية، ومقدمة حتمية لاندلاع ثورة التحرير في 1954.

لكن هذه الذكرى تأتي على وقع ارتباك داخلي متزايد، حيث أثار توقيف الدكتور بلغيث موجة استياء واسعة في الأوساط الفكرية والأكاديمية، وفتح الباب أمام نقاش محتدم حول حرية التعبير والاختلاف في الرأي التاريخي والثقافي. وقد وصف مراقبون هذا التوقيف بأنه انزلاق مقلق نحو شيطنة الرأي المخالف، خاصة وأن أطروحات بلغيث لا تخرج، بحسبهم، عن إطار النقاش العلمي المشروع.

وفي هذا السياق، كتب الدكتور عبد الرزاق مقّري الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم "حمس"، في صفحته على منصة "فيسبوك، رأيا بعنوان "إنما المؤمنون الجزائريون إخوة، وشيطنة الدكتور بلغيث لا مبرر لها".

وقال: "يستطيع أي أحد أن يخالف الدكتور بلغيث في الأطروحات التي قدمها في القناة الإماراتية، وفي توقيت حديثه، ولا شك أن حديثه في موضوع حساس لقناة إماراتية خطأ، إذ لا همّ لحكام الإمارات إلا تدمير الأمة الإسلامية... غير أن ما قاله بلغيث لا يستدعي التوقيف ولا الملاحقة، لا سيما أن للرجل مكانته العلمية وسمته الوطني."

وأكد مقّري أن الخروج من الإطار الأكاديمي إلى التهارش السياسي حول مصطلحات مثل "أمازيغ" أو "بربر" يمثل انحداراً في النقاش العام، مع التذكير بأن مصطلح "البربر" كان شائعاً حتى في أوساط الحركة الثقافية البربرية (MCB) في ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن يتغير تدريجياً دون أن يكون لذلك دلالة على نفي أي مكوّن من مكونات الهوية الجزائرية الجامعة.

كما حذّر مقّري من أن تحريك القضاء في قضايا الهوية قد يزيد من تأجيج الاحتقان بدل تهدئته، في حين غابت في بعض الردود الرسمية إشارات واضحة إلى الإسلام كمكوّن جامع للهوية، مقابل التركيز الانتقائي على الأبعاد العرقية أو الثقافية.

وقال: "الصراع حول الهوية أمر طارئ في تاريخ الجزائريين.. أنشأه الاستعمار الفرنسي وغذاه أزلامه الكامنون في مفاصل الدولة"، داعياً إلى العودة إلى المرجعية الإسلامية الجامعة، مستشهداً بقول الرسول ﷺ: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية... الناس رجلان: بر تقي كريم، وفاجر شقي هين على الله."



في المقابل، لا تزال العلاقات الجزائرية ـ الفرنسية تشهد جموداً في مسار المصالحة التاريخية، رغم المساعي المتقطعة لترميمها. وتواصل الجزائر في كل مناسبة رسمية التذكير بفظائع الاستعمار، مجددة مطالبتها فرنسا بالاعتراف والاعتذار، وهو ما يعكسه تخصيص ندوات حول جرائم 8 ماي 1945 بولايات سطيف وقالمة، وتنظيم "رحلة الذاكرة" لأحفاد المنفيين إلى كاليدونيا وغويانا.

وأعلنت الوزارة عن إطلاق فيلم وثائقي جديد وأيام سينمائية بعنوان "سينما الذاكرة"، إلى جانب لعبة إلكترونية موجهة لفئة الشباب، ومنصة رقمية تعتبر بمثابة "متحف افتراضي" يوثق فترات الاحتلال من 1830 إلى 1962. كما ستُنظّم "رحلات الذاكرة" لأحفاد المنفيين إلى كاليدونيا الجديدة وغويانا، في محاولة لربط الأجيال الجديدة بجذورها التاريخية.

وعلى المستوى الرمزي، تم برمجة خطب الجمعة يومي 2 و9 ماي للحديث عن المجازر، إضافة إلى فعاليات محاكاة شعبية في الساحات العمومية، يشارك فيها الشباب والمجتمع المدني، في مشهد تريده السلطات مؤثراً ومعبّراً عن "الوفاء للشهداء وتمجيد التضحيات".



ومع ضخامة البرنامج الرسمي، يبقى التحدي الحقيقي أمام الجزائر هو إدارة الذاكرة بمسؤولية، دون الانزلاق إلى توظيفها سياسياً أو استخدامها أداة لإقصاء الأصوات المخالفة. ففي بلد يسعى لتوحيد صفوفه، تظل الذاكرة الوطنية أداة للبناء لا للهدم، وجسراً نحو المستقبل لا ساحة صراع جديدة.