في مشاهد
تهز الضمير الإنساني وتدمي القلوب، يظهر أطفال ونساء وشيوخ يتزاحمون على أبواب الجمعيات
الخيرية والتكايا بحثا عن بقايا طعام تسد رمقهم، وسط غياب أي تحرك عربي ودولي فاعل.
ويأتي ذلك في ظل مواصلة الاحتلال الإسرائيلي تشديد
الحصار والتجويع الممنهج بحق سكان
قطاع
غزة، واستمراره في حرب الإبادة والجرائم اليومية، ضاربا عرض الحائط بأبسط القواعد
الإنسانية والقانون الدولي.
يواجه
2.2 مليون مواطن، هم سكان قطاع غزة المدمر، خطر الموت جوعا، بينهم أكثر من مليون طفل
من مختلف الأعمار يعانون من الجوع يوميا، وقد أُصيب 65 ألف شخص بسوء تغذية حاد، ونُقلوا
إلى ما تبقى من مستشفيات ومراكز طبية مدمرة في القطاع.
حتى يوم
الجمعة الماضي، توفي 50 طفلا بسبب الجوع، وكان آخرهم عدي فادي أحمد الذي فارق الحياة
في مستشفى الأقصى بدير البلح. قبل أسبوع، حذرت اليونيسف من أن 335 ألف طفل دون سن الخامسة،
أي جميع أطفال غزة في هذه الفئة العمرية، باتوا على شفا الموت بسبب سوء التغذية الحاد.
ووفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ارتفع عدد الأطفال الذين يتلقون
العلاج من سوء التغذية بنسبة 80 في المئة مقارنة بشهر آذار/ مارس الماضي. وتظهر الأرقام
التي عرضتها قناة الجزيرة أن 92 في المئة من الرضع الذين تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر
وسنتين لا يحصلون مع أمهاتهم على الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية الأساسية، مما
يعرضهم لمخاطر صحية جسيمة ستلازمهم مدى حياتهم، كما أن 65 في المئة من سكان قطاع غزة
لم يعد باستطاعتهم الحصول على مياه نظيفة للشرب أو الطبخ، وفق هيئات إغاثة دولية.
سياسة ممنهجة تهدف إلى تجويع السكان وإجبارهم إما على النزوح الجماعي أو الموت البطيء، وهو ما يرقى إلى جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان بموجب القانون الدولي
لم تعد
هذه الجرائم مجرد أرقام أو تقارير، بل تحولت إلى مشاهد دامية ومأساوية تنقلها شاشات
التلفزة وعدسات الهواتف، تتضمن صرخات الأطفال الجوعى التي تنفطر لها القلوب وتبكي الحجارة.
في هذا
السياق أيضا أكد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، أن مخزونه الغذائي داخل
قطاع غزة قد نفد بالكامل، في إعلان كارثي يعكس عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها أكثر
من مليوني إنسان محاصر.
وفي منشور
عبر منصة (إكس)، طالب البرنامج بالسماح الفوري بإدخال المساعدات إلى غزة، محذرا من
أن أكثر من مليوني شخص باتوا يعتمدون كليا على المعونات الغذائية للبقاء على قيد الحياة.
وأوضح
البرنامج الأممي أن القطاع لم يتلق أي شحنات غذائية منذ أكثر من سبعة أسابيع، وهي أطول
مدة يشهد فيها قطاع غزة إغلاقا حدوديا كاملا منذ بدء العدوان الإسرائيلي واسع النطاق
في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وعلى الرغم
من وجود أكثر من 116 ألف طن من المساعدات الغذائية الجاهزة للدخول عبر المعابر، فإن
إصرار الاحتلال الإسرائيلي على إغلاقها يُبقي هذه الشحنات عالقة، ويجعل شبح المجاعة
واقعا يفتك بالأطفال والنساء وكبار السن.
إغلاق
المعابر لم يكن حدثا عابرا، بل سياسة ممنهجة ضمن مشروع الإبادة الجماعية الذي تنفذه
إسرائيل بحق سكان غزة بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية.
فمنذ الثاني
من آذار/ مارس 2025، فرض الاحتلال إغلاقا تاما على كافة المعابر، بما فيها معبر كرم
أبو سالم الحيوي، مانعا دخول الغذاء والدواء والمساعدات الإغاثية، ما أدى إلى تفاقم
كارثي للأوضاع الإنسانية.
صمت المجتمع الدولي، وتواطؤ بعض الأنظمة العربية، وصلف الاحتلال الإسرائيلي وعنجهيته، كلها عوامل تدفع غزة نحو كارثة إنسانية غير مسبوقة
وبحسب
التقارير الدولية، ارتفعت أعداد الضحايا إلى أكثر من 168 ألف شهيد وجريح، معظمهم من
الأطفال والنساء، بالإضافة إلى أكثر من 11 ألف مفقود لا يزال مصيرهم مجهولا تحت الأنقاض
أو في المعتقلات الإسرائيلية. كل ذلك يجري تحت سمع وبصر العالم، الذي اكتفى بالشجب
اللفظي، في ظل انحياز غربي فج، وصمت عربي مريب.
لم تقتصر
الكارثة على الحصار الإسرائيلي المباشر، بل شاركت بعض الأنظمة العربية، وعلى رأسها
نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، بدور خفي لكنه فعال في إحكام الخناق على غزة، فتغاضت
السلطات المصرية عن استخدام معبر رفح كمنفذ إنساني حقيقي، بل فرضت قيودا مشددة على
حركة المساعدات، تحت ذرائع واهية تتعلق بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، وهكذا تحول معبر
رفح، الذي يفترض أن يكون شريان حياة للقطاع المحاصر، إلى أداة إضافية لخنق أهل غزة.
وسط هذه
الكارثة الإنسانية، لاح بصيص أمل حين دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 19
كانون الثاني/ يناير 2025، برعاية مصرية قطرية ودعم أمريكي، وقد نجحت المرحلة الأولى
منه بالفعل في تبادل بعض الأسرى ووقف إطلاق النار جزئيا، غير أن رئيس وزراء الاحتلال
نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب، سرعان ما تنصل من
استحقاقات المرحلة الثانية من الاتفاق، خضوعا لضغوط الأحزاب اليمينية المتطرفة داخل
ائتلافه الحاكم، هذه الخطوة عكست مرة أخرى أن الاحتلال لا يبحث عن تهدئة أو تسوية سياسية،
بل يستغل الهدنات المؤقتة لإعادة ترتيب أوراقه العسكرية ومواصلة مشروع الإبادة في غزة.
في هذا
السياق، يُعدّ رفض فتح المعابر والسماح بدخول المساعدات ليس مجرد قرار عسكري أو أمني،
بل هو جزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى
تجويع السكان وإجبارهم إما على النزوح الجماعي
أو الموت البطيء، وهو ما يرقى إلى جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان بموجب القانون
الدولي. واليوم، مع إعلان برنامج الأغذية العالمي عن نفاد مخزون الغذاء في غزة، تدخل
الكارثة الإنسانية مرحلة جديدة وأكثر خطورة، فملايين الأرواح على حافة المجاعة، بينما
تستمر آلة الحرب الإسرائيلية في القصف والتدمير والحصار.
إن صمت
المجتمع الدولي، وتواطؤ بعض الأنظمة العربية، وصلف الاحتلال الإسرائيلي وعنجهيته، كلها
عوامل تدفع غزة نحو كارثة إنسانية غير مسبوقة.