كتب

"الملك بلا تاج".. لماذا رفض الأمير عبد القادر عرش الشام؟.. قراءة في كتاب

الأمير عبد القادر عندما دخل إلى دمشق كان ساكنا في قلوب كل الجزائريين الذين عدوه في مرتبة "الأب الروحي".
الكتاب: الأمير عبد القادر وجزائريو بلاد الشام
الكاتب: كمال بوشامة
الناشر: اتحاد الكتاب العرب، الطبعة الأولى 2024، (240 صفحة من القطع الكبير).


في هذا الجزء الثالث وهو الأخير من القراءة التي يكتبها خصيصا لـ"عربي21"، يُتابع الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني تسليط الضوء على محطات منسية ومواقف حاسمة في حياة الأمير عبد القادر، كما وردت في كتاب "الأمير عبد القادر وجزائريو بلاد الشام" للكاتب كمال بوشامة. بعد أن رافقنا في الجزأين الأول والثاني في استكشاف مسارات الأمير في المنفى، يأتي هذا الفصل الختامي ليكشف عن عرض فرنسي مفاجئ بتنصيبه ملكا على بلاد الشام، ولماذا رفضه الأمير رغم ما كان يحمله من نفوذ وهيبة واحترام في المشرق العربي، متشبثا بمبادئه ووفائه العميق لوطنه المحتل؛ الجزائر.

الفرنسيون واقتراحهم أن يكون الأمير عبد القادر ملكا لبلاد الشام

لماذا رفض الأمير عبد القادر الاقتراح الذي يُوليه ملكا على بلاد الشام؟ وما الدافع الذي جعله لا يقبل بهذا العرض؟

في هذا الجو، أصبح من الطبيعي تماما أن يبرز مرة أخرى دور الأمير ونسله وكذلك دور الجزائريين الذين يعيشون في الشام، فالقدر جعل منهم الممثلين الفعالين في الساحة السياسية في سوريا وفلسطين ومصر واليمن وليبيا وتركيا والمغرب، وهكذا أكانوا مع السلطات العثمانية أو مع الحركة القومية العربية، أدّوا باستمرار أدوار القادة في الأحداث التي عرفتها هذه المنطقة من الشرق الأوسط.

كانوا في كل مكان، في عام 1860، في دمشق وفي لبنان، بعد ذلك مباشرة كانوا وراء مشروع إنشاء المملكة العربية في سوريا والجزائر ومشروع افتتاح قناة السويس، ثم كانوا وراء حرب طرابلس على الإيطاليين والثورة العربية والمنظمات السرية الوطنية والنظام العربي في سوريا، والانتفاضة في المغرب وبالضبط في الريف على الفرنسيين، والانتفاضة الفلسطينية خلال الثلاثينيات.

هذه المعلومات مهمة جدّا، ولكن هل كان للأمير عبد القادر بعد ذلك اقتراحات أخرى من الفرنسيين طالما كانوا مجبورين على مغادرة الشام، بل على التخلي عن مشروعهم العدواني ضد هذا البلد، وطالما نعلم من جهة أخرى أن الأمير كان صديقا للويس نابليون الثالث؟
نعم طرحتُ هذا السؤال لأنه مهم جدّا، فمما جاء من اقتراح بارز من طرف الفرنسيين تجاه الأمير عبد القادر، هو أنهم فكروا أن يكون ملكا لبلاد الشام، فقالت السلطات الفرنسية هكذا: لم لا يكون الأمير عبد القادر ملكا للشام؟ نعم لم لا وعبد القادر مقيم في دمشق. مدينة تاريخية يرجع إنشاؤها إلى آلاف السنين، وقد اختارها بدلا من الإسكندرية وعكا وإسطنبول، إنه بالقرب من قبر سيده محيي الدين بن عربي؟ إذا، لماذا لم يكن حاكم هذا البلد؟

لقد احتسب الفرنسيون المسألة دون كرامة هذا المقاتل، الذي لن ينسى أبدا أن فرنسا لم تكن صادقة معه؛ لأنها ما احترمت التزاماتها بعد قراره بوقف الحرب في عام 1847، فبعد ذلك لم يستطع الأمير إلا أن يرفض هذا الاقتراح "الشهير" بين قوسين، الذي صدر عن لويس نابليون الثالث، والذي يجعله ملكا لبلاد الشام التي كان يَرغَبُ في أن يراها منفصلة عن الإمبراطورية العثمانية.
لقد احتسب الفرنسيون المسألة دون كرامة هذا المقاتل، الذي لن ينسى أبدا أن فرنسا لم تكن صادقة معه؛ لأنها ما احترمت التزاماتها بعد قراره بوقف الحرب في عام 1847، فبعد ذلك لم يستطع الأمير إلا أن يرفض هذا الاقتراح "الشهير" بين قوسين، الذي صدر عن لويس نابليون الثالث، والذي يجعله ملكا لبلاد الشام التي كان يَرغَبُ في أن يراها منفصلة عن الإمبراطورية العثمانية، فَجَوابُهُ، جواب الأمير عبد القادر، كان واضحا ومقرونا بشيء من المرارة؛ مرارة ذاك "الملك" بلا "تاج" كما كان يراه السوريون باحترام كبير وصادق. نعم، أجاب بوضوح على الرسول قائلا: "مملكتي ليست من هذا العالم، إن الحق وإجفاء ما سيعطيه الله، مالك الملك، لعباده الصالحين، لا يُمكن له العيش مع مملكة دنيوية".

فهذا الرد من الأمير لم يُعجب قط الجنرال شارل "دي بوفور"، قائد بعثة القوات الفرنسية إلى سوريا في عامي 1860، 1861، الذي كان يُمثل شخصيا الإمبراطور نابليون أمام الأمير كمبعوث خاص.

لقد ذكرنا ذلك، ويقال؛ إن "دي بوفور" ردّ على الأمير بلهجة حادة تغمرها بالطبع الكراهية والعنصرية التي تميز ضابطا من هذا الطراز أمام "البيكو" و"البونيول" كما كانوا يُسمّون الجزائريين بلغتهم -لغة الاستبداد والعبودية-، فقد قال الجنرال "دي بوفور": "عبد القادر ما هو إلا عربي.. ناهيك عما سيكون من المفزع وضع مسلم على رأس لبنان".. هذا كلام خطير!!

فهذا الحدث قد دَوَّنَهُ الجنرال في تقرير بتاريخ 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1860، والآن هل نستطيع أن نعرف لماذا رفض الأمير عبد القادر هذا الاقتراح المهم من قبل الفرنسيين، هذا الاقتراح إن وصل إلى غيره، لكان قد قبله ربما بكل فخر واعتزاز وبارتياح كبير. فما الدوافع يا ترى التي جعلته يرفض ذاك العرض؟

نعم، رفض الأمير عبد القادر الاقتراح الذي يُوليه ملكا على بلاد الشام، والدافع الذي جعله لا يقبل هذا العرض بل الحقيقة، هي أنه بصفته جزائريا؛ فلم يتقبل أن بَلَدَه يُعاني شرّ ما يعانيه تحت الاحتلال الفرنسي، وأن المستعمرين أنفسهم هم الذين اقترحوا عليه "مشيخة" بلد آخر، عربي ومسلم، ولكن ما سيُبعده عن المثالية التي كان يعتز بها منذ دخوله ساحة القتال والجهاد في عام 1832 " في سهل غريس"، ثم ماذا سيقول آلاف المهاجرين الجزائريين؟ وماذا سيفكر ملايين المواطنين هناك بأرض الوطن وهم يعيشون تحت نير الاستعمار، بأن زعيمها هو زعيم في بَلَد آخر؟ بل إنّ أميرهم قد استسلم فعلا وقَبِلَ أَن من احتل وطنه هو الذي وَضَعَهُ على رأس دولة أخرى؟ ومن هنا من الممكن أن يقول الأمير بل يتساءل قائلا: هَلْ رَجُلٌ غير صالح في بيته يكون صالحا في بيوت الآخرين؟ والحقيقة هي إن قبل الأمير عبد القادر ذاك الاقتراح، لَصَرَخَ كُلُّ الناس بالفضيحة الكبيرة، وأكثر من ذلك بالخيانة العظمى.

فالأمير كما سَلَفَ ذكره، لم يقبل عرض الفرنسيين للأسباب التي ذكرتها، ولكن بعد سنوات في عام 1877م عُرضت عليه المهمة نفسها من طرف إخوانه السوريين، مهمة رفضها طبعا، ولكن ليس للأسباب والدوافع نفسها، أما عن إرادة الفرنسيين آنذاك كانت لهم فكرة الاستيلاء على عبد القادر الثاني، يعني عبد القادر "رجل المنفى" وليس عبد القادر "رجل المقاومة"، يقول هكذا الكاتب المؤرخ الفرنسي بنيامين في سطوره، في كتابه حول الأمير عبد القادر.

أما إخواننا السوريون الذين اقترحوا عليه تلك المسؤولية؛ فلأنهم كانوا يحترمونه كثيرا، ويثقون به وبأحكامه وقدراته على جمع الطاقات وتحفيز العرب على العمل والنضال، وإخراجهم من سباتهم العميق. كانوا يرونه الرجل الحكيم والقائد الوحيد الذي يعرف جيدا أوضاع بلاد المشرق، الشيء الذي يُمكنه من إبعاد بلاد الشام عن قبضة "الباب العالي"، وهم يعني الأتراك أو الإمبراطورية العثمانية؛ قصد إرساء مملكة عربية مستقلة.

الأمير عبد القادر الذي عاش بكل جوارحه خديعة فرنسا عندما سَجَنَتهُ، لم ينبهر" بالمشاعر الطيبة" التي أظهرها له "نابليون"، لأنه كان يعرف جيداً طموحات الفرنسيين بهذه المنطقة، سوريا ولبنان، وعلاوة على ذلك فإن الأمير بقي دائماً حذراً من تلك التحالفات التي دهورت المناخ السياسي والاجتماعي وحتى الديني في الشرق الأوسط.
فعلا رفض الأمير عبد القادر اقتراح السوريين رغم ثقتهم واحترامهم لشخصه، ورفضه هذا لا يعني شيئا سوى ثبات عقله وتشبثه بالمبادئ التي عاش بها منذ نعومة أظفاره، وقد كان بالتأكيد يعيش دوامة مع نفسه محاولا إقناع ضميره بأسباب رفضه لهذه المهمة النبيلة العظيمة، في وقت طلبت منه ليكون زعيما على رأس العرب ليقودهم نحو التقدم والرقي، فيقول لنفسه مسوّغا إياها، حتى يضع حدّا لكل التساؤلات: "لا يمكنني قبول أية مهمة، على حين أن بلدي الجزائر لا يزال تحت نير الاستعمار".

وقد كان فعلا هذا هو السبب الرئيسي والحقيقي الذي جَعَلَهُ يأخذ هذا القرار، ولكن -وهناك دائما "ولكن"-، عندما يتعلق الأمر بكبار القوم والسياسيين. نعم، فهذا الرفض لم يمنعه أخيرا من المشاركة الإيجابية بنشاطات ضمن الحركة الانفصالية التي كانت تناضل ضد السلطة العثمانية، التي أنشأها المواطنون السوريون في السنة نفسها أي في 1877م. وهكذا إذا أظهر نشاطه بتلك الحركة الانفصالية وبحركات أخرى كانت تنشأ في بلاد الشام.

في الواقع، الأمير عبد القادر لم يبق مكتوف الأيدي، فقد واصل نضاله بطرق مختلفة ليكون إيجابيا منسجما مع نفسه بأوساط كان مجتمعها يعاني تدخلات شتى وتحالفات غير طبيعية، ثم أوضاعا صعبة من قوات الغرب كما أشرنا إليه سابقا؛ فالأمير لم يتقاعس عندما يتعلق الأمر بالنظر في المسائل التي تهم الجميع، فكان موجودا في أهم الحركات التي أُنشئت في المنطقة.

وهذا ما أكدته في بداية العرض بأنّ الأمير عبد القادر عندما دخل إلى دمشق كان ساكنا بقلوب كل الجزائريين الذين عدوه في مرتبة "الأب الروحي". هذه المحبة منحت له أيضا من طرف كل الشعب العربي في الشرق الأوسط. فكل هذا الوقار هو لأن الأمير بمجرد دخوله إلى الشام لم يتظاهر بعدم القلق لكل معضلات البلد الذي آواه وقدم له كل وسائل الراحة، فلم يقل في مثل هذه الحالات؛ "إن النار ليست بمنزلي" بأسطورة "جحا"! إذا فلماذا يكترث هذا الرجل طالما المصيبة عند غيره؟

لقد كان الأمير عبد القادر مُنتبها، بل كان يعيش كل معاناة إخوانه السوريين وكفاحهم المصيري لتخليص أنفسهم من الحضور الأجنبي وعواقبه المتعددة، فدخل الأمير، ومعه كل الجزائريين المقيمين في الشام بالنضال الوطني تلقائيا، وهم يواصلون ما بدؤوه في وطنهم الجزائر، فأدرجوا بالتاريخ أسماءهم بأحرف ذهبية، فلهذا السبب بات من الضروري إعلام الشباب بمساهمتهم في كل هذه الظروف التي مرت بها سوريا تحت ضغط التحالفات والعدوان الأوروبي.

فالأمير عبد القادر الذي عاش بكل جوارحه خديعة فرنسا عندما سَجَنَتهُ، لم ينبهر" بالمشاعر الطيبة" التي أظهرها له "نابليون"؛ لأنه كان يعرف جيدا طموحات الفرنسيين بهذه المنطقة، سوريا ولبنان، وعلاوة على ذلك، فإن الأمير بقي دائما حذرا من تلك التحالفات التي دهورت المناخ السياسي والاجتماعي، وحتى الديني في الشرق الأوسط.

اقرأ أيضا: الأمير عبد القادر في الشام.. من منفى قسري إلى صرح لوحدة الأمة.. كتاب جديد

اقرأ أيضا:
 الأمير عبد القادر في دمشق.. بطل جزائري يُنقذ المسيحيين ويُسكت مدافع الفتنة