مثلما انفضّ مؤتمر باريس للمناخ قبل ستة أعوام، انفضّ مؤتمر قمة غلاسكو للمناخ قبل أيّام، الأول تخلّص منه الرئيس الأميركي السابق ترامب بالخروج من الاتفاقيات المتعلقة به، والثاني كان بحضور مشهود للرئيس بايدن الذي أعاد الولايات المتحدة إليه، ولكن هل هناك من فرق؟
المشاركون من كبار القادة والزعماء في كل من المؤتمرَين اتفقوا على الحد من الاحتباس الحراري عند درجة ونصف الدرجة على الأقل، من خلال خفض الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية، الفحم والنفط وغاز الميثان، واستبدال ذلك بالطاقة الخضراء بشكل تدريجي حتى العام 2050، وكما كان الأمر عليه إثر انفضاض مؤتمر باريس، انفض مؤتمر غلاسكو بالكثير من الوعود، والقليل من الالتزامات المحددة، حتى أنّ بعض المحللين زعموا أنّ لقاء هؤلاء كان بهدف إجراء حوارات ثنائية حول قضايا سياسية تتعلق بعلاقات بلدانهم أكثر من جهودهم حول الحد من الاحتباس الحراري، بل إنّ الهدف غير المعلن من مشاركتهم تعود إلى الحد من الاحتباسات السياسية.
قد يبدو ترامب أكثر صدقاً عندما تراجع عن اتفاق باريس، مع إدراكنا أنّ أسبابه تتعلّق بدرجة أساسية في عدم قناعته بالمسألة برمتها، إضافة إلى طبيعته المتنمرة على الإنسان والطبيعة في آن، فها هو خليفته في البيت الأبيض الذي أعاد بلاده إلى الاتفاق، يمارس بشكل أكثر نفاقاً من خلال عدم الجدية في اتخاذ خطوات فعالة ومحددة إزاء الحد من الاحتباس الحراري، فقد طالب مؤخراً مجموعة «أوبك بلس» بزيادة إنتاجها النفطي بهدف التعافي الاقتصادي وكبح ارتفاع الأسعار، بدلاً من أن يدعو إلى الحد من إنتاج واستهلاك الطاقة الأحفورية، وأكثر من ذلك ضغط على المجموعة بشكلٍ مكثّف لزيادة الإنتاج، ما شكّل نفاقاً واضحاً حول مدى جديته في دعم خطوات باتجاه تقليص الاعتماد على الطاقة الأحفورية، وعندما وصل بايدن إلى قمة العشرين، قبل قمة غلاسكو بأيامٍ قليلة قادماً من إيطاليا حيث حضر قمة الدول العشرين، كرر مطالبته بالحد من الاستثمار في الطاقة الأحفورية بما فيها النفط، لكنه كان قد وصل إلى المؤتمر بأسطول من السيارات مكون من 85 سيارة كجزء من موكبه نفثت دخانها وسمومها في أرجاء العاصمة الإيطالية روما، في نفاقٍ واضح على أنّ الحديث سهل والفعل أكثر صعوبة.
في المؤتمرات الثلاثة، باريس وروما وغلاسكو، كان الحديث يدور عن مسؤولية الدول الصناعية الكبرى بضرورة دعم الدول الفقيرة بأكثر من مليار دولار؛ لمساعدتها على وضع الخطط التي من شأنها التعويض عن برامجها حول الحد من الاحتباس الحراري، وتبني سياسات تؤدي إلى الطاقة الخضراء، إلّا أنّ المؤتمر الأخير لم ينجح في إقرار هذا المبلغ، مع أنه حتى في حالة إقراره ليس هناك ما يلزم الدول الصناعية الغنية بتحويل القرار إلى فعل، مثلما كان الأمر عليه طوال عدة عقود من الوعود الطيبة والمماطلة المستمرة، ومثلما كان الأمر عليه أيضاً بالوعود المتتالية لتقديم ما يكفي من اللقاحات ضد وباء «كورونا» لهذه الدول من دون أن تفي الدول الكبرى حتى الآن بما يكفي من اللقاحات للدول الفقيرة، ما زاد الفجوة في هذا الشأن المتعلق بمواجهة الوباء بين الدولة الصناعية الكبرى ودول العالم الثالث الأشد فقراً.
يقال: إن بايدن تمتع بأخذ قيلولة وشوهد وهو يغفو خلال الكلمات الافتتاحية في مؤتمر غلاسكو، بينما كان الخطباء يتحدثون عن ضرورة دعم الدول الفقيرة بما يكفي لمعالجة المشكلات الناجمة عن خططها المتعلقة بالحد من الاحتباس الحراري، وللتعويض عن استثماراتها بهذا الشأن، ذلك أنّ إغفاء الرئيس بايدن مستمتعاً بقيلولته بدا كحالة مجازية عن مدى جدية الالتزامات المعلنة من قبله حول هذا الملف!
وكأي رئيس أميركي فإنه يخضع في نهاية الأمر للكارتيلات الصناعية واللوبيات السياسية، وعلى الأخص كارتيلات صناعة الأسلحة والصناعات النفطية والكونغرس الأميركي. وعلى سبيل المثال حاول بايدن إيقاف جميع تراخيص التنقيب الجديدة عن الغاز والنفط في البر والبحر، لكن 14 ولاية جمهورية رفعت دعوى قضائية ضد إدارته لإلغاء قرار إيقاف التراخيص، ومع أنّ لدى الرئيس الأدوات والصلاحية لمنع إصدار تراخيص للحفر، إلّا أنه تراجع أمام هذه الدعوات. وأكثر من ذلك بدأت إدارته عملياً ببيع حقوق التنقيب في مياه ألاسكا وخليج المكسيك بالمزاد، وذلك بالتوازي مع حراك فعّال من قبل شركات التنقيب التي أنفقت ملايين الدولارات لإقناع الرأي العام بأنها صديقة للبيئة، على عكس كل الدراسات العلمية التي تحمّل هذه الشركات ومثيلاتها في العالم من خلال جشعها ومسؤوليتها عن تزايد الاعتماد على الطاقة الأحفورية، الأمر الذي أدّى ولا يزال إلى مزيد من المخاطر على مستقبل كل من يعيش على هذه الأرض، خاصة بعد أن لاحظنا تزايد أعداد الحرائق الكبرى والفيضانات والكوارث الطبيعية في الأشهر الأخيرة.
عودة بايدن عن قراره بوقف التنقيب عن الطاقة الأحفورية يعود لأسباب سياسية بالدرجة الأولى، وكل ما قاله وما حاول أن يدعيه خلال قمم المناخ ما هو إلّا نفاق معلن!
(الأيام الفلسطينية)