قضايا وآراء

هل تشديد الخناق المالي على حزب الله تمهيد لضربة عسكرية..؟

محمد موسى
"أين الدولة اللبنانية؟ هل تملك رؤية لحماية مؤسساتها من الانهيار؟ "- الأناضول
"أين الدولة اللبنانية؟ هل تملك رؤية لحماية مؤسساتها من الانهيار؟ "- الأناضول
تشهد الساحة اللبنانية مرحلة دقيقة تتزايد فيها المؤشرات على نية المجتمع الدولي تضييق الخناق على حزب الله ماليا، في سياق يبدو تمهيدا لمرحلة عسكرية لاحقة، خاصة مع دعوة استيطانية لبيع أراضي الجنوب عبر الإنترنت، فأي حاضر نعيش وأي مستقبل قادم والكل يُجمع على أن المجهول المعلوم هو خيارات فيها روائح البارود وأصوات المدافع!

فالزيارة الأخيرة لوفد الكونغرس الأمريكي المتخصص في ملف مكافحة الإرهاب حملت رسائل واضحة، أبرزها ضرورة تشديد الرقابة على المؤسسات المالية اللبنانية وعلى كل منفذ يُشتبه في أنه يمر عبره تمويل للحزب أو لبيئته. وجاءت تصريحات مسؤولين أمريكيين مثل غورك وباراك لتؤكد أن المرحلة المقبلة ستشهد تحالفا إقليميا جديدا ضد الإرهاب انضمت إليه دمشق، ما يعني أن لبنان سيكون في قلب إعادة رسم خريطة الصراع في المنطقة. في مقابل ذلك، تبدو الدولة اللبنانية شبه غائبة عن اتخاذ موقف واضح يحفظ سيادتها واقتصادها معا.

فالأزمة المالية العميقة التي تضرب البلاد منذ سنوات لم تُحلّ، ومسألة الودائع المحتجزة لا تزال تمثل جرحا مفتوحا في ثقة الناس بالمصارف. وإذا أضيف إلى ذلك التوجه الأمريكي والغربي نحو إجراءات مالية أكثر تشددا تحت شعار مكافحة الإرهاب، فإن السوق اللبناني مهدد بشلل أوسع قد يفقد معه المواطن أي ثقة بالنظام المصرفي، ليبقى اقتصاد الكاش سيد الموقف.

إن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في تجميد حسابات أو التضييق على تحويلات مالية، بل في احتمال أن تُستخدم هذه الإجراءات كوسيلة ضغط تمهّد لتدخل أمني أو عسكري تحت ذريعة مواجهة الإرهاب. هنا تبرز الحاجة إلى موقف رسمي لبناني واضح ومتوازن يجنّب البلاد الدخول في مواجهة غير متكافئة، ويحافظ في الوقت نفسه على التزاماتها الدولية. فغياب الرؤية السياسية وتراجع الثقة بالسلطات المالية سيزيد من هشاشة الاقتصاد، ويجعل كل خطوة دولية جديدة بمثابة ضربة إضافية لجسم الدولة المنهك.

وهنا لا يمكن إغفال أن ملف جمعية القرض الحسن لا يزال مفتوحا على مصراعيه، إذ تُتخذ منه ذريعة لتوسيع رقعة المراقبة المالية على لبنان كله. وإذا لم تُدار هذه القضية بحكمة قانونية ومصرفية دقيقة، فإن نتائجها ستكون كارثية على مودعي القرض الحسن وتاليا على سمعة القطاع المصرفي، رغم أن لا تعامل بينه وبين القرض الحسن، فيكفي القطاع المصرفي أنه ما زال يعاني من تداعيات الانهيار السابق والمستمر مع وعود الحلول التي لم تأت حتى الساعة.

أما المودع اللبناني، الذي فقد الأمل في استعادة أمواله، فسيزداد اقتناعا بأن التعامل النقدي المباشر هو السبيل الوحيد لضمان أمواله، ما يعني انسحابا تدريجيا من النظام المصرفي وتراجعا في الدورة الاقتصادية الرسمية، وتاليا لن يغير اللبناني أساليبه مع استعمال الكاش ما لم تعد الثقة المفقودة، وليستفيد من يستفيد من مسألة اقتصاد الكاش، فالناس كلوا وهم ينتظرون منذ عام 2019.

إن الحل الحقيقي أمام الدولة اللبنانية يبدأ من استعادة الثقة المالية المفقودة، فعودة الودائع إلى أصحابها تمثل حجر الأساس لأي نهوض اقتصادي جدي، إذ لا يمكن لأي إصلاح أن ينجح قبل إعادة بناء جسور الثقة بين المواطن والمصرف والدولة والانتهاء بكل جرأة من موضوع الفجوة المالية بدل اللجان التي لا تنتهي.

ومن هنا تبرز ضرورة الانفتاح على صندوق النقد الدولي ضمن خطة إصلاح وطنية واضحة، تُعيد هيكلة النظام المالي وتضبط الإنفاق العام وتضع حدا للهدر والفساد، مع إقرار الإصلاحات البنيوية التي طال انتظارها في قطاعات الكهرباء والإدارة والعدالة المالية. وعندها فقط يمكن للبنان أن يتجاوز مرحلة اقتصاد الكاش ويستعيد انتظامه المالي المطلوب دوليا وأمريكيا، بما يفتح كوة في جدار الأزمة تتيح إطلاق ورشة إعادة الإعمار واستجلاب القروض والاستثمارات. غير أن أي إصلاح اقتصادي جدي لا يمكن أن يكتمل دون مقاربة متوازنة لملف السلاح الذي بات يشكل عنوانا دائما للانقسام الداخلي ومصدرا للقلق الخارجي.

فربط الإصلاح المالي بإصلاح سياسي وأمني يضمن حصرية السلاح بيد الدولة يفتح الباب أمام تثبيت الاستقرار الحقيقي، ويُعيد للبنان صورته كدولة قادرة على احتضان الاستثمارات والتعافي. إن معالجة هذا الملف بروح وطنية شاملة هي المدخل الطبيعي لأي عملية إعادة إعمار فعلية تنقل لبنان من منطق المحاور إلى منطق الدولة.

إن ما يجري اليوم ليس مجرد ضغط مالي عابر، بل جزء من سياق استراتيجي يرمي إلى عزل الحزب وتحجيم نفوذه تمهيدا لمرحلة جديدة من المواجهة. لكن السؤال يبقى: أين الدولة اللبنانية؟ هل تملك رؤية لحماية مؤسساتها من الانهيار؟ أم أنها ستكتفي بموقف المتفرج حتى يجرها الصراع الإقليمي إلى قلب العاصفة؟ إن تفادي الضربة المقبلة يتطلب شجاعة سياسية من الجميع، وحكمة في إدارة الملف المالي بميزان الجوهرجي، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن والتي تبدأ من العدالة المالية عبر إحقاق حقوق الناس المحبوسة في المصارف، قبل أن يفقد الجميع ما تبقى من أمل في هذا الوطن الذي ما زال ينزف منذ عقود: فمتى يرأف الكثيرون بحال لبنان واللبنانيين في زمن سايكس بيكو الجديد؛ حيث الخرائط ترسم على قواعد المصالح؟
التعليقات (0)