أفكَار

الغنوشي بين الإسلام والديمقراطية.. حين يكتب المفكر شهادة حداثةٍ شرعية (2)

خصص الغنوشي فصلا من كتابه لـ "إثبات وجود علاقة تلازم بين الحرية والحضارة"، وكذلك لإثبات "التلازم بين الاستبداد والتخلف".. فيسبوك
خصص الغنوشي فصلا من كتابه لـ "إثبات وجود علاقة تلازم بين الحرية والحضارة"، وكذلك لإثبات "التلازم بين الاستبداد والتخلف".. فيسبوك
في هذه الحلقة الثانية من قراءته المقارنة لأطروحات رموز الحركات الإسلامية في المشرق والمغرب، يواصل الكاتب والباحث المغربي في الفكر الإسلامي محمد يتيم تسليط الضوء على المسار الفكري والسياسي للأستاذ راشد الغنوشي، أحد أبرز العقول الإسلامية المعاصرة التي سعت إلى بناء جسر معرفي راسخ بين الإسلام والديمقراطية.

من خلال تحليل كتابه "الإسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان" وسياقه التاريخي، يتتبع محمد يتيم في هذه المقالات الخاصة بـ "عربي21"، كيف سعى الغنوشي إلى تفكيك الصور النمطية عن رفض الإسلاميين للديمقراطية، مقدّماً أطروحة فكرية تنطلق من داخل المرجعية الإسلامية لتؤسس لمصالحة واعية بين الحرية السياسية والهوية الدينية، وتفتح باب المراجعة والنقد الذاتي ضمن المشروع الإسلامي المعاصر، في لحظة عربية مشحونة بأسئلة الانهيار والتحول.


راشد الغنوشي.. مسار سياسي ومسار فكري

ليس من شك في أن الأستاذ راشد الغنوشي قد عرف بنضاله السياسي وبترؤسه لإحدى الحركات الإسلامية المعاصرة وببلائه السياسي وما تعرضت له من تضييق وملاحقة في مراحل مختلفة من مسار النظام السياسي التونسي، لكن يتعين الالتفات إلى وجه آخر لإسهامه أي الإسهام  العلمي والفكري، ومنهجه في التعامل مع الواقع السياسي.

ويمكن اعتبار كتاب الإسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان مثالا حيا على هذا التميز المغربي في تجربة الحركة الإسلامية ، وكما تشهد له كتاباته الأخرى من قبيل: الحريات العامة في الدولة الإسلامية، حقوق المواطنة: حقوق غير المسلم في الدولة الإسلامية، الوسطية السياسية عند الإمام الدكتور يوسف القرضاوي، كتاب القدر عند ابن تيمية ـ مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني .

أهمية كتاب راشد الغنوشي "الإسلام والديمقراطية" في سياقه الفكري والتاريخي

لقد جاء صدور الكتاب في ظل الحراك السياسي الكبير الذي عرفته  تونس ومصر والمنطقة العربية، والذي امتحنت فيه هذه المقولات على ارض الواقع، حيث كانت الحركات الإسلامية متهمة من عدد من خصومها الإيديولوجيين والسياسين برفضها للديمقراطية، او بقبولها كالية أو تاكتيك للوصول الى السلطة والاستحكام فيها فحسب.

وصدور هذا الكتاب وغيره من الدراسات والمقالات التي تصب في نفس اهتمامه  من شخصية بهذه الأهمية والمكانة في الحركة الإسلامية العربية  له دور وازن في نظرة القوى السياسية المختلفة أو المناهضة للإسلاميين، وفي نظرة الإسلاميين لأنفسهم خاصة.

يقرر راشد الغنوشي أن المباح في الإسلام هو الحرية ذاتها بل هي أوسع أحكام الشريعة وميادين عملها، وينتقد جماعات إسلامية أخرى ترفع شعارات أخرى بديلة عن الديمقراطية من قبيل ‘شورى أهل الحل والعقد، معتبرا إياها شورى سائبة تردد عموميات وهي لا تعني في المحصلة شيئا إلا إذا كانت تلك الجماعات المتشددة تعني نفسها حين تتحدث عن أهل الحل والعقد، فمن سيسلم لها بذلك؟
كما يشكل إضافة نوعية للفكر السياسي الإسلامي المعاصر وتصوره للدولة وللديمقراطية ول" الحداثة السياسية " الأصيلة  ، حيث يثبت أن تلك "الحداثة" يمكن أن تتحقق دون نزاع أو صراع متوهم مع هوية الأمة ومرجعيتها وثقافتها.

وفي هذا السياق يقرر الشيخ راشد عددا من المعطيات في الكتاب منها:

ـ الخطأ الشائع في عدد من الأوساط المعادية للحركات الإسلامية داخل العالم الإسلامي أو خارجه بترويج دعوى عداء الإسلاميين للديمقراطية وتحذير تلك الأوساط من دخولهم طرفا في النظام السياسي القانوني.

ـ يقوم الأستاذ راشد الغنوشي بالتأصيل الفكري والمعرفي للديمقراطية ، وبيان مقاصدها وفوائدها ونتائجها على المستوى الاجتماعي من خلال عدد من التقريرات المعرفية منها:

ـ التأكيد أن الديمقراطية "تضمن حق الاختلاف الذي هو من فطرة الإنسان، ومن ممارسة الحريات الإنسانية بشكل علني منظم، مثل حرية التفكير والاعتقاد والممارسة الدينية، وحق التعبير وإقامة الجمعيات والأحزاب، وحق التقاضي الى قضاء مستقل وفق شروط المحاكمة العادلة".
 
 ـ بيان أن النظام الديمقراطي يحمي "الحريات الخاصة" و"مقومات الكرامة الإنسانية".

 ـ أن أكبر شهادة للنظام الديمقراطي تأتي من مقارنته بغيره من الأنظمة، أي الأنظمة الديكتاتورية أو الديمقراطية الناقصة.

 ـ نقد الأطروحة العلمانية المتطرفة التي تسعى لـ "أدلجة " النظام الديمقراطي "بإقامة رباط لا ينفك بينه وبين شتى ضروب العلمنة وإقصاء الدين من المجال العام وحتى الخاص’".

ـ أن واقع التطبيقات المتنوعة للنظام الديمقراطي تشهد على توفره على أسس متينة لحيادية آلياته وعدم ارتباطها بأي منظور إيديولوجي علمانيا كان أو دينيا.

 ـ أن الدين نفسه قد يتخذ أساسا لتسويغ أنظمة ثيوقراطية ( لاهوتبة ) ديكتاتورية، كما أن الدين يمكن أن يمثل أساسا للسماحة والقبول بالتعدد أو على الأقل للتعايش الديمقراطي.

ـ لا يرى الغنوشي أي مبرر معقول لرفض النظام الديمقراطي على اعتبار أن الديمقراطية ‘هي جملة من التسويات والترتيبات الحسنة التي تتوافق عليها النخب المختلفة من اجل إدارة الشأن العام بشكل توافقي بعيدا عن القهر وعلى أساس المساواة في المواطنة حقوقا وواجبات’. وأنه ليس في الإسلام ما يمنع الترتيبات التي جاء بها النظام الديمقراطي علاجا لآفة الديكتاتورية.

مناقشة موقف الحركات الإسلامية من الديمقراطية

يحلل الأستاذ راشد الغنوشي وينتقد الموقف الرافض للديمقراطية من قبل بعض التوجهات في الساحة الإسلامية الذي يصل بعضها إلى تكفير الديمقراطية تأسيسا على نظر مبسط لكل من الإسلام والديمقراطية من قبيل قولهم إن الديمقراطية هي حكم الشعب والإسلام حكم الله، معتبرا أن هذا من قبيل الحق الذي يقصد به باطل، وبعض المواقف التي تقول أنه ليس في الإسلام حرية معتبرا أن هذا الطرح حامل لنذر الإرهاب والدم والقمع باسم الإسلام".

ـ يقرر راشد الغنوشي أن المباح في الإسلام هو الحرية ذاتها بل هي أوسع أحكام الشريعة وميادين عملها، وينتقد جماعات إسلامية أخرى ترفع شعارات أخرى بديلة عن الديمقراطية من قبيل ‘شورى أهل الحل والعقد، معتبرا إياها شورى سائبة تردد عموميات وهي لا تعني في المحصلة شيئا إلا إذا كانت تلك الجماعات المتشددة تعني نفسها حين تتحدث عن أهل الحل والعقد، فمن سيسلم لها بذلك؟

- يقرر الأستاذ أيضا أن الحركات الإسلامية باستثناء أقليات عنيفة تطورت في اتجاه الديمقراطية وسط مناخات قمعية، فكيف لو كانت تعيش في مناخات نقية (…) وكيف سيتسارع تطورها لو انتقلت من المعارضة إلى تحمل مسؤولية إدارة شؤون الناس (…) وما يفرضه ذلك من تعامل مع عالم ليس صديقا غالبا؟.

ـ يتطرق  بناء على هذه النقطة إلى الموقف المناهض الذي اتخذه العالم من حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات فيتساءل : وإن العالم لو تعاطى معها ايجابيا ماذا كان يكون انعكاس ذلك على تطورها وعلى تطور النظام الديمقراطي كله في المنطقة؟".

ـ يستحضر راشد الغنوشي ويستعيد تاريخ المنطقة العربية وعددا من الحالات مثل الحالة الجزائرية والحالة التونسية وغيرهما ، ويستنتج ان ‘البطش الذي تعرضت له الحركات الإسلامية هو الذي هيأ المناخ الذي تولدت فيه القاعدة وامتداداتها، مؤكدا أن تهمة اللجوء إلى العنف تصدق على الجهات العلمانية التي تستصرخ العسكر ‘لتسحق بصناديق الذخيرة صناديق الاقتراع".

ـ في تناوله لحرية المعتقد يشير الغنوشي  إلى أن أية "لا إكراه في الدين"، تمثل قاعدة كبرى من قواعد الإسلام، ولمقتضياتها نتائج سياسية كبيرة، فاكراه الناس على الإيمان ممتنع لأن ‘الاعتقاد محله القلب".

 ـ يقرر أيضا أن نسخ الاعتبارات الشرعية العظمى بآيات الجهاد ‘قد اثبت التحقيق المعاصر بطلانه’ منكرا بالتالي ان يكون الإسلام، على ما يزعم البعض، "دين السيف".

يخلص الغنوشي إلى أن الناس لو فقهوا لمطالب كل من الديمقراطية والإسلام، لوقفوا على حقيقة المساحة الواسعة للاشتراك والتداخل بينهما، وأنهما يصلحان أساسا متينا لتبادل المنافع والتعايش، كما أن التباين معها والاستدراك عليها واردان، وأن تلك هي حصيلة تأملاته لسنوات طويلة، وأنه خرج ورفاقه من المعتقلات لننخرط في ساحات النضال اليومي ضد الديكتاتورية متسلحين بهذين السلاحين: الإسلام والديمقراطية.
كما يتناول الغنوشي مجمل قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وعلاقتها بالإسلام والإسلاميين، مستوفياً شروط الموضوع السجالية والمنطقية والتاريخية، وهو في هذا لا يختلف عن اتجاه عام في الفكر الإسلامي لتظهير أفضل ما أخرجته التجربة الإسلامية من آراء ومقترحات ونقاشات، عائداً بشكل دائم إلى النص والسنّة والتشريع والتاريخ والفقهاء.

تناول الأستاذ راشد الغنوشي قضايا ترتبط بالاقتصاد والمرأة والمجتمع المدني وحرية العقيدة وغيرها من نقاط إشكالية في الفكر الإسلامي، لكنه يترك بعضها مفتوحا مثل مسألة الردة، وهي مسألة تتناقض مع إحدى الحريات الأساسية في المجتمع المدني وهي حرية العقيدة.

الحرية والحضارة والاستبداد والتخلف

خصص الغنوشي فصلا من كتابه لـ "إثبات وجود علاقة تلازم بين الحرية والحضارة"، وكذلك لإثبات "التلازم بين الاستبداد والتخلف".

وبعد جولة في الإشكالات التي تعرض لها الفلاسفة في موضوع الحرية،  يخلص إلى إن رحلة مبحث الحرية انتهت إلى أن "غدت الديمقراطية ينظر إليها على أنها الإطار المناسب بل الوحيد لممارسة الحرية بدل الجدل حول نظرياتها الفلسفية"،

ويقدم هذا الطرح الغنوشي في صورة الواعي والمتقبل للتطور التاريخي للمدنية والحضارة بحيث يمزج بين نظريات المفكرين الغربيين وبين آراء الإسلاميين مثل المعتزلة وبن حنبل الذي يعتبر "أن ثورته منعت قيام وصاية للدولة على الدين، لكنها ‘أفضت بالنتيجة إلى إطلاق العنان للقوى المضادة للحرية"، مما أبعد مبحث الحرية عن حقوق الناس بينهم وبين حكامهم، فضاق الحديث في هذه الساحة الرئيسية وغلبت عليه "ضروب التملق للحكام، ووصايا كتاب الدواوين التي أحيت في الإدارة والثقافة الإسلامية مواريث الساسان الثيوقراطية".

ويعتبر أن ذلك كان الباب الرئيس الذي دخل منه الانحطاط "ولا يزال مخيما على دنيا المسلمين".
 
وهنا يضع الغنوشي إصبعه على موضوع خطير وهي ضرورة نقد الفكر الإسلامي وضرورة المراجعة التاريخية لأسباب انحطاطه وتراجعه.

حرية العقيدة ومسألة الردة’

في رأيه حول "حرية العقيدة ومسألة الردة"، أورد الغنوشي ما أجمعت عليه الآراء والفتاوى دون أن يدلي برأي اجتهادي يتناسب مع ما هو سائد في  الأعراف الإنسانية الحديثة وحقوق الإنسان.

وفيما يتعلق بمسألة "المرأة والحرية" يستند الغنوشي إلى الحديث النبوي "النساء قائق الرجال"، ويقرر أن "الكون قائم على نظام الزوجية" مع التأكيد على ضرورة "التمييز بين التساوي والتماثل، فمراعاة الخصوصية هو من ضرورات احترام الإنسان".

يخلص الغنوشي إلى أن الناس لو فقهوا لمطالب كل من الديمقراطية والإسلام، لوقفوا على حقيقة المساحة الواسعة للاشتراك والتداخل بينهما، وأنهما يصلحان أساسا متينا لتبادل المنافع والتعايش، كما أن التباين معها والاستدراك عليها واردان، وأن تلك هي حصيلة تأملاته لسنوات طويلة،  وأنه خرج ورفاقه من المعتقلات لننخرط في ساحات النضال اليومي ضد الديكتاتورية متسلحين بهذين السلاحين: الإسلام والديمقراطية.

إقرأ أيضا: بين المشرق والمغرب.. جدل الوحدة والتمايز في التجربة الحركية الإسلامية (1)
التعليقات (0)

خبر عاجل