حين يهبّ النسيم على تلال الجنوب، تصعد معه أصوات الأمهات من الشرفات
القديمة، كأنّ الريح لا تمرّ إلا محمّلة بنداء لا ينقطع. في تلك الهمسات البعيدة، المختلطة
برائحة الأرض ورجفة الانتظار، ينبض قلب الشرق المتعب من الحروب والانقسامات، الباحث
عن ظلّ شجرة لا يقتلعها الطوفان، ولا تغتالها الطائفية.
في المشرق
العربي، حيث يصبح الحنين موقفا، والتعدد امتحانا يوميّا، يتردد
صدى تلك الآهات القديمة في بيروت تحديدًا، المدينة التي كانت وما زالت مرآة كل التناقضات:
مقاومة واحتلال، حداثة وتقاليد، دين ومدنية. من هذا المعترك المتشابك، ولد فكر رضوان
السيد، لا بوصفه صدى لصراع حضاري، بل كحوار عقلاني مفتوح بين الأزمنة، يبحث عن موقع
ثالث لا يخاصم الدين، ولا يؤلهه؛ لا يتنكّر للتعدد، ولا يغرق في فوضاه.
ومن وسط هذه اللحظة اللبنانية والعربية المتأرجحة، جاءت مساهمة رضوان
السيد لتطرح سؤال العلمانية من جديد، لا كمواجهة بين الشرق والغرب، بل كمحاولة لإعادة
ترتيب العلاقة بين الدين والدولة في فضاء عربي متعدد، مأزوم، لكنه لم يفقد بعد قدرته
على إنتاج التوازن. فكيف صاغ السيد هذا المشروع؟ وأين يقف فكره بين الرفض المطلق والنقل
الحرفي؟ هذا ما سنتوقف عنده في المحاور التالية.
بقيت ملاحظة يجب تثبيتها قبل البدء، عندما اتجهتُ لتأمل تصور
رضوان السيد
للعلمانية، كانت الساحة الفكرية العربية مشتعلة بنقاشات حادة حول التحولات العميقة
التي طرأت على خطابه السياسي، خاصة بعد انحيازه الواضح إلى خصوم الإسلام السياسي في
مرحلة ما بعد الثورات العربية. لكن هذا التقرير لا يسعى إلى محاكمة تلك التحولات، بل
يعود إلى المرحلة التي سبقتها، حين كان السيد يُنظّر لعلاقة أكثر اتزانًا بين الإسلام
والمدنية، ويقترح توافقًا عربيًا ـ إسلاميًا ممكنًا حول مفهوم العلمانية، لا بوصفها
قطيعة مع الدين، بل كإطار ناظم للتعدد وضامن للعيش المشترك في مجتمعات مأزومة.
من صدمة العلمنة إلى هندسة التعدد.. تجربة بيروت نموذجًا
كتب رضوان السيد تجربته الفكرية في سياق لبناني متشابك، اتسم بتداخل الطوائف،
وتعدد المرجعيات الدينية والفكرية، وصراع السرديات حول الدولة والمجتمع. في هذا الحقل
المركب، لم تكن العلمانية مجرد شعار سياسي أو مبدأ فلسفي، بل كانت قضية عيش يومي، ومعضلة
عملية في إدارة الدولة والفضاء العام.
لا يطرح السيد العلمانية كنسق شامل أو نهاية فكرية، بل كمفهوم مرن، يمكن تعريبه أو إعادة صياغته ضمن شروط الواقع العربي. ولذلك، فهو لا يرفض مفهوم العلمانية بحد ذاته، بل يطالب بإعادة تعريفه على قاعدة التمييز لا الفصل، والشراكة لا الهيمنة، والمواطنة لا الطائفية.
بيروت، التي مثّلت لقرون منبرًا حرًا للطباعة والنشر والجدال الفكري،
دفعت السيد إلى اقتراح نموذج مختلف: لا ينطلق من تقليد الغرب ولا من استعادة الماضي،
بل من بناء رؤية لبنانية - عربية تتعامل مع العلمانية لا كضرورة أيديولوجية بل كإطار
تنظيمي مدني توافقي.
1 ـ الدولة المدنية لا الدولة العلمانية.. الفصل
بين المفهومين
يرى رضوان السيد أن الخلط بين "الدولة المدنية" و"الدولة
العلمانية" يُنتج توترًا غير مبرر في السياق العربي والإسلامي. فالدولة المدنية،
في نظره، تعني دولة القانون والمؤسسات والمواطنة، وهي لا تشترط علمنة المجتمع أو إقصاء
الدين من الحياة العامة، بل فقط تمنع هيمنة دينية على السلطة.
في المقابل، الدولة العلمانية، بنموذجها الصارم كما تطورت في الغرب، ليست
ضرورة لتحقيق الديمقراطية أو التعدد، بل قد تؤدي أحيانًا إلى نفور مجتمعي، إذا ما فُهمت
كمشروع إقصائي.
2 ـ الفقه السياسي الإسلامي.. ذاكرة بديلة عن
الثيوقراطية
يعتمد السيد على رصيده كمؤرخ للفكر الإسلامي لإثبات أن الإسلام السياسي
التاريخي لم يعرف نموذج الدولة الثيوقراطية، بل قامت دول المسلمين على نظم "مدنية"،
حيث كان الخليفة أو السلطان يُبايَع من الناس، وتُمارس الشورى والتدبير السياسي من
داخل المجال العام، لا من منطق العصمة الدينية أو الوحي السياسي.
بهذا المعنى، يرى السيد أن الفقه السياسي الإسلامي هو ذاكرة بديلة عن
الحكم الديني، وأن بالإمكان استلهامه في بناء تصوّر حديث للدولة دون حاجة للقطيعة مع
المرجعية الإسلامية.
3 ـ الإسلاميون والعلمانية.. نقد الرفض المطلق
رغم انتقاده لعلمنة الدولة على الطريقة الغربية، إلا أن السيد لا ينحاز
أيضًا إلى الرفض المطلق الذي تبديه بعض الحركات الإسلامية لمجرد فكرة التنظيم المدني
للعلاقة بين الدين والدولة. بل ينتقد نزعة التقديس السياسي التي تحوّل الشريعة إلى
برنامج حزبي، أو تفرض على المجتمع نموذجًا دينيًا واحدًا.
يدعو السيد إلى تربية سياسية جديدة داخل التيارات الإسلامية، تقوم على
الاعتراف بالتعدد، وقبول الاحتكام إلى المؤسسات، واحترام المواطنة بصرف النظر عن الدين.
4 ـ الإسلام السياسي والعيش المشترك.. دروس
من التجربة اللبنانية
من خلال دراسته للحالة اللبنانية، يرى السيد أن العنف الطائفي لم يكن
ناتجًا عن الدين، بل عن تسييس الدين وتحويله إلى أداة صراع. ولذلك، فإن حماية الدين،
كما يرى، لا تكون بإقحامه في الدولة، بل بإبقائه خارج المنافسة السياسية المباشرة،
مع ضمان حضوره في المجال الثقافي والقيمي.
هذا المنطق التوافقي يهدف إلى تجنيب المجتمعات العربية خيارين فاشلين:
الدولة الدينية التي تهدد التعدد، والدولة العلمانية الجذرية التي تهمّش الدين. الحل
هو دولة مدنية تستوعب الدين ضمن فضاء تشاركي، لا إقصائي.
5 ـ نحو علمانية عربية
لا يطرح السيد العلمانية كنسق شامل أو نهاية فكرية، بل كمفهوم مرن، يمكن
تعريبه أو إعادة صياغته ضمن شروط الواقع العربي. ولذلك، فهو لا يرفض مفهوم العلمانية
بحد ذاته، بل يطالب بإعادة تعريفه على قاعدة التمييز لا الفصل، والشراكة لا الهيمنة،
والمواطنة لا الطائفية.
يرى أن المشكلة ليست في "العلمانية" كمجرد كلمة، بل في استخدامها
كسلاح ثقافي ضد الدين، أو كسردية غربية تُفرض دون حوار أو تفاهم. لذلك، فهو يدعو إلى
"علمانية توافقية" عربية، تقر بالتاريخ، وتحترم الخصوصية، وتؤسس للعيش المشترك.
موقع السيد بين المسيري وبشارة
إذا كان عبد الوهاب المسيري قد نظر إلى العلمانية بعين الريبة الحضارية،
وعزمي بشارة رآها بوابة ضرورية للديمقراطية، فإن رضوان السيد يمثل تيارًا ثالثًا، ينطلق
من داخل النص الإسلامي، لكنه لا يتوقف عنده، ويستفيد من الدروس الغربية، دون أن ينقلها
حرفيًا.
إنه صوت عقلاني وتوفيقي، يحاول أن يؤسس لفهم عربي للعلمانية، لا يخاصم
الدين، ولا يخضع له، بل ينشئ بينهما توازنًا يحترم الخصوصية، ويضمن التعدد. وفي زمن
تعصف به الانقسامات الفكرية والسياسية، يقدّم مشروعه فرصة ثمينة لإعادة التفكير في
علاقة الدين بالدولة، ليس كمعضلة فكرية مجردة، بل كمسألة يومية حارقة في حياة المواطن
العربي.
رضوان السيد وأفق التوازن في المشرق
يمثّل مشروع رضوان السيد لحظة نضج في الفكر العربي الإسلامي المعاصر،
لأنه لا يهرب من التعقيد، ولا يختزل التعدد، بل يعترف به ويتعامل معه. في مشرق عربي
يعيش على وقع تجاذبات طائفية حادّة، وتداخلات دولية مستمرة، يعيد السيد الاعتبار إلى
"المدني" بوصفه فضاء التقاء، لا ساحة صراع، وبوصفه تنظيمًا مشتركًا لحياة
سياسية لا تُقصي الدين، ولا تُوظّفه.
إن أهمية أطروحة السيد تكمن في أنها تقدم "علمانية توافقية"
تحترم الخصوصيات الدينية والثقافية، دون أن تقع في فخ الثيوقراطية أو الهيمنة الطائفية.
فبيروت، التي عاشت التعدد المذهبي والاحتلال الإسرائيلي والتحولات العولمية، أنجبت
فكرًا عقلانيًا منفتحًا، قادرا على اقتراح بديل حضاري محلي، لا يتنكّر لتراثه، ولا
يعيد إنتاج استبداد باسم الدين أو العلمنة.
رغم انتقاده لعلمنة الدولة على الطريقة الغربية، إلا أن السيد لا ينحاز أيضًا إلى الرفض المطلق الذي تبديه بعض الحركات الإسلامية لمجرد فكرة التنظيم المدني للعلاقة بين الدين والدولة. بل ينتقد نزعة التقديس السياسي التي تحوّل الشريعة إلى برنامج حزبي، أو تفرض على المجتمع نموذجًا دينيًا واحدًا.
لقد اصطدم المشرق العربي باكرًا مع المشروع الاستعماري، سواء في صيغته
البريطانية في فلسطين والعراق، أو في نسخته الفرنسية في لبنان وسوريا. لكن هذا المشرق
نفسه، عبر مفكرين من طراز رضوان السيد، ما زال قادرًا على تقديم نماذج فكرية متوازنة،
تمارس التمييز بدل الفصل، والتأويل بدل الإقصاء، وتضع الإنسان ـ بكل أبعاده الدينية
والثقافية ـ في قلب مشروع الدولة المدنية.
وهكذا، يضع رضوان السيد نفسه، لا في منطقة وسط بين بشارة والمسيري فحسب،
بل في موقع متقدم لصياغة مشروع فكري عربي يواجه الاستبداد والتغريب معًا، ويفتح الباب
أمام مصالحة كبرى بين الإسلام والمدنية، بين التعدد والوحدة، بين الدولة والمجتمع.
في زمنٍ تتقاذفه الثنائيات القاتلة بين الإقصاء باسم الحداثة، والهيمنة
باسم الدين، يقدّم رضوان السيد مشروعه كنافذة ثالثة، تشبه نافذة بيت قديم في حارة بيروت،
لا تُغلق في وجه الريح، لكنها تُزيّن بالياسمين. إنه لا يبحث عن صيغ جاهزة، بل ينقّب
في التاريخ ويعيد ترتيب الحاضر، ليبني نموذجًا مدنيًا عربيًا، يقبل بالدين كحقيقة روحية
وثقافية، لا كأداة سلطة.
فكما أن النغمة الشجية التي تنبعث من حنجرة أم فلسطينية لا تُترجم فقط
بالدمع، بل بالكرامة والصمود، فإن فكر السيد لا يُقرأ فقط كنقد للعلمانية الغربية أو
للتيوقراطية، بل كمحاولة لاسترداد التوازن، في مشرقٍ أنهكته الحروب، لكنه ما زال يملك
من الروح ما يكفي لبناء شراكة تاريخية بين الإيمان والحرية.
إنها دعوة لمصالحة لا تلغي الاختلاف، بل تنظّمه، وتؤسس لفضاء مدني لا
مكان فيه للغلبة، بل للتشارك. وبين الريح القادمة من الجنوب، وصدى العقل الآتي من بيروت،
يُكتب هذا المشروع.. بهدوء، وعمق، وأمل.
المراجع
ـ الدين والدولة في تجربة الإسلاميين العرب، دار المدار الإسلامي، بيروت،
2013.
ـ الجماعة والمجتمع والدولة: تطور المفاهيم في الفكر الإسلامي، دار الكتاب
العربي، بيروت، 1997.
ـ سياسات الإسلام المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004.
ـ في الإسلام المعاصر: التحديات والتجديد، دار الكتاب العربي، بيروت،
2011.
ـ حوار مع رضوان السيد منشور في مجلة مواقف.