الذاكرة السياسية

من التّحرير إلى الانتفاضة.. محطات مفصلية في رحلة صعود "حزب الله"

عايش "حزب الله" تحولات جذرية في موقعه السياسي والشعبي منذ مطلع الألفية الثالثة.. الأناضول
عايش "حزب الله" تحولات جذرية في موقعه السياسي والشعبي منذ مطلع الألفية الثالثة.. الأناضول
في هذه المرحلة الدقيقة من مراحل الصراع مع إسرائيل، وفي ظل تحوّلات دراماتيكية تعيشها قوى المقاومة في لبنان وغزة والمنطقة، يبدو "حزب الله" مُحاطاً بجملة من التحديات المصيرية. فالحزب الذي نشأ في سياق مجابهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان منذ العام  1982، وتطوّر ليصبح قوة سياسية وعسكرية يمتد تأثيرها إلى دول عديدة في المنطقة، يجد نفسه اليوم أمام امتحان صعب. إمتحانٌ لا يقتصر على الاستمرار في دوره كمقاومة مسلحة، ولا على المشاركة الفعّالة في منظومة الحكم اللبنانية المعقّدة، بل يتعداها إلى الحفاظ على فكرة "الممانعة" التي تمحور حولها تحالفٌ جمعه مع إيران وسوريا، وفصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وقوى أخرى في العراق واليمن. التحالف سُمّي بالمحور، ووُصف "حزب الله" تارة بأنه "درّة تاجه" وتارة أخرى بأنه "قلبه"، لكنّه يواجه اليوم متغيّرات استراتيجية أبرزها التحول في أولويات إيران بعد تقاربها المرحلي مع قوى غربية وإقليمية، وتبدّل التموضعات السياسية في العالم العربي والاهم من ذلك نتائج الحرب الأخيرة التي أرست قواعد اشتباك جديدة ليست في صالح الحزب ولا المحور الذي يضمه.

"عربي 21" ينشر حلقة جديدة من سلسلة مقالات حول "حزب الله"، يركّز فيها على صعود حزب الله سياسيًا وشعبيًا بعد تحرير الجنوب عام 2000 وكذلك بعد حرب تموز يوليو عام 2006 مروراً بانقسام لبنان بين فرقي 8 و14 آذار إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005 وبأحداث 7 أيار مايو عام 2008 وصولًا إلى الانتفاضة الشعبية عام 2019 وجبهة إسناد غزة عام 2023.


تحولات جذرية

عايش "حزب الله" تحولات جذرية في موقعه السياسي والشعبي منذ مطلع الألفية الثالثة. فبعد تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، ارتفعت شعبيته محليًا وعربيًا إلى مستويات غير مسبوقة واعتُبر صاحب الإنجاز الذي عجزت عنه دول عربية عديدة وهو دحر الاحتلال الإسرائيلي من دون قيد أو شرط. وكان المقال السابق قد تطرّق إلى خوض الحزب حرب استنزاف ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسه عام 1982 إلى ما بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990) إذ سمحت وثيقة الوفاق الوطني التي عُرفت بـ "اتفاق الطائف" باستثنائه من تسليم السلاح بعد انتهاء الحرب الأهلية لأنه يقاوم الاحتلال الإسرائيلي.

عايش "حزب الله" تحولات جذرية في موقعه السياسي والشعبي منذ مطلع الألفية الثالثة. فبعد تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، ارتفعت شعبيته محليًا وعربيًا إلى مستويات غير مسبوقة واعتُبر صاحب الإنجاز الذي عجزت عنه دول عربية عديدة وهو دحر الاحتلال الإسرائيلي من دون قيد أو شرط. وكان المقال السابق قد تطرّق إلى خوض الحزب حرب استنزاف ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسه عام 1982 إلى ما بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990) إذ سمحت وثيقة الوفاق الوطني التي عُرفت بـ "اتفاق الطائف" باستثنائه من تسليم السلاح بعد انتهاء الحرب الأهلية لأنه يقاوم الاحتلال الإسرائيلي.
وعلى مدار العقدين التاليين، واجه الحزب محطات مفصلية، من اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري والانقسام السياسي والاجتماعي الحاد بين فريقَي 8 و14 آذار، إلى حرب تموز يوليو 2006 التي اعتبرها الحزب "نصرًا إلهيًا"، فأحداث 7 أيار مايو 2008 حين وجّه حزب الله سلاحه ضد الداخل اللبناني، لأول مرة منذ انتهاء الحرب الأهلية. كلّها محطاتٌ ساهمت في ترسيخ نفوذ "حزب الله" اجتماعياً وسياسياً، غير أن مواقفه إزاء الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في 17 تشرين الأول أكتوبر 2019 لأسباب معيشية، وقراره فتح جبهة إسناد لغزة في 8 تشرين الأول أكتوبر 2023، أثّرت على رصيده الشعبي حتى داخل البيئة الشيعية وطرحت تساؤلات حول دوره المستقبلي.

التحرير والنصر والسلاح 

تكلّلت جهود المقاومة باندحار الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في 25 أيار مايو 2000، وهو أول انسحاب إسرائيلي أحادي من دون مفاوضات أو معاهدة في تاريخ الصراعات العربية ـ الإسرائيلية فارتفعت شعبية "حزب الله" في لبنان والعالمَين العربي والإسلامي واحتُفيَ به كصانع نصرٍ تاريخي على إسرائيل. في خطاب النصر آنذاك (26 أيار مايو 2000) أعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أن "إسرائيل تملك قوة نووية، جيشًا قويًا، دعمًا غربيًا، لكنّها أوهن من بيت العنكبوت، ومجتمعها لا يتحمل الخسائر، ومجرد الهزيمة كفيلة بانهيار هذا الكيان. فتحوّلت عبارة "أوهن من بيت العنكبوت" إلى ما هو أكثر من مجرد شعار، إلى أداة رمزية وأيديولوجية قوية ذلك أنها مستقاة من القرآن الكريم، وتحديدًا من سورة العنكبوت – الآية 41: "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون".

لاحقاً، وبعد مرور ستّ سنوات حافلة بالأحداث الأمنية والسياسية في لبنان، شنّت إسرائيل حرباً مدمّرة على الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان وبعض البلدات في البقاع، على خلفية أسر حزب الله جنديين إسرائيليين على الحدود. استمرت الحرب 34 يومًا وخلّفت دمارًا هائلًا وآلاف الشهداء والجرحى، وحاولت خلالها اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لكنها فشلت.

وانتهت الحرب التي سمُيت "حرب تموز" بصدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي في 11 آب أغسطس 2006، الذي نص على وقف كامل الأعمال الحربية ودخل حيّز التنفيذ في 14 آب أغسطس. وبرغم الكلفة الباهظة للحرب، بشريًا وماديًا، خرج نصرالله أمام الحشود الغفيرة ليعلن "النصر الإلهي" على إسرائيل ويؤكد أن المقاومة أظهرت قدرة غير مسبوقة على الصمود. وبالفعل، آمن كثيرون في لبنان والعالم العربي أن مجرّد نجاة المقاومة وعدم انكسارها أمام آلة الحرب الإسرائيلية هو انتصار في حد ذاته فازدادت شعبية حزب الله عربياً وإقليميًا بوصفه أول "جيش عربي" يصمد في مواجهة إسرائيل.

عسكرياً، فشلت إسرائيل قبل التحرير عام 2000 وبعد حرب تموز عام 2006 في تحقيق أهدافها المعلنة وأولها القضاء على حزب الله أو شل قدراته، فيما أثبت الحزب قدرته على امتصاص الضربات العسكرية ومواصلة الأعمال الحربية مما عزز موقعه الداخلي والإقليمي.

أما سياسياً، فكانت كل حرب يخوضها حزب الله تعمّق الانقسام في لبنان وتعزز الاستقطاب. فبينما احتفى "حزب الله" وأنصاره بالتحرير والنصر الإلهي، وجّه له خصومه السياسيون انتقادات شديدة، معتبرين أن حمله السلاح هو أمر غير شرعي وتفرّده بقرار الحرب والسلم يُقحم لبنان في أزمات هو بغنى عنها ويعرّض البلاد لخطر مدمّر من دون استعداد وطني.

لذلك، وبعد كل حرب وكل سجال ناتج عنها، كان حزب الله يحرص على الانخراط بفاعلية أكبر في السياسة اللبنانية لحماية مكتسباته وتكريس نفسه كقوة سياسية وشريك في صناعة القرار، بعدما كان قوة عسكرية ومقاوِمة فقط.

بين 8 و14 آذار

أول محطة من محطات السجال بشأن سلاح حزب الله كانت تحرير الجنوب عام 2000 حين طُرحت تساؤلات في الداخل اللبناني حول مبرّر احتفاظ الحزب بسلاحه بعد زوال الاحتلال. ولعل أبرز الأصوات التي طالبت يومذاك بإعادة النظر في دور حزب الله وسلاحه بعد التحرير هو صوت البطريركية المارونية التي تمثّل ـ تاريخياً ـ مرجعية وطنية تتجاوز الطائفة المسيحية، إذ دعا يومذاك البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير صراحةً إلى أن تحتكر الدولة اللبنانية وحدها قرار الحرب والسلم، وعبّر عن قلقه من وجود سلاح خارج الشرعية.

عسكرياً، فشلت إسرائيل قبل التحرير عام 2000 وبعد حرب تموز عام 2006 في تحقيق أهدافها المعلنة وأولها القضاء على حزب الله أو شل قدراته، فيما أثبت الحزب قدرته على امتصاص الضربات العسكرية ومواصلة الأعمال الحربية مما عزز موقعه الداخلي والإقليمي.
ورعا صفير تأسيس ما عُرف بـ"لقاء قرنة شهوان" في 30 نيسان ابريل عام 2001 وهو تجمّع سياسي ضمّ مجموعة من الشخصيات المسيحية المستقلة والحزبية وانضمت إليه لاحقاً شخصياتٌ سنّية وشكّل نواة ما عُرف بعد سنوات بــ "قوى 14 آذار". وأنشأ البطريرك صفير هذا التجمع في المقر البطريركي في بلدة قرنة شهوان (قضاء المتن) وكلّف المطران يوسف بشارة بتمثيله في محاولةٍ منه لإعادة الدور السياسي المسيحي الذي تراجع بعد الحرب الأهلية، وإيجاد معادلةٍ تطمئن المسيحيين في ظل تصاعد القلق من الوصاية السورية على القرار اللبناني ومن استمرار سلاح حزب الله رغم انسحاب إسرائيل من الجنوب وانتفاء الحاجة إليه بحسب ما رأى التجمّع، وهو رأي عارضه الحزب بشدة وبرّر قراره الاحتفاظ بالسلاح بأن الانسحاب الإسرائيلي غير مكتمل مع بقاء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت الاحتلال.

لاحقاً، وتحديداً في أيلول سبتمبر من عام 2004، جرى تمديد ولاية رئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود لـ 3 سنوات إضافية بضغط من سوريا، برغم معارضة لقاء قرنة شهوان الذي اعتبر التمديد خرقاً للدستور وتكريساً للهيمنة السورية على القرار اللبناني. فعزز هذا الموقف من دور اللقاء كصوت معارض للوصاية السورية وسلاح الحزب، وفتح المجال أمام تحالفات أوسع ضمّت الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والزعيم السني رفيق الحريري. فتوسّعت جبهة المعارضة لتشمل قوى سياسية من مختلف الطوائف، وشكّل "لقاء قرنة شهوان" نواة هذه المعارضة التي نظمت صفوفها في ما عُرف بـ "لقاء البريستول"، الذي سيلعب لاحقاً، دوراً محورياً في الضغط لإخراج الجيش السوري من لبنان وتشكيل ما سيُعرف بـ"قوى 14 آذار".

وكان من أبرز الأعضاء المؤسسين للقاء قرنة شهوان: النائب الأسبق فارس سعيد، النائب الأسبق سمير فرنجية، الرئيس السابق أمين الجميل، النائب السابق والصحافي جبران تويني، النائب السابق إدي أبي اللمع والناشط السياسي توفيق الهندي (كلاهما يمثل القوات اللبنانية التي كانت ما تزال محظورة) النائب الأسبق منصور البون، إيلي كرامه (المعارضة الكتائبية)، سامي نادر (ممثلاً الحالة العونية التي شكّلت لاحقاً التيار الوطني الحر) وغيرهم...

تحوّل أعضاء لقاء قرنة شهوان إلى "قادة رأي" بالنسبة إلى أغلب المسيحيين القلقين من وجود سلاح خارج شرعية الدولة بحماية ورعاية من الوصاية السورية، وشكلوا قوّة ضاغطة في وجه حزب الله الذي وجد نفسه أمام تحدّ غير مسبوق يتمثل في إثبات حقه بالاحتفاظ بالسلاح وتأكيد استعماله ضد إسرائيل لا ضد اللبنانيين، بالتوازي مع الحفاظ على مكتسباته السياسية.

لكنّ الحدث المفصلي الذي قلب الموازين، تمثّل في اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط فبراير عام 2005 عندما انفجر ما يعادل 1000 كيلوغرام من مادة الـ "تي.أن.تي" أثناء مرور موكبه بالقرب من فندق سان جورج في بيروت. وامتدت أصابع الاتهام نحو سوريا وحلفائها في لبنان وعلى رأسهم حزب الله.

وفجّر اغتيال الحريري حالة غضب شعبي غير مسبوقة، وعمّت التظاهرات شوارع بيروت وجامعاتها، وضجّت المنابر الثقافية والفكرية والسياسية بالخطابات الداعية إلى تحرير لبنان من هيمنة سوريا التي وصفها البعض بالاحتلال وبما هو أبعد بكثير من الوصاية.

وأطلق "لقاء البريستول" (المنبثق عن لقاء قرنة شهوان) حركة احتجاجية مدنية واسعة بلغت ذروتها في تظاهرات حاشدة طالبت باستقالة حكومة الرئيس عمر كرامي وخروج الجيش السوري من لبنان وإنهاء الوصاية السورية على القرار السياسي اللبناني. وأطلق الرئيس الأميركي جورج بوش على هذه التظاهرات تسمية "ثورة الأرز" (Cedar Revolution) في خطاب ألقاه أمام الكونغرس الأميركي بتاريخ 2 آذار/مارس 2005، أي بعد نحو أسبوعين من اغتيال رفيق الحريري، وفي خضم التظاهرات الواسعة التي كانت قد اندلعت في لبنان.

فما كان من حلفاء سورية إلا أن دعوا إلى تظاهرة "جوابيّة" حاشدة تحت عنوان الوفاء لسوريا في 8 آذار مارس من عام 2005 رفع خلالها المتظاهرون شعار "شكراً سوريا" على دعمها المقاومة ومساهمتها بالتحرير. فردّ عليها قادة "ثورة الأرز" بتنظيم تظاهرة وُصفت بالمليونية في 14 آذار مارس وهو ذكرى مرور شهر كامل على اغتيال الحريري.

وبذلك سُميت القوى المتناقضة على اسم التاريخ الذي شهد "شعبيتها وإثبات وجودها" وبدأت حالة الاستقطاب الحادة بين قوى 14 آذار المدعومة من الغرب والسعودية وقوى 8 آذار المدعومة من إيران وسوريا، فانقسم المشهد السياسي والاجتماعي طوال السنوات التالية إلى محورين رئيسيين:

محور 14 آذار وشعاره "لبنان أولًا" و"رفض السلاح خارج الدولة"، بقيادة الزعيم السني الجديد سعد رفيق الحريري وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وانضمت إليه لاحقاً القوات اللبنانية بعد إخراج زعيمها سمير جعجع من السجن، في مقابل محور 8 آذار الذي ضم حزب الله وحركة أمل، وبعض الحلفاء التقليديين لسوريا وشعاره "السلاح لحماية لبنان".

وتفاقمت حالة الاستقطاب الحاد بعدما كرّت سبحة الاغتيالات التي استهدف شخصيات مناهضة للوجود السوري في لبنان واتُهم حزب الله بتنفيذها أو بتسهيله.

ووسط هذا الاحتقان السياسي والانقسام الشعبي قرّر حزب الله، ولأول مرة في تاريخه، الدخول رسمياً إلى الحكومة في تموز يوليو من العام 2005، بعدما كان يرفض ذلك سابقًا بحجة أنه "حزب مقاومة" فحصل على حقيبتين وزاريتين: وزارة الطاقة ووزارة العمل. وبدا أن هذه المشاركة مدروسةَ الأهداف، فهي من ناحية توفر دوراً للحزب داخل مؤسسات الدولة يحمي سلاحه سياسيًا بعد تصاعد الدعوات لنزعه، ومن ناحية أخرى، تجعل من الحزب شريكًا في اتخاذ القرار السياسي ما يعطيه "حق الفيتو" داخل الحكومة لاحقًا.

مبدئياً، ازداد نفوذ حزب الله داخل الدولة وتوسّع دوره السياسي، أما فعلياً فقد صار الحزب شريكًا في نظامٍ مأزومٍ يقوم على المحاصصة الطائفية لا على قواعد حديثة للحكم، ويتغذى من حالة الاستقطاب والخصومة.

فوجد "حزب الله" لنفسه حليفاً مسيحياً يؤمن بالمقاومة ولا يتبنى اتهامات الاغتيال الموجهة ضد الحزب. فوقّع حزب الله والتيار الوطني الحر (بقيادة ميشال عون الذي كان عاد من المنفى) ما عُرف بـ"ورقة تفاهم مار مخايل" في 6 شباط فبراير من العام 2006 وهي بمثابة تفاهم سياسي علني ومكتوب، بين طرفَين كانا على طرفَي نقيض خلال الحرب الأهلية وبعدها. ومن خلال هذا التفاهم الذي تحوّل لاحقاً إلى تحالف سياسي، نجح حزب الله في كسر عزلته الطائفية ووسّع قاعدة التأييد الشعبي وتصدّى لمحاولات إقصائه من قبل فريق "14 آذار" لكنه في المقابل أقحم نفسه في ما يشبه "الانفصام" والتناقض بين حمله السلاح وبين تبنيه شعارات الدولة الحديثة، وبدأ يتحمل تبعات إدارة السلطة الغارقة في الفساد الإداري، والمثقلة بعبء الدين العام الذي يُعدّ من أكثر الديون خطورة وتعقيداً في العالم، وهو ما دفع الحزب ثمنه لاحقاً في أحداث 7 أيار مايو من عام 2008 وعقب الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول أكتوبر من العام 2019.

أحداث 7 أيار 2008

ذروة التناقض بين حمل السلاح وتبني شعارات الدولة الحديثة، ظهرت خلال أحداث 7 أيار مايو 2008 التي استُدرِج خلالها حزب الله إلى توجيه سلاحه ضد خصومه في الداخل، ما أضعف شعبيته وأفقده ثقة الكثيرين من مؤيديه.

فبعد إسقاط حكومة عمر كرامي تحت ضغط التظاهرات، شُكّلت حكومة انتقالية برئاسة نجيب ميقاتي الذي طالب بإجراء تحقيق دولي مستقل في قضية اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري. فأصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1595 تحت الفصل السابع الذي نص على إنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة لمساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق، وتفويض اللجنة بصلاحيات كاملة لجمع الأدلة واستجواب الشهود وإجراء فحوصات جنائية ومقارنة المعطيات التقنية، مع الاحتفاظ بالحق في الحصول على دعم من دول أخرى (يمكن أن تكون من بينها إسرائيل).

ومع تطور التحقيقات، طلبت اللجنة الوصول إلى داتا الاتصالات الهاتفية في لبنان (سجلات المكالمات، بيانات الأبراج الخليوية...) معتبرة أنها ضرورية لتحديد تحركات المشتبه فيهم وخطوط التواصل يوم الاغتيال. وأدى تحليل داتا الاتصالات إلى الكشف عن وجود شبكات هواتف محمولة مغلقة وسرية اتضح لاحقًا أنها مرتبطة بعناصر من حزب الله، بحسب بعض التسريبات الإعلامية والتحقيقات التي أجرتها لاحقاً المحكمة الخاصة بلبنان (التي أنشئت بعد اللجنة الدولية)..

في 5 أيار مايو من عام 2008، قرّرت حكومة فؤاد السنيورة (المدعومة من قوى 14 آذار) تفكيك شبكة الاتصالات السلكية الخاصة بحزب الله، واعتبارها غير شرعية، بالإضافة إلى إقالة مدير جهاز أمن المطار المقرّب من حزب الله العميد وفيق شقير. فشعر حزب الله أن السيطرة على بيانات الاتصالات، واستخدامها بيد خصومه السياسيين وبيد لجنةٍ دوليةٍ تهيمن عليها السياسة الغربية الداعمة لإسرائيل، يُشكّل تهديدًا أمنيًا وجودياً له ويفضح تحركات قادته فاعتبر قرار حكومة السنيورة بمثابة "إعلان حرب" عليه.

في 7 أيار مايو منم عام 2008 قام عناصر مسلّحون ينتمون إلى حزب الله باجتياح بعض الأحياء في بيروت الغربية ذات الأغلبية السنية ولا سيما في الحمرا والمصيطبة، وبعض المناطق في جبل لبنان والبقاع والشمال، فأحرقوا مكاتب تابعة لتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي ودخلوا بالقوة إلى مبنى تلفزيون "المستقبل" الذي أسسه الرئيس الراحل رفيق الحريري، بينما انسحب الجيش اللبناني من المواجهة واكتفى بمنع التصعيد. وأُطلق على عناصر حزب الله الذي ظهروا بشكل منظم ومسلح اسم "القمصان السود" وهو اسم استخدم لاحقاً في الخطاب الإعلامي لفريق 14 آذار كرمز للترهيب السياسي.

كشفت تلك الأحداث عن هشاشة النظام السياسي اللبناني وعن عمق التداخل بين السياسة والسلاح. وتسببت بشرخ اجتماعي وسياسي لا يزال مفتوحًا حتى اليوم، خصوصًا مع بقاء سلاح حزب الله موضع جدل، فقد اعتبرتها قوى 14 آذار "يوماً أسود" فيما وصفها السيد حسن نصرالله بأنها "يوم مجيد من أيام المقاومة". ولذلك، رأى فيها البعض "بروفا" لحرب أهلية جديدة في ظل توازن هش بين القوى السياسية ومَن تمثل من مكونات طائفية، فيما رأى البعض الآخر أنها انكشافٌ لصراع غير معلن بين منطِقَين: منطِق الدولة ومنطِق "حزب الله".

وفي الحصيلة المعلنة لتلك الأحداث، سقط أكثر من 60 قتيلاً (تضاربت الأرقام التي أعلنها كلّ فريق في ظل غياب الإحصاءات الرسمية)، فقرّرت الحكومة تعليق قرارها المتعلق بتفكيك شبكة الاتصالات (السبب المباشر للأحداث) حقناً للدماء ومنعاً للانزلاق نحو اقتتال أهلي، ثم انطلقت وساطة عربية بقيادة قطر، أدت إلى انعقاد مؤتمر الدوحة في 21 أيار 2008 الذي أنهى المواجهات الدموية وأعاد المؤسسات الدستورية إلى العمل من خلال انتخاب رئيس للجمهورية بعد سنوات من الفراغ وتشكيل حكومة وحدة وطنية. لكنّ مسألة سلاح حزب الله بقيت خارج الحل النهائي، وتم تأجيلها إلى "حوار وطني" لم ينجح فعلياً في التوصل إلى تسوية.

الأزمة الشعبية في انتفاضة 17 أكتوبر

قد تكون الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في 17 تشرين الأول أكتوبر من عام 2019، سبباً في تراجع شعبية "حزب الله" مرة جديدة. فالتظاهرات عمت مختلف المناطق اللبنانية، على وقع أزمة اقتصادية خانقة واتهامات بالفساد وسوء الإدارة، ورفعت شعارات ضد الطبقة السياسية مجتمعة أشهرها شعار "كلن يعني كلن" فطالب المتظاهرون برحيل جميع الزعماء بلا استثناء، بما فيهم رموز كانت تُعد "مقدّسة" لدى جمهورها وعلى رأسها السيد حسن نصرالله.

في 7 أيار مايو منم عام 2008 قام عناصر مسلّحون ينتمون إلى حزب الله باجتياح بعض الأحياء في بيروت الغربية ذات الأغلبية السنية ولا سيما في الحمرا والمصيطبة، وبعض المناطق في جبل لبنان والبقاع والشمال، فأحرقوا مكاتب تابعة لتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي ودخلوا بالقوة إلى مبنى تلفزيون "المستقبل" الذي أسسه الرئيس الراحل رفيق الحريري، بينما انسحب الجيش اللبناني من المواجهة واكتفى بمنع التصعيد.
ولأول مرة امتدت شرارة الاحتجاجات إلى بعض معاقل الشيعة التقليدية في الجنوب والبقاع، حيث تجرأ متظاهرون شيعة على انتقاد الثنائي الشيعي (أمل وحزب الله) وهتفوا ضد الفساد والمحسوبية ما رأى فيه "حزب الله" تحديًا مباشرًا له ووجد نفسه - لأول مرة - هدفًا لنقمة الشارع إلى جانب حلفائه.

فاتخذ حزب الله موقفًا حذرًا ثم رافضًا تجاه الحراك الشعبي. وفي 19 تشرين الأول أكتوبر 2019 ألقى السيد حسن نصر الله خطابًا أكد فيه تفهّمه لدوافع المحتجين ومطالبهم المحقّة بمحاربة الفساد والتخفيف من حدة الأزمة المعيشية، لكنه حذّر من استقالة الحكومة، وفي خطاب آخر ألقاه بعد أيام شدّد على خشيته من "فوضى وفراغ يؤديان إلى الانهيار والفلتان الأمني وحتى إلى حرب أهلية" إذا سقطت الحكومة.

واعتبر نصر الله أنّ هناك أيادٍ خارجية تَركَب موجة الاحتجاج لفرض أجندات سياسية، متحدثًا عن "تمويل من سفارات وجهات أجنبية" لاستغلال النقمة الشعبية. هذه المواقف بدت للمحتجين محاولةً لحرف تحركهم عن أهدافه ونزع الشرعية عنه ورأى فيها البعض انحيازًا من حزب الله للنظام القائم خوفًا على موقعه أو نوعاً من المساومة التي تقوم على فكرة "أسكتوا عن سلاحنا، نسكت عن فسادكم". إذ رأى محللون أن تحذيرات نصر الله من الفراغ والفوضى عكست قلق الحزب على مصالحه كواحد من أركان المنظومة الحاكمة وانتقدوا صمته أو تغطيته على فساد حلفائه، وهو أمر زاد النقمة الشعبية ضده وولّد نوعاً من العتب عليه من قبل مؤيديه.

وهكذا تضررت صورة حزب الله لدى شريحة واسعة من اللبنانيين بمن فيهم بعض مناصريه السابقين إذ بات يُنظر إليه كجزء من المشكلة لا كقوة تغيير. بيد أن القاعدة الشعبية الصلبة بقيت موالية له، مقتنعةً بأن المؤامرات الخارجية تستهدف المقاومة عبر ضرب الاستقرار الداخلي. وبذلك مثّلت أزمة العام 2019 نقطة فاصلة تراجعت معها شعبية الحزب لدى الرأي العام غير الطائفي، مع تحمّله مسؤولية ضمنية عن حماية منظومة الحكم المأزومة.
التعليقات (0)

خبر عاجل