الكتاب: "حول المسلم الديمقراطي: مقالات
وحوارات"
المؤلف: أندريه مارتش
ترجمة: كوناتان روايت وأندريه مارتش
دار النشر: منشورات جامعة أكسفورد
سنة النشر: 2023
عدد الصفحات: 242
استأثرت كتابات مؤسسي الحركات الإسلامية
بقدر كبير من الاهتمام البحثي، وغطت الدراسات مسارات تنظيماتهم، وتطور سلوكهم
السياسي، وخطابهم الفكري والإعلامي، وتم التركيز أكثر على تفسير السلوك السياسي.
لكن قلما، تم دراسة علاقة تطور إيديولوجية التنظيمات بكسبهم في مجال السياسة،
فغالبا، ما كان يتم الجنوح لتفسير أثر المشاركة السياسية أو الاندماج في النسق
السياسي في تغيير أطروحات الإسلاميين الفكرية، أي دراسة المظهر البراغماتي في فكر
الإسلاميين، وكيف يتكيفون لخدمة مواقع سياسية، ولم يكن من دأب هذه الدراسات منذ أن
كتب صمويل هنغتنتون ورولز عن تأثيرات المشاركة في الفكر السياسي للتنظيمات
المندمجة في الحقل السياسي، أن تطرح فرضية تطور إيديولوجية فكرية بالحفاظ على
نسقها الناظم، ولا تتآكل مع مسارات الاندماج السياسي، وإنما تعدل فكرتها بالنظر
إلى أن افتقاد الواقع السياسي للقواعد التي تسمح بذلك، وأن الأولوية لبناء تلك
القواعد التي تسمح بتداول نسقها الفكري الأصلي.
يندرج كتاب الباحث الأمريكي "أندريه
ماترش": "حول المسلم الديمقراطي"، ضمن هذا الجهد النظري الذي يسعى
إلى استقراء تطور النظرية الديمقراطية عند راشد
الغنوشي، زعيم حزب النهضة، ومحاولة
تفسير تحولاتها في سياقات متعددة، سواء قبل الثورة، أو اثناءها أو اثناء ترتيب
مراحل الانتقال الديمقراطي، أو حتى بعد الانقلاب على الديمقراطية، وتنطلق أطروحة
الكتاب، بالأساس من بحث تحول النظرية الديمقراطية عند الغنوشي من إطارها المثالي
(الكامل) إلى النظرية الديمقراطية المسلمة
التي بنت قواعدها النظرية على التعددية، الإجماع، القانون، ذلك الثالوث الذي خرج
عن براديغم الديمقراطية المثالية.
وتكمن أهمية الكتاب، في طبيعته، من حيث كونه
يجمع بين عشرة مقالات وخطب ومقابلات وحوارات كان المؤلف قد نشرها بين عامي 2005
و2012، تتناول قضايا الحرية والديمقراطية والتعددية ومصادر الإلهام المتنوعة للفكر
الإسلامي، إضافة إلى سلسلة حوارات أجراها المؤلف مع الشيخ راشد الغنوشي حول مجموعة
واسعة من الموضوعات، بدءا من سيرته الذاتية، وصولا إلى العلاقة من التزاماته
الإيديولوجية (الأطروحة الفكرية) وبين التوجه نحو الديمقراطية، كما تكمن أهميته من
جهة أخرى إلى طبيعة الباحث، المعروف بخبرته في دراسة الإسلاميين.
وتبين مقدمة الكتاب، التي استغرقت حوالي 31
صفحة، وزن الباحث، إذ حرص على أن يؤطر هذه الوثائق المقدمة أصلا للقارئ الأجنبي،
بمقدمة قدم فيها إسهامه النظري في تفسير تحول راشد الغنوشي من الأطروحة التقليدية
المثالية إلى الديمقراطية المسلمة، بمناقشة عدة نماذج تفسيرية (صمويل هنغتنتون
ورولز، أوليفي روا، وآصف بيات في أطروحة ما بعد الإسلاميين).
مفارقة انقلاب قيس سعيد ونضج فكرة الغنوشي
حول الديمقراطية
يذكر الباحث سياق حواراته بالشيخ راشد
الغنوشي، أي ما بين 2021 و2022، وتحديدا قبل خمسة أشهر من الانقلاب الذي قام به
قيس سعيد على المؤسسات السياسية بتونس، ويشير إلى ملاحظة هي أشبه بالمفارقة، تتعلق بتطور فكر
راشد الغنوشي، والذي بدل أن يتجه إلى التطرف، بفعل إجراءات قمعية قام بها النظام
لإنهاء المستقبل السياسي لحركة النهضة، كان أكثر تمسكا بالمسار الدستوري وبالمؤسسات التي بدأت في التشكل شيئا فشيئا، وكان يطلق خطابا مطمئنا لعموم المواطنين ودعوتهم للثقة بالمؤسسات وقدرتها على حماية نفسها وإصلاح ذاتها.
يسجل الباحث كيف حقق الغنوشي في مسار تطور
فكره نحو الديمقراطية تراكما مهما وبشكل طبيعي، وذلك على مدى العشر السنوات
الأخيرة، حيث كان دائما يشغل مركز التوسط في صفقات الائتلاف بين الأحزاب المتعارضة
أيديولوجيا، وبرزت نظريته السياسية، والدور الذي تخيله لشعب ديمقراطي فاعل ومنخرط
ومتداول. وخلافا للنظريات الإسلامية التقليدية التي حصرت القانون في الشريعة،
وأناطتها بنظر الفقهاء، تصور الغنوشي أن تطبيق الشريعة الإسلامية عملية تداولية
عامة لا تقتصر على الخبراء فحسب، بل تشمل أيضا المواطنين العاديين. هذا قبل أن
ينتهي به المسار إلى الاعتقاد بأن إجماع النخبة هو الضابط الأساسي ضد الاستبداد
وهو الطريق المعبد دائنا للعودة إلى الديمقراطية.
يسجل الباحث نجاح النخب في تونس على مدى السنوات التي أعقبت الثورة التونسية في تحقيق توافق دستوري، لكن مع بقاء الانقسامات الأيديولوجية العميقة وانعدام الثقة بين النخب، وتجييش المجتمع ضد الإسلاميين بالدعاية الإعلامية.
يفسر الباحث ذلك إلى التجربة غير المألوفة
للانتقال إلى الديمقراطية في
تونس، والتي بنيت أساسا على توافق النخب، ولم تكن مثل
مصر مثلا، موجهة من قبل جهة ذات سيادة فعلية كالقوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية،
ولا الاحتلال الاستعماري.
يسجل الباحث نجاح النخب في تونس على مدى
السنوات التي أعقبت الثورة التونسية في تحقيق توافق دستوري، لكن مع بقاء
الانقسامات الأيديولوجية العميقة وانعدام الثقة بين النخب، وتجييش المجتمع ضد
الإسلاميين بالدعاية الإعلامية.
ويلفت المؤلف الانتباه إلى مفارقة أخرى،
فبينما يحتفى بحركة النهضة بوصفها تمثل التيار المعتدل في الإسلاميين، ظلت في
مخيال التونسيين تشكل امتدادا للإخوان المسلمين، لا تختلف عن أطروحتهم الفكرية في
شيء، وبحكم كونها الأكثر شعبية، وفي الآن ذاته، المكروهة لدى الكثيرين، فقد كانت
حملات خصومها السياسيين من قوى النظام القديم تتأسس على فوبيا النهضة.
ويرى الباحث أن الكثير من التوتر الذي
ابتليت به الديمقراطية التونسية بين عامي 2011 و2021 يعود بالأساس إلى للمنافسة
بين النخب، وتحديدا مقاومة أي مسعى للمساءلة عن الفساد المالي والقمع السياسي في
ظل نظام بن علي، وأن ذلك زكى واقع تعميق الخلاف الإيديولوجي من جهة وانعدام الثقة
بين النخب في الجهة المقابلة مع أن الانقسامات العرقية والطائفية لم يكن لها محل
في المجتمع التونسي.
ويشير الباحث إلى ملاحظة مهمة بخصوص
الديمقراطية التونسية، فعدم وجود أغلبية ساحقة من التونسيين متمحورة حول رؤية
موحدة لما سيكون عليه النظام بعد الثورة حسب ما أفادت به نتائج الانتخابات
البرلمانية والرئاسية والمحلية بعد عام 2014، هو الذي فسر التنافس بين النخب،
والتوافق على نظام دستوري يوزع السلطة بين الرئيس ورئيس الوزراء، وأن هذه الآفة
السياسية، هي التي جعلت الحفاظ على الديمقراطية التونسية منوطا بالتوافقات
والائتلافات بين النخب (نموذج علاقة العمل التي نشأت بين الغنوشي والرئيس الباجي
قائد السبسي)، إذ كانت الأزمات تحل بشكل دائم بأغلبية ضئيلة على أساس توافق النخب،
هذا قبل أن تزحف الشعبوية على الحكم وتنهي
الحكم الديمقراطي من خلال تعليق مؤسساته.
في هذه الظرفية المحكومة بعودة الاستبداد
يكشف الباحث جزءا مما دار بينه وبين راشد الغنوشي الذي أعرب له بتفاؤل حذر عن أمله
في العودة إلى الحكم الدستوري من خلال مزيج من إجماع النخبة والاحتجاج الشعبي، بيد
أن السيناريو الذي رسم المرحلة ما بعد هذا اللقاء سار في الاتجاه المعاكس، أي مزيد
من ترسيخ حكمه الاستبدادي (استفتاء 25 يوليو/ 2022 على الدستور رئاسي، أُقر بنسبة
مشاركة ضئيلة بلغت 30.5%). وكشف الباحث أيضا، أن تفاؤل الغنوشي لم يكن يمنعه من
الشعور مع اقتراب نهاية مسيرته السياسية، وهو في سن الثمانين، أن النموذج الاستبدادي،
يتجه إلى تجريم النهضة، واستئصالها على الطريقة السابقة (طريقة بن علي) بما يشكل
نهاية مأساوية لمسار الغنوشي السياسي، بعد أن قضى عمره الفكري والسياسي يؤصل
لمعادلة "أمن العلمانية من الإسلام، وأمن الإسلام من العلمانية".
ويلاحظ الباحث أنه على الرغم من عشر سنوات
الماضية التي قامت فيها النهضة بدور فعال كمركز لصناعة التوافقات، فإنها لم تستطع
أن تعزز ثقة النخب فيها، ولا أن تمحو صورة "رهاب الإسلاميين" والتهديد
الذي يشكلونه لمكاسب العلمانية والنسوية، تلك الصورة التي تصنعها الدولة وترسخها
في أذهان التونسيين.
ومع كل هذه التحولات الدراماتيكية، يكشف
الباحث بأن الحوارات التي أجراها مع الغنوشي ما بين عامي 2021 و2022، لم تسحب
التفاؤل من تفكيره ونفسيته، مع أن الغنوشي اعتقل مع حلول موعد طباعة الكتاب (أبريل
2023) وهو يواجه تهما جنائية عريضة، لإنهاء مساره السياس ومسيرة حركته.
سردية النهضة: خارطة تحول الديمقراطية في
فكر الغنوشي
استعرض الباحث حياة الشيخ الغنوشي، منذ
ولادته إلى تأسيسيه للجماعة الإسلامية ثم الاتجاه الإسلامي، وعلاقة حركته بنظام
ابن علي، وكيف شكلت انتخابات 1989 المحلية التي حققت فيها النهضة نتائج مبهرة،
منعطفا في تغيير التعاطي مع حركة النهضة، وتبني نهج الاستئصال، وفترة المنفى التي قضاها في لندن، والتي
أثمرت عددا من أعماله التي بسط فيها
نظريته السياسية، وفي مقدمتها كتابه "الحريات العامة في الدولة
الإسلامية"، وكيف أدار رئاسة النهضة من المنفى، وأصبح عضوا بارزا في المجال
العام الإسلامي العالمي، وبرز كشخصية مؤثرة في النقاشات الدولية حول الديمقراطية
والتعددية وإعادة تفسير الشريعة الإسلامية بما يتناسب مع الظروف المعاصرة. ثم
ينعطف إلى استقراء سيرته بعد الثورة، وكيف قادت حركته دينامية سياسية انتهت بتحقيق
نتائج مهمة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011، ويركز الباحث على
هذه اللحظة، ويجعلها محطة لدراسة الشكل الذي تفاعلت بها النظرية السياسية للغنوشي
مع تحولات الواقع.
يلاحظ الباحث أنه على الرغم من مرور حوالي
ثلاث سنوات مليئة بسلسلة من الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية، فإن النخب
التونسية نجحت في التوصل إلى اعتماد دستور جديد للبلاد في يناير 2014، ويعتبر أن
طول هذه المدة (ثلاث سنوات) لتحقيق التوافق بين النخب هو مؤشر على الانقسامات
السياسية والأيديولوجية العميقة في تونس، كما أنها تشكل في الآن ذاته، شهادة على
قدرة النخب السياسية على خلق نظام سياسي جديد من خلال المساومة السياسية وحدها.
ولتفسير عدم صمود ثمرات هذا التوافق مع
انقلاب قيس سعيد، يرى الباحث أن العملية لم تكتمل، وأنه لو أنشئت المحكمة
الدستورية التي اختلفت النخب السياسية حول مرشحيها، لما تمكن قيس السعيد من تعليق
العمل بالدستور.
يشير الباحث إلى محورية الدور الذي قامت به
النهضة في عملية التفاوض الانتقالية التي نجحت في الخروج بدستور لا يعكس رؤية
النهضة السياسية والإيديولوجية، حتى تحيرت أحزاب المعارضة في سبب تنازل النهضة
بهذا القدر في القضايا الهوياتية والمرجعية في الدستور (لم تدافع عن مرجعية
الشريعة في الدستور)، ويعزو الباحث اللغز في ذلك ليس إلى مصلحة براغماتية للنهضة
في دعم هذا النظام الدستوري الجديد، لأن مثل هذه النزعة البراغماتية قد ترتد إلى
نكوص داخل مكونات النهضة من جراء تناقض
السلوك السياسي مع الأطروحة المبدئية، وإنما يعود إلى تحول فكري أصيل يرتبط أساسا بنضج النظرية الديمقراطية عند
النهضة، وأن ذلك هو ما جعل النهضة تتخذ قرارا في مؤتمرها العاشر عام 2016، بتجاوز
تصنيف حزبها ضمن مسمى الإسلام السياسي، وتعريف نفسه بوصفه "ديمقراطيا مسلما".
يلاحظ الباحث أنه على الرغم من عشر سنوات الماضية التي قامت فيها النهضة بدور فعال كمركز لصناعة التوافقات، فإنها لم تستطع أن تعزز ثقة النخب فيها، ولا أن تمحو صورة "رهاب الإسلاميين" والتهديد الذي يشكلونه لمكاسب العلمانية والنسوية، تلك الصورة التي تصنعها الدولة وترسخها في أذهان التونسيين.
يعتقد الباحث أن اختزال هذا التحول في
البراغماتية، أو التسوية، أو "الاعتدال" لا يقدم تفسيرا لهذا التحول،
ويرى أن هناك شيئا مميزا في حالة النهضة ما بعد 2011، فان تختار التكيف أو التعاون
مع نظام سياسي ليس من صنعها هذا شيء، وبين أن تقوم النهضة بدور توليفي من أجل
تأسيس النموذج الديمقراطي فهذا شيء آخر.
ماذا تبقى من الديمقراطية الإسلامية عند
الغنوشي؟
يطرح الباحث تساؤلا مهما، يقول فيه، إذا كان
دستور 2014 يعكس القليل مما كان ينظر إليه على أنه ديمقراطية إسلامية، فما هي
القوة المتبقية لتلك النظرية المثالية للغنوشي، وما هو الدفاع النظري الأكثر تطورا
عن النظام الجديد من منظور عقائدي؟
تستدعي الإجابة عن السؤال إعادة تقليب المتن
الفكري للشيخ راشد الغنوشي، وكيف يمكن التعامل معها، خصوصا، وأنه كتب عن النظرية
الديمقراطية المسلمة وبشكل خاص عن السيادة والقانون والشرعية في فترات مختلفة،
وتعد تباينت كتاباته بين الأكاديمية (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) وبين
مقالات فكرية وأخرى سياسية كتبها تعليقا على الأحداث.
ويرى الباحث أن مقترب المصلحة الحزبية
والتكيف مع تحولات الواقع السياسي لا يمكن أن يفسر كل هذه الأعمال، وأن أعماله
تمثل محاولات لتقديم النظرية المثالية الأكثر إقناعا للحكومة الإسلامية في هذا
السياق التاريخي. في حين، وعلى النقيض من ذلك، اكتسب جزء من خطابه السياسي خلال
اللحظات التأسيسية المتفاوض عليها وبعدها طابعا ارتجاليا وغير منهجي ومؤقت.
وبناء على ذلك، اتجه قصد الباحث في كتابه
إلى استقراء الملامح الأيديولوجية لفكرة "الديمقراطية المسلمة"، مقارنة
بالنظرية الإسلامية المثالية التي طورت في العقود التي سبقت ثورة 2011، وبحث مدى
اختلاف الأيديولوجية غير المثالية الطوباوية عن النظرية المثالية السابقة، ورصد
نوع الالتزام الأخلاقي أو الإجماع الذي يدعم الالتزام بشيء مثل النظام الدستوري
لعام 2014 في تونس بوصف هذا النظام كان في حقيقته ثمرة تفاوض ديمقراطي حر. ويرى
الباحث أن الإجابة عن هذه الأسئلة تفترض ابتداء بسط رؤية الغنوشي للنظام السياسي
الإسلامي قبل عرض ملامح الديمقراطية الإسلامية.
الديمقراطية الإسلامية كنظرية مثالية
يرى الباحث ان كتاب الغنوشي "الحريات
العامة في الدولة الإسلامية" يمثل المتن المؤسس لفكرة الديمقراطية الإسلامية
كنظرية مثالية سعت إلى مواءمة مبدأ السيادة الإلهية مع مبدأ الشعب كمصدر لجميع
السلطات السياسية والضابط النهائي ضد الاستبداد والطغيان.
ومع سعي الغنوشي في هذه الرؤية إلى تأصيل
مبدأ الحريات العامة الواسعة وحقوق غير المسلمين والأحزاب غير الإسلامية في
المشاركة في الحياة السياسية، فإنها في نظر الباحث تختلف تمامًا عن تأييد نظام
ديمقراطي تعددي متماسك بدستور يفصل ويوازن بين السلطات السياسي.
تقوم رؤية الغنوشي للنظام الديمقراطي على
وحدة أخلاقية ودينية راسخة داخل الشعب، حيث يهيمن الإسلام دون قمع أو إقصاء تام
للرؤى أو أساليب الحياة الأخرى. لا يمكن فهم توجه الغنوشي والنهضة الرسمي نحو
أيديولوجية "الديمقراطية الإسلامية" المتميزة إلا من خلال دراسة معالم
فكرة "الديمقراطية الإسلامية".
ويرى الكاتب أن هذه النظرية مهمة
لالتزاماتها الديمقراطية، نظرًا للتردد الذي يبديه العديد من المفكرين الإسلاميين
المعاصرين تجاه الديمقراطية. لكنه يعتبرها
نظرية مثالية لكيفية تمكين شعب مسلم ملتزم دينيًا من الحكم الذاتي الكامل.
يستخدم الغنوشي الأساس الميتافيزيقي للسيادة
الإلهية والخلافة العالمية للتمييز بين المناهج الإسلامية للحرية وحقوق الإنسان،
والمفاهيم "الغربية" التي يعتبرها مبنية على على نوع من الإرادة البشرية
التعسفية التي لا أساس لها. ويرى الباحث أن الغنوشي يضع مشروعه حول شخصية محددة
للغاية تسعى إلى الكمال في رؤيته للسياسة وفن الحكم، وأن الديمقراطية تقوم على
الوحدة الأخلاقية، فالشعب في تصور الغنوشي ليست له صلاحيات كاملة في تعيين وعزل
الحكام وأجهزة الحكم فحسب، بل أيضا صلاحيات واسعة في تصميم النظام السياسي نفسه وتفويضه.
ولكن، في المقابل، يعتبر في نفس الكتاب أن تفويض السلطة للحكومة هو عقد لتطبيق
الشريعة الإسلامية وحماية الصالح العام. ويعتبر الباحث أن جميع النقاط الأخرى
قابلة للتفاوض، لكن هذا يُشكل قيدا كبيرا على التعددية الديمقراطية.
يرى الباحث ان كتاب الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" يمثل المتن المؤسس لفكرة الديمقراطية الإسلامية كنظرية مثالية سعت إلى مواءمة مبدأ السيادة الإلهية مع مبدأ الشعب كمصدر لجميع السلطات السياسية والضابط النهائي ضد الاستبداد والطغيان.
وقد اجتهد الباحث في بسط الأصول اللاهوتية
لنظرية الغنوشي لقضية الديمقراطية والسيادة للشعب، وسجل وجود نقاط توتر كثيرة بين
النظرية المثالية للديمقراطية الإسلامية ونظرية الديمقراطية التعددية الليبرالية.
ويخلص الباحث إلى أن نظرية الغنوشي المثالية
قبل عام 2011 كانت ديمقراطية منظمة حول تأييد جماعي مشترك لمفهوم الخير، وعقيدة
شاملة، وأنها كانت في الجوهر تمثل رؤية لنظام سياسي طهراني قائم على المساواة
والديمقراطية الجذرية، حيث يُبنى مفهوم الشخص على الأنثروبولوجيا اللاهوتية لخلافة
الله الشاملة للبشرية.
التعددية، الإجماع، القانون..
"الديمقراطية المسلمة" كنظرية غير مثالية
يسجل الباحث لحظة التحول في فكر النهضة، أي
لحظة تخلي مؤتمر النهضة عن تسمية الحركة بالإسلام السياسي ووصف الحزب بكونه
ديمقراطي مسلم، وكيف حرصت وثائق الحزب أن تعتبر أن "الإسلام السياسي لا يعبر
عن جوهر هويته الراهنة، ولا يعكس جوهر رؤيته المستقبلية. وان عمل النهضة يندرج في إطار سعي أصيل لتكوين
تيار عريض من الديمقراطيين المسلمين الذين يرفضون أي تناقض بين قيم الإسلام وقيم
الحداثة".
وقد اشتغل الباحث على كتابات الغنوشي لفهم
هذا التحول، واستعرض التحول في
أفكاره منذ كتاباته الأولى، واعتبر أن الاهتمام
الراسخ بالحرية والمجتمع المدني، والذي سبق ثورة الياسمين والتوجه الرسمي نحو
"الديمقراطية المسلمة"، شكل نقطة البداية والإطار الأساسي لفهم
أيديولوجية الديمقراطية المسلمة. لكنه يرى أن الفترة التأسيسية 2011-2014 تمثل
الإطار الذي تطورت فيه نظريته للديمقراطية المسلمة.
ويقارن الباحث بين الكتابات التي قرأ فيها
الغنوشي وثيقة المدنية المنورة قبل 2011 وبعدها، ويرى أن الكتابات التي أعقبت
الثورة، تذهب إلى أبعد مدى في موضوع الحرية، إذ تؤكد على أن درس وثيقة المدينة
المنورة لتونس ما بعد الثورة هو أن الحكم الإسلامي تأسس أصلا في ظل ظروف تعددية
جذرية، حيث لا يمكن افتراض وجود إرادة أو هدف مشترك بين "المواطنين".
ويعتبر أن دروس الوثيقة، تونسيا، تعني تأسيس نظام سياسي تعددي حيث المواطنة (وليس
الدين) هي المبدأ الأساسي للحقوق والواجبات. وهكذا، تصبح السابقة الأبرز للوثيقة
الإطار الشامل والمشرع لقبول الديمقراطية التعددية، وتكون الآلية الأساسية للنظام
السياسي في هذا النموذج هي التعاقد، لا التكوين الأخلاقي.
يستخدم الغنوشي هذا الفهم لوثيقة المدينة
المنورة ليس فقط للدفاع عن مفهوم محدود للسياسة وتبرير التعاون السياسي مع الأحزاب
غير الإسلامية، بل أيضا للدفاع عن نموذج توافقي واسع للسياسة التأسيسية.
ويلتفت الباحث إلى ملحظ مهم في نظرية
الغنوشي، فهو أنه لا يدافع عن هذه الحلول باعتبارها تنازلات ضرورية بالنظر إلى
توازن القوى، أو "أفضل ما يمكن الحصول عليه"، أو كخيار سياسي بحت لإعطاء
الأولوية للاستقرار على الأهداف الحزبية، بل إنه يطرح وجهة نظر مفادها أن التوافق
في حد ذاته مبدأ أسمى من مبادئ الشرعية، لا سيما في المراحل التأسيسية.
كيف نفكر في الديمقراطية المسلمة؟
يطرح الباحث سؤال مهما ستعلق بالكيفية التي
ينبغي للمنظرين السياسيين (وعلماء الاجتماع) فهم التحول إلى أيديولوجية
الديمقراطية المسلمة. يقترح الباحث ثلاثة احتمالات:
ـ الأول، أنها تحولات إيديولوجية تحت ضغط
الضرورة السياسية. ويستعين في تفسير هذا الاحتمال بنظريات تفسير اعتدال الأحزاب
(الحوافز الانتخابية، تأثير القمع الحكومي، التفاعل مع الأحزاب والحركات السياسية
الأخرى، وتأثير العديد من نشطاء الحزب الذين يعيشون في المنفى في الديمقراطيات
الليبرالية).
ـ الثاني، وقد استلهمه من نظريات رولز بشأن
كيفية تعامل العقائد الشاملة مع حقيقة الخلاف الأخلاقي العميق عند دخولها عالم
السياسة الديمقراطية، إذ يعتقد رولز أنه بمجرد أن تدخل الجماعات السياسية في
النقاش العام، إلى جانب جماعات أخرى لا تشاركها عقيدتها الشاملة، فمن المنطقي أن
تخرج من الدائرة الضيقة لآرائها الخاصة لتطوير مفاهيم سياسية تُمكّنها من شرح
وتبرير سياساتها المفضلة أمام جمهور أوسع، وذلك لتشكيل أغلبية.
ـ الاحتمال الثالث، وهو الذي ركبه الباحث
انطلاقا من الاحتمالين السابقين. ويرى أنه لا ينبغي اعتبار التحول إلى "الديمقراطية
المسلمة" محطةً على الطريق نحو العلمانية الكاملة أو إجماعا رولزيا متداخلًا،
حيث يوجد التزام مبدئي بعدم المطالبة بالقوانين على أساس العقيدة الدينية. بل يمكن
اعتباره في المقام الأول استجابةً للظروف السياسية الأساسية (الخلاف والصراع)،
وتفضيلًا لتسوية دستورية سلمية، يُمكن للأحزاب من خلالها النضال من أجل آرائها
وبرامجها الخاصة. ويسجل الباحث أن هذا يختلف عن النظرية الإسلامية المثالية
التقليدية في أنه لا يُنظر لنظام سياسي إسلامي شامل منذ البداية، بل يفترض وجود
عالم السياسة القائم بالفعل. كما أنها لا تتخلى عن السعي لتحقيق الأهداف الدينية
في السياسة، ولكن اختيارها للأولويات قد يكون أكثر سياقية، وارتجالية، ويحدده
الحكم السياسي في ظل الظروف المتغيرة.