يبدو أن ظلال الاستعمار والاستعباد والتحكم بالشعوب ومصائرها قد عادت من جديد،
ولكن بحلة جديدة وكائن وحيد غريب الأطوار والسلوكات. تراه يوما شخصا عاديا وديعا يتظاهر
بمشاعر جياشة تجاه مؤيديه، وبإنسانيةٍ دافقة تجاه قضايا السلام والاستقرار، ويوما
آخر تراه بركانا هادرا يقذف حممه هنا وهناك؛ لا يذرِ ولا يبقِ حالا على حاله.
كنا نحلم بعالمٍ لا حروب فيه كما استمال عقولنا وأهواءنا وأحلامنا بتصاريحه
الانتخابية، وكنا نحلم بعالمٍ يسوده العدل والمساواة وسيادة القانون واحترام
الإنسان وحقوقه، وكنا نحلم أيضا بعالمٍ ينتفي فيه الشر والبغي والعدوان؛ على أنه
خشبة الخلاص، وإذ به يتربع على عرش العالم حاملا منجلا يحصد به يمينا وشمالا، لا
يرى أمامه لا صغيرا ولا كبيرا، حليفا كان أم صديقا، لا يلبث أن يغلق باب نزاعٍ حتى
يفتح آخر. يجوب خارطة العالم بمصالحه وطموحاته الشخصية وراء ستارة تحمل عنوانا
كبيرا "لنجعل أمريكا عظيمة ثانية"، وكأن العظمة لا تأتي إلا على حساب
الشعوب وسيادة الدول. إنها ليست مجرد سردية القوة التي ينتهجها ويعمل على تكرارها،
بل هي جبروت القوة بعينها، هي
السياسة العقابية والردعية لإخضاع الآخرين لمشيئته
وتحقيق مآربه، وإعادة تشكيل منظومة التفكير لدى جمهوره بحقائق وأفكارٍ جديدة؛ هي
في مضمونها استعمارية إمبريالية استبدادية عنصرية، إنها
الترامبية الموعودة والتي
ربما تصبح نهجا سياسيا أو نظرية أو أيدولوجيا جديدة تحكم العالم.
إنها ليست مجرد سردية القوة التي ينتهجها ويعمل على تكرارها، بل هي جبروت القوة بعينها، هي السياسة العقابية والردعية لإخضاع الآخرين لمشيئته وتحقيق مآربه، وإعادة تشكيل منظومة التفكير لدى جمهوره بحقائق وأفكارٍ جديدة؛ هي في مضمونها استعمارية إمبريالية استبدادية عنصرية، إنها الترامبية الموعودة والتي ربما تصبح نهجا سياسيا أو نظرية أو أيدولوجيا جديدة تحكم العالم
"ألهذا
انتخبناك يا سيادة الرئيس؟".. أهكذا تسمو الأمم وتُمجّد وتُخلّد القادة؟ يتساءل
الواعون من جمهور ترامب الانتخابي. وهناك ثمة أسئلة تدور في خلد المواطن الأمريكي
وفي ذهن أي إنسان في العالم:
ألا تعود أمريكا عظيمة ثانية إلا بضم كندا إليها لتصبح الولاية الـ51، وبفرض
رسوم جمركية وضرائب عالية على بضائعها؟
ألا تعود أمريكا عظيمة إلا بالسيطرة على قناة بنما الجارة الوديعة، والتي ذات
مرة انتُهكت سيادتها وهُوجم قصرها الرئاسي وتم اعتقال رئيسها نورييغا بتهم لا
تُصدق وقد أُعدّت مسبقا؟
ألا تتحقق عظمة بلاد العم سام إلا بفرض سياسات اقتصادية جائرة على الحليفة العجوز،
وتركها فريسة للضرائب والرسوم والالتزامات المالية الجديدة؛ خاصة بعد مطالبة زعماء
الناتو بدفع كُلف خدمات الولايات المتحدة في الدفاع عن بلدانهم. وكذلك التصريح والتلويح
بأن "لا جدوى من هذا الحلف"، ومن ثم التخلي عن التزامات واشنطن الأمنية والدفاعية
تجاهها؟
وهل الاستيلاء على أكبر جزيرة في العالم غرين لاند سيؤمن الممرات البحرية بين
أوروبا وأمريكا الشمالية، وآسيا وأوروبا؟
وهل هذا سيشكل ضرورة مطلقة لأغراض الأمن القومي في العالم كما يتذرع ترامب؟ وهل
فرض القيود الجمركية على الصين سيقوض من خطرها الأمني والسياسي وسيضعف من كونها
المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة؟ أم أن هذا سيدق طبول الحرب معها تحت
ذريعة خفض العجز التجاري الذي بلغ نحو 420 مليار دولار منذ العام 2018 -أي عقب انتهاء
ولاية ترامب الأولى- وفي كانون الأول/ ديسمبر 2024 بلغ نحو 98.4 مليار دولار مع
بدء الولاية الثانية لترامب (بحسب بلومبيرغ).
وماذا يضير لو بقي اسمه "خليج المكسيك"، أليس هذا استئثارا
استعماريا جديدا؟ وهل سيتغير لون مائه أو أسماكه أو حجمه إذا ما أصبح "خليج
أمريكا"؟ إنها لغة الاستعلاء ولغة الطغاة، وليس لغة من يصنعون السلام ويسعون
إلى إنهاء الحروب، والصراعات. إنه انعدام التوازن السياسي الذي برز من خلال الموقف
من إيران، فهو تارة يتبع نهج وخطط نتنياهو رئيس وزراء "إسرائيل" لضرب
إيران والقضاء على مشروعها النووي، وتارة يريد حوارها والتوصل إلى حل معها في ظل مشروع
نووي سلمي. وينسحب هذا اللا توزان على القرارات الداخلية؛ بحيث يبدو أن ترامب سيدخل
سجل غينس للأرقام القياسية بعدد القرارات التنفيذية التي وقعها خلال الأسبوع الأول
من ولايته، وبحجم توقيعه الذي بلغ نحو نصف صفحة.
إن هذه القرارات الداخلية غير المدروسة -والتي تهدد بانقسامٍ مجتمعي- تعبر أيضا
عن الهذيان وروح الثأر والانتقام لكل من عارضه أو ساهم في تقديمه للعدالة مُتهما، وكأن
شبح خصومه الديمقراطيين يتعقبه. أما العقوبات التي وقعها ضد دولة جنوب أفريقيا ومحكمة
العدل الدوليّة وأعضاء محكمة الجنايات الدولية ومدعيها العام كريم خان، فإنها تدخل
بإطار تسديد فاتورة حساب ردا على القرارات التي طالت دولة الإحتلال ومذكرة اعتقال نتنياهو
وغالانت وزير دفاعه بتهم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية بحق
الشعب الفلسطيني.
ويبلغ تخبط ترامب السياسي وفقدان البوصلة ذروته، عندما يهدد بفتح أبواب الجحيم
من جديد على المنطقة وخاصة على قطاع
غزة من خلال إلغاء اتفاق وقف إطلاق النار إذا
لم يُطلق سراح الرهائن الإسرائيليين جميعا بالموعد المحدد. إن ترامب بتهديداته هذه
لا يُعبّر عن الإيفاء بالتزاماته واحترام كلماته كراعٍ وضامنٍ للاتفاق الذي تنتهكه
"إسرائيل" مرارا وتكرارا، ولا تريد الالتزام بالبروتوكول الإنساني الذي
نص عليه اتفاق وقف إطلاق النار مع المقاومة، وهذا ما يصبٌّ الزيت على النار ويدفع بالمنطقة
إلى مرحلة جديدة من الحرب لربما تطال المنطقة كلها.
ولعل فقدان الرؤية فيما يتعلق بغزة وتهديداته المتكررة تعكس من جديد هذا
التخبط؛ مرة يريد شراءها عنوة، ومرة يريد أن يديرها، ومرة يريد السيطرة عليها
ويوزع أجزاء منها إلى دولٍ مجاورة. كل ذلك وهو غير آبه بتشريد أكثر من مليوني
فلسطيني وانتزاعهم من أرضهم وتاريخهم، ومنتهكا سيادة دول المنطقة.
والسؤال هنا: من أعطاه هذا الحق وهذا التصرف بمصير شعبٍ وبمصير أرضٍ هي جزء من
الوطن المغتصب فلسطين؟ وهل "السلطة الأمريكية" تخوله على حد زعمه
السيطرة على غزة وكأنها سلطة العالم؟ إن ما يدعيه ترامب في أنه سيجلب الازدهار
والاستقرار والسلام للمنطقة إنما هي ذرائع استعمارية استثمارية مكشوفة للقاصي
والداني، فأين كانت مشاعره الدافئة وإنسانيته، ومن سبقه من إدارة بايدن عندما كان
الشعب الفلسطيني يقتل بالقذائف الأمريكية الصنع، و تقديم الدعم اللامحدود لدولة
الاحتلال وقادتها المجرمين طيلة الـ15 شهرا الماضية، والتي شهدت كل أنواع الإبادة
الجماعية والتطهير العرقي؟
نراه يبدو رئيسا لأقوى دولة عظمى في العالم، بل كشرطيٍ للعالم، إنه بالأحرى كما وصفه الكاتب الأمريكي الشهير وود "مُطوّر عقارات"، وانه يفتقد إلى الدبلوماسية ودهاء الدبلوماسية، "إنه رجل الصفقات والاستثمارات" لمقدرات وثروات وأوطان الشعوب، إنه كغيره من سُراق الأوطان وناهبي الثروات يزهقون أرواح الشعوب وأرواح أبنائهم على مذابح مصالحهم وتراكم ثرواتهم
بممارساته هذه يكشف ترامب عن وجهة الحقيقي الصهيوني الملامح وليس المتصهين، إنه
كما هي إدارته الموغلة في الصهيونية وأحلامها التوسعية العنصرية العدوانية. لا
نراه يبدو رئيسا لأقوى دولة عظمى في العالم، بل كشرطيٍ للعالم، إنه بالأحرى كما
وصفه الكاتب الأمريكي الشهير وود "مُطوّر عقارات"، وانه يفتقد إلى
الدبلوماسية ودهاء الدبلوماسية، "إنه رجل الصفقات والاستثمارات" لمقدرات
وثروات وأوطان الشعوب، إنه كغيره من سُراق الأوطان وناهبي الثروات يزهقون أرواح الشعوب
وأرواح أبنائهم على مذابح مصالحهم وتراكم ثرواتهم.
من الواضح أن الرئيس ترامب لا يهمه الماضي فهو لا يقرأ التاريخ جيدا؛ بالأمس
كانت هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام والعراق ولبنان وأفغانستان ودول الأحرار من
الجيران في أمريكا اللاتينية. وهو لم يقرأ الواقع الفلسطيني ولا الشخصية
الفلسطينية، ولم يدرك أن شعبا لوى عنق التاريخ في طوفانه لن يتوانى عن مواجهة الطواغيت
الجدد، وتجار الدم والأوطان.
نعم أيها الرئيس "إن جهنم سَتُفتح"، ولكن سَتُفتح على دولة الاحتلال
وداعميها وحُماتها وعلى التجار الجدد، وأن السلام تصنعه إرادات الشعوب، وليس كما قال
نتنياهو بحضورك "بأننا سنصنع السلام بالقوة". الأمل أن تستمع لما قاله نحو
143 عضوا في الكونغرس في رسالتهم لكم عن تهجير أهل غزة وعن نيتكم السيطرة عليها
وعن ضرورة وقف إطلاق النار هناك، وإن لم تُعرها اهتماما أيها الرئيس، فقد ردَّ
الغزاويون: إن "غزتنا ليست للبيع والاستثمار"، ورمالها لنا وشاطئها لسفننا،
ومناخها الجميل لأطفالنا، وشمسها شمس حريتنا، وتاريخها فلسطيني بامتياز وسيبقى
كذلك.
تذكّروا جيدا أن صلاح الدين محرر قُدسها، والجزار قاهر نابليون عند أسوار عكا،
وعز الدين القسام فجّر ثورتها ضد الانتداب، وظريف الطول في كل قرية وبلدة،
وفدائيوها طوَوا نكبتها الأولى وأطلقوا ثورتها المعاصرة عام 1965، وأطفالها صنعوا
انتفاضتها، وطوفان مقاومتها هزم المحتلين الصهاينة وابتلع أحلامهم. هنا فلسطين.. هنا
غزة غزتنا وعزتنا.
[email protected]