كتاب عربي 21

نبذ المقاومة: الدفاع عن الهزيمة بوصفها خيارا!

ساري عرابي
"اليمين الإسرائيلي في أكثر نسخه المتخيلة وحشية وإجراما"- جيش الاحتلال
"اليمين الإسرائيلي في أكثر نسخه المتخيلة وحشية وإجراما"- جيش الاحتلال
لن يقف نقد المقاومة إلا على واحدة من قاعدتين، لا ثالث لهما، وما بينهما مسافة يُفترض أنّها واضحة، لأنّها المميزة لهما، بيد أن التباس هذه المسافة، يعني عدم القدرة على تمييز قاعدتي نقد المقاومة عن بعضهما، إذ إمّا أن يكون نقد المقاومة بغرض تحسينها (وتحسينها هنا لا يقتصر على تحسين أدواتها القتالية واللوجستيات الخادمة لها، بل وأيضا من جهة الفهم للظروف والشروط الموضوعية وموازين القوى وما يرتبط بذلك من تكتيك واستراتيجيا)، وإمّا أن يكون نقدها بغرض التخلّص منها. وهذه الأغراض ناجمة عن وعي تأسيسيّ مشيِّد لهاتين القاعدتين، فإمّا امتلاك وعي كاف بالحالة الاستعمارية التي يراد التحرّر منها، بما يصلّب الإرادة في مواجهتها، مهما كانت الانكسارات في طريق الخلاص، وإمّا أنّ الوعي بهذه الحالة وسماتها وعقائدها وطرائق عملها ومخاطرها مختلّ بما يميّع إرادة مواجهتها.

حول هذا كلّه يدور النقاش، لأنّ نبذ المقاومة يجري تصويره خيارا عقلانيّا وحيدا لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني، وقطع الطريق على الأهداف الاستعمارية الضخمة، كتهجير الفلسطينيين بالإبادة، في حين أنّ هذا الخيار هو التزام كامل بالهزيمة، ونتيجته تأتي على الضدّ من دعواه، ومن هنا تحديدا يأتي التوتر الشديد عند أصحاب هذا الخيار إزاء المقاومة، لأنّها دالّة على إمكانات أخرى غير التزام الهزيمة.

حين تقييم عملية "طوفان الأقصى" فنحن إزاء صورتين للعملية من الجهة الفلسطينية، الأولى النجاح المُبهر في الحدود الزمانية والمكانية للعملية من الحيثية العسكرية والأمنية، والثانية ما يمكن قوله عن خطأ الحسابات والرهانات السياسية للمقاومة، ومن ذلك ضعف تقديرها الكافي لقوّة العدوّ ونواياه، وعدم أخذها موازين القوى بعين الاعتبار. العملية بصورتيها لا تؤخذ كاملة لدى نقّاد المقاومة من دعاة نبذها، وإنّما يؤخذ نجاحها الاستثنائي في حدودها للقول إنّه غير مهم، لا أكثر. أي يُراد القول إنّ هذا النجاح المحدود زمانيّا ومكانيّا وعلاوة على أنّه لم يتطوّر في مسار نضالي مؤثّر ومستمرّ، انقلب إلى حرب إبادة مفتوحة لم يكن بمقدور الفلسطينيين مواجهتها عسكريّا.

لا يقتصر خطأ نقاد المقاومة من دعاة نبذها هنا، فقط على الاستهانة بالإمكان التي أظهرته العملية والحطّ منه وعدّه عديم القيمة، ولكنّهم يحمّلون المقاومة المسؤولية عن النهج الإبادي الإسرائيلي، وهو ما يمكن صياغته في عبارة أكثر كشفا لجوهر المقولة الانهزامية: "لو لم تكن المقاومة قادرة لما انتهج الإسرائيلي الإبادة"، وبهذا يتضح أنّ نبذ المقاومة، يرفض أصلا فكرة المقاومة علاوة على أن تتطور إلى درجات من القدرة والقوّة، وبمراجعة للمسار النقدي الطويل للكثيرين من دعاة نبذ المقاومة، يمكن ملاحظة الرفض الصريح للمقاومة المسلحة خيارا كفاحيّا، والتشكيك المستمرّ في إمكان أن تتطوّر إلى فعل أكثر عمقا وتأثيرا، والطعن في صدق منتهجيها وجديّتهم، حتى إذا أثبتوا صدقهم وجدّيتهم، عُدّ ذلك حجة مستجدّة عليهم!

كان معلم الهزيمة النفسية في المسار النقدي النابذ للمقاومة، ليس فقط دعوى أنّه لا يمكن هزيمة "إسرائيل"، ولكن أيضا دعوى أنّه لا يمكن للمقاومة المسلحة أن تتطوّر بنحو مؤثّر، وهذه الهزيمة النفسيّة مركّبة من تأليه ضمني للقدرة الإسرائيلية، ومن احتقار ضمني للذات الفلسطينية والعربية، وكانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية تؤخذ بوصفها ذروة ما أمكن للفلسطينيين فعله، وأنّه لا يمكنهم أن يضيفوا عليها ما يفوقها قوّة وتأثيرا، حتى إذا سقط هذا الرهان بما أثبتته المقاومة في غزّة، قيل إنّ المقاومة في بلوغها الذروة في الفعل العسكري، جلبت الإبادة للفلسطينيين.

يُلاحظ إذن، أنّ نبذ المقاومة، يرفض رؤية الإمكان مطلقا، ويستبطن يأسا من إمكان هزيمة "إسرائيل"، وهي نتيجة لا يعيها أصحابها بالدرجة نفسها، إذ يتباينون بين من يدعو لانتهاج خيارات كفاحية سلمية وأهداف سياسية واقعية، وبين من يصل إلى درجة كراهية الذات، والنظر إليها بعين المستعمر الإسرائيلي والمستشرق الغربي، والتبني الكلّي أو النسبي للأهداف الإسرائيلية بذرائع الواقعية، أو حتى اعتقاد السردية الإسرائيلية، ويمكن الزعم، والحالة هذه، أن التباينات هنا، بين دعاة نبذ المقاومة، هي تباينات في الدرجة لا في النوع، لأنّ الاستفادة الانهزامية من التجربة الكفاحية وعدم إنجازها التحرر للفلسطينيين، لا تعني إلا تأبيد الواقع كما هو، وذلك في أحسن الأحوال، وأمّا في أسوئها فتكريس المشروع الصهيوني بما يطمس القضية الفلسطينية وإلى الأبد.

إذا كانت المقاومة من شأنها، كما يقول دعاة نبذها، أن تزيد في التوحش الاستعماري الإسرائيلي، فإنّ نبذها وتجريمها، وبالرغم من الدفع كلّه الذي حظي به مشروع التسوية في سنواته "الذهبية"، بما في ذلك فلسطينيّا، لم يفض إلا إلى تعاظم الاستيطان في الضفّة الغربية، وحشر الفلسطينيين في "محميات" مسوّرة، وعزلهم عن بعضهم، وتاليا التحوّل عن سياسة احتوائهم بالسلام الاقتصادي، إلى سياسة تهجيرهم البطيء بالإذلال الاقتصادي، فسياسات التهجير قائمة حتى بلا مقاومة!

التوحش هنا هو توحش استعماري كذلك، بتوحش الاستيطان، وتوحش تشديد القبضة الأمنية، وتوحش تصعيب ظروف الحياة داخل الضفة الغربية، فمشروع التسوية لم يصعد بالتسوويين الإسرائيليين (على فرض وجودهم) ولكنه صعد باليمين الإسرائيلي في أكثر نسخه المتخيلة وحشية وإجراما، وهو يمين لديه مشروع معلن عن ضمّ الضفة الغربية وتهجير أهلها. وكما هو ملاحظ فإنّ العنف الاستعماري المباشر في مخيمات شماليّ الضفة الغربية، يدفّعها ثمنا غزّيّا بالرغم من أن فاعلية المقاومة فيها لا يمكن إدخالها أصلا في المقارنة مع المقاومة في غزّة في أيّ من مراحلها من بعد الانتفاضة الثانية، علاوة على أن تحتسب إلى جانب عملية "طوفان الأقصى"، وهو الأمر الكاشف عن كون سياسات الإبادة والتدمير الممنهج الإسرائيلية لا ترتبط حتما بحسابات المقاوم الفلسطيني أو قدراته.

إنّ كلّ الخيارات الكفاحية الأخرى، لها أثمان باهظة إن كانت مؤثّرة وعميقة وواسعة وشاملة، ولن تسحب بالضرورة الذريعة من الاحتلال، لأنّه، وتأسيسا من جهة وعيه الوجودي لن تتأثّر درجات عنفه الاستعماري إلا بقدر شعوره بالتهديد، وليس بنوع المقاومة أو درجتها، وتاليا من جهة نزوعه اليميني الجارف ترتفع درجات عنفه وتتضح نواياه بلا رتوش.

ليس هذا رفضا للخيارات الكفاحية الأخرى، ولكنه تنبيه إلى أن منطق الهزيمة سيعود للتعبير عن نفسه بخطاب يتقنّع بالعقل والحسبة المادية كلما ارتفع العنف الاستعماري حتى ولو في مقابل خيارات مدنية سلمية. وينبغي أن يُضاف إلى ذلك أنّ الدعوة إلى خيارات أخرى، تكتفي بنقد المقاومة المسلحة، وكأنّها المعيق لتلك الخيارات، دون أن يُثبِت دعاة الخيارات الأخرى قدرتهم على الفهم الشامل للظرف الفلسطيني الراهن وما هي الإمكانات المتاحة فيه، وما هي أسباب تعطيل الخيارات الأخرى. مثلا من هو الفاعل الفلسطيني الأكثر قدرة على الحركة في الضفة الغربية؟! لماذا لا يُحمّل المسؤولية بالقدر الذي يرقى إلى حجمه ودوره في تفتيت الإجماع الفلسطيني والحيلولة دون انتهاج خيارات كفاحية أخرى؟!

ما نرفضه، والحالة هذه، ليس نقد المقاومة المسلحة، بل ينبغي نقدها، ولكن على أيّ قاعدة ولأيّ غرض؟! وليس مراجعة عملية "طوفان الأقصى"، فمراجعتها واجبة ولكن لأيّ هدف؟! وليس الدعوة لانتهاج إستراتيجيات وتكتيكات تراعي المحدودية الفلسطينية وموازين القوى الخادمة بالكامل للاحتلال. ما نرفضه أن يكون هذا النقد ذريعة لاعتناق الهزيمة والدعوة إليها، سواء كانت عقيدة الهزيمة مُعلنة، أو مستبطنة!

x.com/sariorabi
التعليقات (0)

خبر عاجل