كتاب عربي 21

عثمان الخميس وحماس.. أين جذور المشكلة؟!

ساري عرابي
"يجد نفسه يكرر بدهيات حول ضرورة مناصرة الفلسطينيين في غزّة بقطع النظر عن الجهة السياسية التي تحكمهم أو تقاتل دفاعا عنهم"
"يجد نفسه يكرر بدهيات حول ضرورة مناصرة الفلسطينيين في غزّة بقطع النظر عن الجهة السياسية التي تحكمهم أو تقاتل دفاعا عنهم"
يتسع السجال في مواقع التواصل الاجتماعي حول تصريحات الشيخ السلفي الكويتي عثمان الخميس حول حركة حماس، والتي بدا فيها، وللمفارقة متقدّما على سلفيين آخرين تناولوا الموضوع نفسه، وهو الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة والموقف من حركة حماس. وهذا الاتساع ناجم من شهرة الشيخ، التي أخذت تتأسس، على الأقل في المجال العربي، من مناظراته مع الشيعة، في بعض القنوات الفضائية المغتربة قبل سنين طويلة، ولأنّه أحسن سمتا من سلفيين آخرين، يُنسبون لما يُسمّى التيار الجامي/ المدخلية في الحالة السلفية المعاصرة، علاوة على كونه لا يُنسب لهذا التيار، وفي الوقت نفسه ليس منتسبا لأيّ من التيارات السلفية الحركية، فإنّه يحظى بالمتابعة من دوائر واسعة بين السلفيين وعامة الناس الذين صاروا يتناولون معارفهم الدينية من مقاطع الفيديو القصيرة في التيك توك، والفيسبوك، وغيرهما.

تتلخص تصريحات الشيخ عثمان الخميس في شقين: الأوّل دعم أهل غزّة في مواجهة الحرب الإسرائيلية، بحيث لا ينبغي الخلط بينهم وبين حركة حماس، فالدفاع عن الفلسطينيين ليس دفاعا عن حماس، بل حتى حماس ينبغي الوقوف معها لأنّها جماعة من المسلمين كبقية أهل غزّة المسلمين. وأمّا الشق الثاني: فهو بيانه لموقفه من حماس التي وصفها بأنّها فرقة سياسية منحرفة، سلكت طريقا حزبيّا سيئا، وألقت نفسها في أحضان إيران، فهي، بحسب ما يرى، مُفسدة، سيئة جدّا، وبعد انتهاء الحرب يمكن للعرب والمسلمين السعي لتخريب هذه الحركة، ولكن ليس أثناء الحرب.

لمّا صار التخلّي عن القضية الفلسطينية سياسة عربية رسمية، صار لا بدّ من دعاية حاملة لهذه السياسة. هذه الدعاية اتجهت في بعض الأوقات للتشكيك في عدالة القضية الفلسطينية نفسها، وفي أقلّ الأحوال سوءا (يا للسخرية) للحطّ من الشعب الفلسطيني للخلوص إلى أنّه لا يستحقّ الدعم والنصرة، وفي أوقات أخرى، كما في الحروب والمواجهات مع "إسرائيل" التي تتصدّرها قوى المقاومة الإسلامية، اتجهت للطعن في هذه القوى تحديدا

المتقدم في هذا الكلام للشيخ عثمان الخميس، مثير للسخرية السوداء في الوقت نفسه، إذ يجد نفسه يكرر بدهيات حول ضرورة مناصرة الفلسطينيين في غزّة بقطع النظر عن الجهة السياسية التي تحكمهم أو تقاتل دفاعا عنهم.

الاضطرار للتأكيد على هذه البدهية انعكاس لضدّها الشائع، في لحظة عربية غير مسبوقة بهذا المستوى من الانحطاط والرداءة، فبالرغم من كلّ الانقسامات العربية التاريخية، والتي كان في القلب منها أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية وفصائل منظمة التحرير، فإنّ الحقّ الفلسطيني لم يكن مطروحا للنقاش، لا من حيث عدالة القضية الفلسطينية، ولا من حيث حقّ الفلسطينيين على العرب والمسلمين في الدعم والنصرة، وبما أنّ الفصائل الفلسطينية التي تصدّرت العمل للقضية الفلسطينية والحديث باسمها هي قوى فاعلة سياسيّا لا يمكن أن تحظى خياراتها وممارساتها وخطاباتها بالإجماع، فإنّها بالضرورة تستدعي اختلافا عربيّا معها، بل وعليها إذ كانت طرفا في صراعات عربية، وقدّم بعضها أطروحات لثورة عربية لا تنحصر في التحرّر من الاستعمار الصهيوني، إلا أنّ ذلك كلّه لم يتحوّل إلى موقف متشكّك في القضية الفلسطينية، أو متحفظ على دعم أهلها.

لمّا صار التخلّي عن القضية الفلسطينية سياسة عربية رسمية، صار لا بدّ من دعاية حاملة لهذه السياسة. هذه الدعاية اتجهت في بعض الأوقات للتشكيك في عدالة القضية الفلسطينية نفسها، وفي أقلّ الأحوال سوءا (يا للسخرية) للحطّ من الشعب الفلسطيني للخلوص إلى أنّه لا يستحقّ الدعم والنصرة، وفي أوقات أخرى، كما في الحروب والمواجهات مع "إسرائيل" التي تتصدّرها قوى المقاومة الإسلامية، اتجهت للطعن في هذه القوى تحديدا.

هذه الدعاية بالتأكيد، وعلاوة على تأثيرها في شرائح اجتماعية لا يمكن فحص حجمها لأننا لسنا إزاء دول يمكن لمواطنيها التعبير عن مواقفهم بحرية، حتى بخصوص القضية الفلسطينية، لا سيما في الخليج، فإنّها -أيّ هذه الدعاية- لا بدّ وأن تستخدم فيما تستخدمه، التيارات الدينية المندرجة في خططها السياسية والأمنية، وبعض هذه التيارات هي بحكم تكوينها مهيأة لتناول الشأن العام من منظور الحكومات العربية حصرا. ويبدو الأمر أكثر وضوحا، مع بعض تجليات الحالة السلفية، من الجامية/ المدخلية، فما فوقها، ودون السلفية الجهادية، أولا لغلبة الخطاب الفِرَقي على هذه الحالة، وثانيا لمركزية العداء للتشيع في قلبها، وهي مركزية خاضعة للتوظيف السياسي، وإن كانت لها أصولها الفكرية الذاتية.

لا تحضر الأسئلة عن عقيدة أهل غزّة لفحص استحقاقهم الدعم والنصرة؛ إلا في أوساط هذه التجليات السلفية. نعم ليس هذا حال جميع السلفيين، ولكن من يقف في الطرف المقابل من السلفيين يجد نفسه مضطرا للتأكيد على كون أهل غزّة هم من أهل السنة والجماعة، وكأنّ عدالة القضية واستحقاق أهلها الدعم؛ لا تتحقّق إلا بإثبات صحّة عقيدة أصحاب القضية (وفق فهم محدد)، في تصوّر شرعي وعقلي وأخلاقي منحرف، لا يكاد يوجد له مثيل في العالم، ولن ينتهي هذا التصوّر بأصحابه إلى خذلان المسلمين ما داموا على غير العقيدة الصحيحة المفترضة، وتوهين حالهم وتقوية عدوّهم عليهم، فحسب، ولكنّه، بالضرورة، أيضا ينتهي إلى تشويه الإسلام من حيث هو دين، إذ لن يزيد الإسلام، والحالة هذه، على أن يكون مجموعة رسوم ومقالات، لا تقيم أدنى وزن لحقوق العباد وكراماتهم وأعراضهم ودمائهم وأموالهم.

لا ينحصر تشويه الإسلام، في جعله قاصرا عن معالجة حقوق العباد، فهو يضيف إلى ذلك شرط الحاكم. ففي الحالة الجامية/ المدخلية ودوائر سلفية على تخومها، يمكن للحاكم وحده تجاوز الشرط التأسيسي، القائم على الهوس الفِرَقي، فما يراه الحاكم حسنا فهو حسن، وما يراه قبيحا فهو قبيح، وبهذا قد تصير نصرة المظلومين قبيحة، حتى لو صعب الطعن في عقيدتهم وفق الفهم السلفي، إذا كان الحاكم لا يرى نصرتهم، وقد يصير تولّي الكفار المعتدين حسنا، إن رآه الحاكم كذلك، فإذا كان متكلمو المسلمين ناقشوا الحُسن والقبح إن كانا عقليين أم شرعيين، فإنّ واقعا سلفيّا معاصرا يجعل الدين كله خاضعا في مآل الأمر إلى تحسين الحاكم وتقبيحه!

يرجع الأمر في جذوره أولا إلى الهوس الفِرَقي، وليس إلى الأصول الجامعة للمسلمين، وهو أمر لا يُضيّق دائرة الإسلام فحسب، ولكنه يضيق أيضا دائرة أهل السنة والجماعة، لتصير الجماعة السلفية بذلك حالة انشقاقية بقدر ما تتصوّر عموم المسلمين، سواء في الراهن أو التاريخ، على غير العقيدة التي تتوهّم الجماعة السلفية تجسّدها في السلف، ثمّ استعادتها لها، هذا المسلك الشقاقي، يظلّ في حالة مستمرّة داخل السلفية المعاصرة نفسها، فادعاء حلول الحقّ في التاريخ ثمّ إمكان استعادته، يقضي بأنّ تتحول القضية إلى محض مزايدة داخلية، تدفع نحو التشظي السلفي الدائم، بدعاوى الأكثر تحققا بعقيدة السلف، التي هي التجسيد المادي الكامل في التاريخ للإسلام المنزل بحسب الوعي السلفي المعاصر، ويمكن ملاحظة هذا التشظي أوضح ما يكون في الدوائر الجامية/ المدخلية، وفي دوائر السلفية الجهادية، فالأولى الأكثر إلحاحا على تبديع المخالفين، والثانية على تكفير المخالفين.

هذا الهوس الفِرقي، والمشغول باستلال مقالات تاريخية من سياقها، بلا أيّ اعتبار لتجاوز الأمة لها، سيُضخّم بعض الفروع ويرفعها إلى مراتب الأصول، ويتمركز حول مسائل وفروع أخرى، لتصير القضية ليست الالتزام حتى بالعقيدة الصحيحة وفق الفهم السلفي، ولكن في كيفيات التعبير عنها، وبما يقتضي موقفا مفاصلا دائما من جماعات المسلمين الأخرى، دون ملاحظة القضايا الأخرى التي ينبغي أن يعالجها الدين الخاتم، والتي منها حقوق الناس ومظالمهم، ولن يكون مفاجئا بعد ذلك استثمار هذه الحالة وتوجيهها من أجهزة الأمن العربية.

على أيّة حال، فإنّ مجرد تأكيد عثمان الخميس على حقّ الفلسطينيين في الدعم بقطع النظر عمن يحكمهم، يعكس استفحال العطب الأخلاقي والشرعي في البيئات التي يتحرك الخميس داخلها، أي البيئات السلفية في منطقة الخليج.

مجرد تأكيد عثمان الخميس على حقّ الفلسطينيين في الدعم بقطع النظر عمن يحكمهم، يعكس استفحال العطب الأخلاقي والشرعي في البيئات التي يتحرك الخميس داخلها، أي البيئات السلفية في منطقة الخليج

بيد أنّ الخميس نفسه، وهو يبدو متقدما، ويا للسخرية مرّة أخرى إذ التقدم هنا من جهة الوعي بالبدهيات، مصاب بالخلل نفسه، فإنّ التفصيل الوحيد الذي ذكره في نقده لحركة حماس، هو اتهامه لها بأنّها ألقت نفسها في أحضان إيران، ولكن حتّى هذا التفصيل لم يقم البرهان عليه، وكأنّ مجرد خروج الاتهام منه هو دليل في حدّ ذاته، وهذا ضرب من الإعاقات العقلية التي تصيب بعض المتشرعة، الذين لا يجدون أنفسهم مضطرين لإثبات دعاواهم، مع أنّ الإسلام أقام نفسه للعالمين أصولا وفروعا على الأدلة والبراهين.

لم يقل الخميس ما معنى الارتماء في أحضان إيران، وهل هو يرفض مبدأ إقامة علاقة معها، أم يرفض خيارات محددة في إطار هذه العلاقة. وبما أنّ هذه المقدمات والشروحات الضرورية لم تخطر على باله، فإنّه من غير المتوقع أن يكون عارفا أصلا بتاريخ علاقة حماس بإيران، ومساراتها، ولكن يكفي أن يكون هو مهووسا بالشيعة، ويكفي أن تكون هذه العلاقة متهمة من الحكومات العربية.

الأمر نفسه، يقال بشأن وصفه لها بأنها سيئة جدّا ومفسدة. لم يقل كيف ولماذا، وما هو السوء الذي تلبست به، وما هو الفساد الذي تمارسه وعلى مَن، يكفي أنّه شيخ وأنه سلفي، يستعيد في ذاته عقيدة السلف المتجسدة في التاريخ، ليكون اتهامه لها حقيقة مبرهنة بمجردها لا تعوزها البراهين الخارجية! وأمّا أنّها منحرفة لكونها حزبية، وبقطع النظر عن كون هذا الاتهام من المألوفات السلفية، فإنّه لا يقول لنا كيف يمكن دفع عدوان الاحتلال بلا تنظيم!

ليست القضية شخص عثمان الخميس، الذي دعا إلى تخريب حماس بعد الحرب، دالا بهذه العبارة على قلّة التوفيق، والعجز حتى عن اختيار مفردة أقلّ سوءا للتعبير عن فكرة سيئة، ولكنّ السيئ يبقى سيئا، فحتى التعبير الذي اختاره هو أفحش في السوء من التعبير الإسرائيلي الذي استخدم مفردات تفكيك حماس والقضاء عليها، ولكن القضية هي في دلالات هذا الخطاب على جذوره المشكلة، وانعكاساته دينيّا وسياسيّا واجتماعيّا، ويمكن ملاحظة جانب من ذلك، فيمن عدّوا دعوته لتخريب حركة مسلمة يكاد يحاربها العالم أجمع؛ اجتهادا مغفورا، لا يسقط فضل مثله به، وهو ما يعني أنّ الطعن في حركة في مثل هذا الموضع من الجهاد، بآلاف المنتسبين لها من المسلمين، بما فيهم من طلبة علم ومجاهدين، أهون عند هؤلاء من الطعن في شخص واحد، ميزته أنه سلفي نشيط!

x.com/sariorabi
التعليقات (0)

خبر عاجل