تصريحات بنيامين
نتنياهو الأخيرة المسيئة للمملكة
العربية السعودية، لها أهمية خاصة. فهذا الكائن هو ذاته الذي ارتضته دول عربية
لتوقيع اتفاقات
تطبيع معه خلال ولايته الماضية، في تدشين موقف واضح لطمس القضية
الفلسطينية والتجاوز عنها. فقد ظلّ الموقف العربي منذ عرض المبادرة العربية
للسلام، وهي في أصلها مبادرة سعودية، مشترطا التطبيع بإقامة دولة فلسطينية على
أساس القرار الأممي 242، وقد قابلت "إسرائيل" ذلك بالرفض العلني
والتكريس العملي للاستيطان؛ منذ قمة بيروت عام 2002 وإلى الآن، أي منذ 23 سنة،
بالرغم من الإجحاف في تأسيس التسوية مع "إسرائيل" على الإقرار لها بـ78 في المئة من
أراضي فلسطين، وغموض عبارة "القدس الشرقية" التي يراد جعلها عاصمة
للدولة الفلسطينية الموعودة، قبل أخذ أيّ موقف إسرائيلي إيجابي تجاه الفلسطينيين!
بعد توقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية،
كافأ نتنياهو العرب والفلسطينيين بتفريغ الاتفاقية تماما من معناها، مما أجبر
منظمة التحرير على الذهاب نحو اتفاقيات منفصلة تكرّس المصالح الإسرائيلية وتزيد من
القيود المفروضة على السلطة الفلسطينية مثل اتفاقية "واي ريفر 1996"
و"بروتوكول الخليل 1997"، والتنقيب أسفل المسجد الأقصى وحفر الأنفاق من
تحته.
ومنذ فشل مفاوضات "كامب ديفيد الثانية" عام
2000، ثمّ حصد العزّل الفلسطينيين بالرصاص على الحواجز الإسرائيلية في مطالع الانتفاضة
الثانية أثناء ولاية العمالي "إيهود باراك"، والموقف الإسرائيلي واضح،
وهو أنّ أقصى ما يمكن أن يُقدم للفلسطينيين سلطة محدودة؛ وجودها واستمرارها
وقدرتها الريعية الضامرة مشروط بالالتزام الفلسطيني الأمني لا غير، ولم يغير من
ذلك مفاصلة قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع حركة حماس بعد العام 2007.
فالتطرف الإسرائيلي المتفاحش مع نتنياهو وحلفائه الحاليين في تيار الاستيطان
التوراتي هو في جوهره مؤسس على موقف إسرائيلي إجماعيّ راسخ لا يمكن أن يضحي بعمقه
الإستراتيجي بالتخلّي عن الضفة الغربية.
قامت حكاية التسوية مع "إسرائيل" على اليأس
من إمكان هزيمتها، وعلى إيهام النفس بأنّ ثمّة فرصة لحملها على التخلي عن 22 في
المئة من الأراضي التي احتلتها مقابل أن تُمنح أكثر فلسطين. ولم يتوقف الأمر على
أن يكون هذا خيارا يمكن التراجع عنه، ولكنّه تحوّل إلى عقيدة، كانت مآلاتها مصادرة
الخيارات الكفاحية للفلسطينيين، والقبول بـ"إسرائيل" كائنا طبيعيّا في
المنطقة بما سيّدها عليها آخر الأمر، وذلك بجعلها المدخل العربي إلى قلب واشنطن، والحلّ
الوحيد لخلق توازن في مواجهة إيران، وهو ما كان يدفع باستمرار للتحالف مع أكثر
حكام "إسرائيل" غطرسة وفاشية وعنصرية وهو بنيامين نتنياهو، فهذا المسار
الطويل صاغ مبدأ "فلسطين ليست قضيتي" الذي كان العنوان الشعبوي
للاتفاقيات الإبراهيمية.
لا جديد جوهريّا في تصريحات نتنياهو، إلا أنّها جاءت من رأس الكيان، وهو الرأس الذي حصّل اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية، وعلاوة على ذلك لم تكن تصريحات أمثال بتسلئيل سموتريتش عن رؤية تياره بحتمية احتلال أراض من بلاد عربية أخرى لتثير ضغينة النظام الرسمي العربي، كان كل ذلك يجري وكأنّ شيئا لم يكن
بالتدريج سيصبح الفلسطينيون هم الخصم المُقدَّم
للسياسات العربية، ليس فقط بسبب التحالف مع عدوّهم، ولكن أيضا لأنّ هذا التحالف
كان بالضرورة طمسا لقضيتهم، وهو ما استدعى تلك الحملة الإعلامية الممنهجة منذ
العام 2017 لتنميط الفلسطينيين كلّهم في صورة شياطين أفّاكين، ولم يكن لهذا المسار
الطويل والمتعمّق أن يتحوّل فجأة ومرّة واحدة في صحوة ضمير؛ حينما استمرت
"إسرائيل" في إبادة الغزيين 15 شهرا متصلات، لا سيما إذا كان ثمن هذه
الإبادة القضاء على حماس كما وعد بنيامين نتنياهو، وتوقع الجميع من خصوم هذه
الحركة.
طوال هذا المسار لم تكن الخشية حاضرة لدى صانع القرار
العربي من "إسرائيل" فأولويات الأمن القومي في كلّ بلد عربي، مرتبطة
بأولويات الأنظمة الحاكمة، والتي لا تجد في "إسرائيل" خطرا عليها، إلا
أنّ الأمر اختلف الآن بعد استبانة الموقف عقب حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية
على الفلسطينيين في
غزة، ومحاولات الإسرائيليين استثمار نتائج هذه الحرب بما يجعل
النظام الرسمي العربي في موقف بالغ الحرج.
الوقاحة الإسرائيلية تجاه العرب معهودة، فلا جديد
جوهريّا في تصريحات نتنياهو، إلا أنّها جاءت من رأس الكيان، وهو الرأس الذي حصّل
اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية، وعلاوة على ذلك لم تكن تصريحات أمثال
بتسلئيل سموتريتش عن رؤية تياره بحتمية احتلال أراض من بلاد عربية أخرى لتثير
ضغينة النظام الرسمي العربي، كان كل ذلك يجري وكأنّ شيئا لم يكن، وبالنسبة
لنتنياهو فهو الوريث الأيديولوجي لزئيف جابوتنسكي الأكثر تمسكا بمقولة "يمكن
للعرب استيعاب إخوانهم عرب فلسطين في بلادهم، فبالكاد تتسع فلسطين للشعب اليهودي
الذي لا مأوى له إلا فلسطين".
نتنياهو وهو يقول "يمكن للسعودية أن تقيم دولة
الفلسطينيين في مكان من أراضيها الشاسعة"، لم يكن يتقصّد الإهانة العابرة
فحسب، ولكنّه يُعبّر عن جوهر المشروع الاستيطاني الصهيوني القائم على منطق
الإبادة، وهو ما يوجب وضع النظام الرسمي العربي، لا سيما في المشرق العربي، أمام
حقيقة كون فلسطين قضية عربية، مهما حاول العرب التنصل منها، والقول "فلسطين
ليست قضيتي".
وقبل التساؤل لماذا يحرج نتنياهو الحكومات العربية
بهذا النحو، ينبغي التساؤل، هل ثمة ما هو مفاجئ بأن يجد النظام الرسمي العربي نفسه
الآن أمام مواجهة تحديات
ترامب ونتنياهو؟! ألم يكن التخلي عن تعزيز صمود
الفلسطينيين، ودعم الانقسام الفلسطيني لإقصاء قوى أساسية من الشعب الفلسطيني،
والسكوت عن إبادة الشعب الفلسطيني، يعني في نهاية الأمر وضع الحكومات العربية أمام
هذا الموقف الحرج؟! وهل الاستجابة الحقيقية لهذا التحدي تكون بغير تحدّ مقابل يعزز
الصمود الفلسطيني رغما عن "إسرائيل"!
أمّا سؤال "لماذا يحرج نتنياهو الحكومات العربية،
التي هي بين تارك بالفعل للفلسطينيين وبين مطبع مع إسرائيل سرّا أو علنا؟!"
فإنّه ينبع من الاعتقاد بأنّ الإحراج الإسرائيلي للعرب ليس في مصلحة
"إسرائيل"، إذ يحتاج فرض الحلّ الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية قدرا
أكبر من الهدوء ومن الحفاظ على مسار التخلي العربي عن فلسطين. لكن بالنظر إلى كون
الخطاب الإسرائيلي بدوره نابع من أيديولوجيا صهيونية الأكثر تجسيدا لها هو حكومة
نتنياهو هذه، فإنّه لا بد وأن تتجلّى هذه الأيديولوجيا أيضا في الخطاب والممارسة.
هل ثمّة ما هو مفاجئ مثلا في كون تيار بنيامين نتنياهو يعتقد أنّ الأردن أرض
إسرائيلية "تنازلت" عنها "إسرائيل" كرما منها للعرب ليقيموا
دولة الفلسطينيين عليها؟!
لأنّ اللحظة فارقة بالنسبة لليمين الإسرائيلي، ليس فقط من حيث إنفاذ مشروعه الاستيطاني، ولكن أيضا من حيث السيطرة على مفاصل الكيان الإسرائيلي، فإنّ المزايدة اليمينية الداخلية لكسب الجمهور وتعزيز الدعاية تجعل الخطاب الإسرائيلي أكثر وقاحة وصراحة، لا سيما بعدما تنازل نتنياهو، ولو مؤقتا، عن شعارات النصر المطلق بخصوص حرب الإبادة على غزّة
وفي غمرة الحرب، لا ينبغي أن نتوقع خطابا سوى هذه
اللغة غير الدبلوماسية من نتنياهو، وإذا كان نتنياهو لاحظ أنّه أمكن شنّ حرب إبادة
على الفلسطينيين في غزة دون أدنى تحرّك عربي، فإنّه لن يتخيّل منهم أيّ شيء جدّي
بعد ذلك، حتى لو تعمّد إهانتهم، أو ترحيل القضية الفلسطينية إليهم من جديد بالحديث
عن
التهجير، مما يحوّل "إسرائيل" هذه المرّة إلى خطر جدّي على أمن
الأنظمة العربية نفسها، تلك الأنظمة التي ذهبت بعيدا في قبول "إسرائيل"
والتخلي عن فلسطين، وهنا تجب ملاحظة أنّ الإسرائيلي يسعى إلى جعل التهجير موضوعا
قابلا للنقاش وتعدد وجهات النظر حياله!
ولأنّ اللحظة فارقة بالنسبة لليمين الإسرائيلي، ليس
فقط من حيث إنفاذ مشروعه الاستيطاني، ولكن أيضا من حيث السيطرة على مفاصل الكيان
الإسرائيلي، فإنّ المزايدة اليمينية الداخلية لكسب الجمهور وتعزيز الدعاية تجعل
الخطاب الإسرائيلي أكثر وقاحة وصراحة، لا سيما
بعدما تنازل نتنياهو، ولو مؤقتا، عن شعارات النصر المطلق بخصوص حرب الإبادة على
غزّة. وإذا كان ترامب قد سبق له القول إنهم حذروه من انفجار المنطقة لو نقل سفارة
بلاده من تل أبيب إلى القدس، فنقلها ولم يحصل شيء، فإنّه لن يتوقع حصول أيّ شيء لو
عمل على نقل الفلسطينيين من غزة إلى هذا البلد العربي أو ذاك!
هنا ينبغي التذكير بأنّه حصل شيء بالفعل، حصلت
"سيف القدس" و"طوفان الأقصى"، لكنّ الفاعل هنا كان فلسطينيّا،
وهو الطرف الأضعف في الأمر كله، بينما كانت الاستجابة العربية مزيدا من الاندماج
في الخطة الأمريكية/ الإسرائيلية للتخلّي عن فلسطين. فهل هذه الاستجابة المطواعة
فعل؟! أم انفعال بالإرادة الأمريكية/ الإسرائيلية؟!
بعد هذه الحقائق كلّها يأتي مثقف ليبرالي عربي، ليزعم
أنّ المشكلة كانت دائما في الحروب مع "إسرائيل"، وأنّ الحل في التطبيع
معها! مرّة أخرى هذا هو النموذج العربي الذي يزايد على الإسرائيليين في صهيونيتهم!
هم يقولون لا نريد التطبيع إذا كان الثمن إقامة دولة فلسطينية، وهذا المثقف يقول
لقد كانت المشكلة فينا لأننا حاربناها ولم نطبع معها! على الأرجح لا يمانع هذا
المثقف في تهجير الفلسطينيين أو إقامة دولتهم في السعودية!
x.com/sariorabi