ساحة ملتهبة منذ سنوات تشهد أعنف المواجهات بين قوات
الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة
الفلسطينية.
أصبح رمزا للتحدي والصمود والصلابة في وجه الهجمة التي تريد اجتثاث الوجود الفلسطيني وإسكات أي صوت فلسطيني حر يقاوم في مخيمات الضفة الغربية وتحديدا شمالها.
هو المخيم الأكثر اكتظاظا بالسكان، ويعد ثاني أكبر مخيم في الضفة الغربية بعد مخيم بلاطة.
كان المخيم مسرحا لمعاناة كبيرة متواصلة منذ سنوات حيث يعيش فيه نحو 27 ألف لاجئ أذاقهم الاحتلال كل أنواع الجرائم التي ترقى إلى جرائم الحرب.
مخيم جنين الذي أسس عام 1953 بعد تدمير المخيم الأصلي في المنطقة في عاصفة ثلجية، يمتد على مساحة ضيقة لا تتجاوز الكيلومتر المربع، يقع ضمن حدود بلدية جنين، وهو المخيم الأقصى شمالا في الضفة الغربية.
وينحدر غالبية سكان المخيم من منطقة الكرمل وحيفا وقراها وقرى جنين المحتلة عام 1948. خضع المخيم للحكم الأردني حتى عام 1967 حيث وقعت الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبعد توقيع اتفاقيات "أوسلو" وملحقاتها أصبحت جنين ومخيمها تابعة للسلطة الفلسطينية.
اظهار أخبار متعلقة
كان مخيم جنين هدفا استراتيجيا لقوات الاحتلال الإسرائيلي حيث حاولت استهدافه مرات عدة، لكنها فشلت أمام مقاومة أبنائه، حيث إنها واجهت صمودا من سكانه الذين أصروا على البقاء داخل المخيم رغم الأضرار الكبيرة التي تعرضوا لها.
وبلغت الاعتداءات الإسرائيلية على المخيم ذروتها في عام 2002 حين اقتحمت المخيم واشتبكت مع الفصائل الفلسطينية بحرب شوارع أطلق عليها لاحقا "معركة جنين" وضمن ما أطلق عليه الاحتلال عملية "الدرع الواقي" التي اجتاح فيها مدن الضفة الغربية، بعد هجوم على فندق في مدينة نتانيا.
واستمر القتال داخل المخيم 10 أيام قام خلالها جيش الاحتلال بمنع دخول سيارات الإسعاف والعاملين في القطاع الطبي والإنساني. ولم يسمح للأهالي بدفن جثث ذويهم الملقاة في الشوارع، وقامت جرافات الاحتلال بتدمير منازل المواطنين فوق رؤوس ساكنيها، وجرف جثث الشهداء مع بقايا المساكن لإخفاء الجرائم.
واستشهد 52 فلسطينيا، بحسب أرقام أممية، رغم أن مصادر ذكرت أن الشهداء كانوا أكثر من 500 شهيد وشهيدة، وقتل 23 جنديا إسرائيليا، فيما جرح عدد آخر.
واعتراف الناطق باسم الجيش الإسرائيلي حينها، الجنرال رون كيتري، في تصريح لإذاعة الجيش، بأنه "قتل على الأرجح عدة مئات من الفلسطينيين خلال المعارك، لكن يجب عدم تصديق الادعاءات الفلسطينية التي تتحدث عن وقوع مجزرة".
وقال كيتري: "كانت المعارك ضارية جدا كما يظهر من حجم الخسائر الإسرائيلية".. رغم أن شمعون بيريز وصف العمليات في مخيم جنين بأنها "مجزرة".
وهو ما دفع العضو العربي في "الكنيست"، محمد بركة، إلى مطالبة محكمة العدل الدولية بإجراء تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها جيش الاحتلال في مخيم جنين بالضفة الغربية ومدن فلسطينية أخرى.
وطالب بركة بمحاكمة كل من رئيس الحكومة آرئيل شارون، ووزير حربه بنيامين بن أليعيزر، ورئيس هيئة الأركان شاؤول موفاز، لتورطهم في ارتكاب
مجازر بحق الفلسطينيين في العمليات العسكرية في جنين التي كانت تهدف إلى كسر شوكة مجموعة من المقاتلين الذين أبوا الاستسلام وفضلوا القتال حتى آخر طلقة، وتشبثت مجموعة المقاتلين المؤلفة من مختلف التنظيمات والفصائل الوطنية والإسلامية بمقاومة نادرة بعد أن دفع الاحتلال بنحو 100 دبابة، وأكثر من ألف جندي، وكانت مروحيات الكوبرا والأباتشي تطلق صواريخها على المخيم دون انقطاع، وشرد أكثر من ربع سكان المخيم.
وكان الأمر طعنة في الظهر، وإهانة متعمدة من الرئيس الأمريكي جورج بوش، للشهداء، حين قال في لقاء جمعه مع شارون في البيت الأبيض بأنه حين ينظر في عيني شارون فإنه يرى فيه "رجل سلام"، في ذات اللحظة التي أبلغ فيها بوش بتفاصيل المجزرة البشعة في مخيم جنين تحت بصر وسمع العالم.
ومنذ ذلك التاريخ والمخيم عرضة بشكل متكرر لاجتياحات إسرائيلية، وعمليات اعتقال وقتل وإعدام ميداني وتدمير بلا توقف حتى اللحظة.
اظهار أخبار متعلقة
وشكلت عملية فرار 6 فلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي، في أيلول/ سبتمبر عام 2021، نقطة تحول في مخيم جنين، خاصة أن بعض الفارين من السجن كانوا من المقاومين السابقين المعروفين، والذين نشطوا في المخيم ومدينة جنين، مثل زكريا الزبيدي ومحمود العارضة اللذين يتوقع إطلاق سراحهم في صفقة التبادل الحالية.
وأطلق الجيش عمليات تمشيط واسعة لتعقب الفارين بطريقة أسطورية فاقت الخيال، وبعد أن تمكن الاحتلال من العثور عليهم فإنه شن حملة اغتيالات في المخيم والمدينة.
وشهدت المنطقة في أيار/ مايو عام 2022، استشهاد الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، في مدينة جنين، حين كانت تغطي عملية عسكرية إسرائيلية في المخيم، واتهمت السلطات الفلسطينية الجيش الإسرائيلي بقتلها بدم بارد وعمدا.
وعلى وقع حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ضد قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كانت مدينة جنين ومخيمها ساحة ساخنة للمواجهات بين المقاومة وكتيبة جنين بشكل خاص من جهة، والاحتلال والسلطة الفلسطينية من جهة أخرى .
ومارس الاحتلال ضد المخيم كل جرائمه التي أصبحت ماركة مسجلة باسمه، من عمليات أعدم ميدانية واعتقالات وتنكيل وتجريف للطرقات وتدمير للبنية التحتية وتهجير السكان وحرق منازلهم.
وكان الأمر الصادم هو سقوط القناع عن وجه السلطة الفلسطينية التي شاركت الاحتلال في الحرب على المخيم بشكل صريح ومفتوح دون أن يرف لها جفن، بعد أن حاصرته لأكثر من شهر ونفذت ضده عملية عسكرية وأمنية واسعة، وهو ما اعتبرته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في بيان "سلوكا يتجاوز كل الخطوط الحمر والأخلاق الوطنية".
وعدت الحركة، أن مشاهد محاصرة مستشفى جنين وإطلاق النار داخله وملاحقة المطاردين للاحتلال الإسرائيلي من قبل أجهزة السلطة، "سلوكيات خارجة عن الصف الوطني، وجريمة بحق أبناء شعبنا وتنكر لدماء الشهداء"..
وإن التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال وصل إلى "مستويات كارثية"، وهو "نهج مرفوض من كافة مكونات شعبنا الفلسطيني وفصائله المقاومة" بحسب البيان.
وفرض جيش الاحتلال حصارا كاملا على مدينة جنين وأغلق مخيمها، وقطعت قوات الاحتلال الكهرباء عن المخيم وأجزاء واسعة في محيطه، الأمر الذي أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن مستشفى جنين الحكومي وابن سينا، كما منعت طواقم شركة الكهرباء من العمل على إصلاح الشبكة.
اظهار أخبار متعلقة
وأسفر عدوان الاحتلال على مدينة جنين ومخيمها وبلدة برقين غرب المدينة، عن استشهاد 13 فلسطينيا وإصابة عشرات آخرين، كما أنه خلف دمارا هائلا في البنية التحتية.
ولم يبد رئيس "الشاباك" رونين بار، أي تحفظ حين قال: "نخوض حربا متعددة الجبهات، والآن جاء دور الضفة" ضمن عملية أطلق عليها "السور الحديدي". أي إن مخيم جنين هو مقدمة لما هو أكبر وأخطر، قد ينتهي بقرار من الرئيس الأمريكي بضم الضفة الغربية رسميا لدولة الاحتلال، وستقبل السلطة بدور يشابه مهام المجلس البلدي.
لا تزال قضايا الأمن تشغل سكان مخيم جنين حيث تقوم القوات الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء بعمليات منتظمة في المخيم تلحق أضرارا جسيمة بالمدنيين.
ويشهد مخيم جنين أيضا واحدا من أعلى معدلات البطالة والفقر بين مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية البالغ عددها 19 مخيما. وقد أثرت البطالة والفقر على الشباب بشكل خاص، ما أدى إلى انتشار عدم الرضا والإحباط على نطاق واسع.
المخيم الفلسطيني الذي تصفه وسائل إعلام غربية بأنه ذو تاريخ طويل من المقاومة والنشاط المسلح، يقاوم محاولة الاحتلال كسر إرادة الشعب الفلسطيني، والانتقام وخلق واقع جديد على الأرض، إذ بات من الواضح أن الانتشار العسكري لقوات الاحتلال حاليا يكشف عن رغبة في إنهاء الحالة داخل المخيم، ثم في مرحلة لاحقة تفريغ المخيم من سكانه قسرا.
وحتى لا يبقى المخيم رمزا للبطولة والمقاومة وأنموذجا عربيا يحتذى في مقاومة المحتل، تسير الأمور من جانب الاحتلال، بموافقة ضمنية من السلطة، إلى إيجاد "حل نهائي" للمخيم بتدمير جزء كبير منه وتفريغه من السكان، ولن يجد هذا القرار سوى تصريحات إدانة لا تلبث أن تتلاشى مثل سحابة صيف.
لكن المقاومة الفلسطينية التي لم تتوقف منذ أكثر من 100 عام لن تنطفئ وستتوقد في أماكن أخرى حتى يصعد الدخان ليعلن عن فجر الحرية.