قضايا وآراء

الثورة في الثورة

عبد العزيز التميمي
فتحت الثورة أفقا جديدا لاستكمال أضلاع الدولة الوطنية الجديدة وشروط نهوضها واستقلالها وتحديثها إلا أن عديد السياسيين المعارضين وحديثي العهد والتجربة بالحكم كانوا لا يفرقون بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام ومفهوم السلطة ومفهوم الحكم.. الأناضول
فتحت الثورة أفقا جديدا لاستكمال أضلاع الدولة الوطنية الجديدة وشروط نهوضها واستقلالها وتحديثها إلا أن عديد السياسيين المعارضين وحديثي العهد والتجربة بالحكم كانوا لا يفرقون بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام ومفهوم السلطة ومفهوم الحكم.. الأناضول
أحيت تونس مهد الربيع العربي يوم 14 جانفي/ يناير 2025 الذكرى الخامسة عشرة لثورة الحرية والكرامة المجيدة، التي فجرها الشاب المكافح محمد البوعزيزي بأقوى ما عنده من روح الأنفة والكرامة، في حركة احتراق تراجيدي عمدت حلقاتها الاحتجاجية المتلاحقة التي عمت جميع جهات الوطن التونسي المهمشة ليشتد لهيبها في شارع الثورة بالعاصمة، وينهي مساء يوم 14 يناير 2011 "ببن علي هرب" هرب الرئيس المخلوع تاركا وراءه مخاوفه وأقبيته وظلاميته وأفعاله، التي بلغت منتهاها واترجف ـ بعد فوات الأوان ـ من مآلاتها.

وفي قراءة متأنية لمسارات الثورة ونجاحاتها وإخفاقاتها وما انتهت إليه من وأد لتطلعاتها، اخترنا عنوان "الثورة في الثورة" اقتباسا لعنوان كتاب المناضل الأممي ريجيس دوبريه، حين أجرى مراجعات مفصلية ذات أهمية للفاعلين الميدانيين. وعسى أن ينجح الفاعلون الميدانيون في إجراء مراجعاتهم الضرورية لتجاوز الفشل الذي ضرب مساراتهم.

وتحضرني هنا معارضة شعرية للنشيد الخالد لأبي القاسم الشابي الذي صدحت به حناجر الثوار تساوقا مشاعر الألم والأمل:

إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
أبا قاسم يا بديع الزمان
تمهل قليلا هنا واصطبر
فماذا تقول لك الكائنات
إذا غاب محورها واستتر
هل الشعب يوما بحق أراد
وهل يا ترى يستجيب القدر

قبل سنوات عشر من مئوية الوفاة للشاعر الزيتوني العربي التونسي الكبير أبي القاسم الشابي 1934، وبعد 15 سنة من مئوية الميلاد 1909، لم تزل أشعاره روحا ثائرة جعلت منه أيقونة لثورات الربيع، وشعارا أضاء تطلعات ثوار تجاوزت أصداؤهم الوطن العربي إلى عواصم أوروبية وأمريكية، وهو ما جعل من الربيع منعرجا تاريخيا له ما بعده.

تأتي ذكرى الثورة التونسية المجيدة في هذه السنة ضمن تغيرات جغرافية واستراتيجية متتالية. لكن من يراقب أوضاع الربيع اليوم سيلاحظ ضمورا وانكفاء وتراجعا أدى إلى النكسة والفشل والانكسار. قد تفتح الثورة السورية اليوم على أفق جديد إذا انتصرت على العقل التقليدي وتخطت مستنقعات الطائفية، إلا أن عموم الحصائل المسجلة في بقية بلدان الربيع، تكشف سيطرة للثورة المضادة وردة عن الديمقراطية والحرية، وعودة ـ نأمل أن تكون مؤقتة ـ إلى زمن الجليد، وإغراق راية النجمة والهلال في الظلام بكل ما تعنيه من رفض:

ـ لحقوق المواطن التونسي والعربي في التحرر
ـ  لتمسك الوطن العربي بوحدته وعزته
ـ لحقوق الشعب في الحرية والعدالة الاجتماعية والتطور التنموي والعيش الكريم.

مع ما يرافق ذلك من تقاليد الاستبداد وسلوكيات عسس الليل وزوار الفجر.

فما الذي يحصل في تونس؟

هل بات السؤال صعبا وممنوعا؟ كيف انتهت ثورة الربيع العربي التي كانت تونس وردتها المنفتحة وزنادها القادح للحراك العربي، إلى هذا الحصار والفقر السياسي والمعرفي والاقتصادي الاجتماعي؟

قد تفتح الثورة السورية اليوم على أفق جديد إذا انتصرت على العقل التقليدي وتخطت مستنقعات الطائفية. إلا أن عموم الحصائل المسجلة في بقية بلدان الربيع، تكشف سيطرة للثورة المضادة وردة عن الديمقراطية والحرية وعودة ـ نأمل أن تكون مؤقتة ـ إلى زمن الجليد، وإغراق راية النجمة والهلال في الظلام بكل ما تعنيه من رفض.
أليس غريبا أن يكون أغلب قيادات الصف الأول والثاني من مختلف ألوان الطيف السياسي الحزبي والمدني للحركة الديمقراطية والوطنية الإسلامية، رهائن في سجون منظومة التصحيح التي لم تعد تهتم أو تلتزم بالنظام الجمهوري للدولة؟

والأغرب من ذلك، أن القادة المسجونين رغم العقاب الجماعي الذي يوحدهم، لا زال بينهم برزخ لا يبغيان. ولم تدفعهم بعد معاناة المواطنين في الحواضر والأرياف والجهات المهمشة إلى ضرورة توحيد الرؤية والممارسة حول الحركة الديمقراطية، واسترجاع الثورة، وأهدافها العامة، والاستراتيجية.

عشرية مرتبكة

ويحق لجميع المواطنين والفاعلين السياسيين أن يتساءلوا عن الأسباب التي أدت بعشرية الثورة المربكة والمرتبكة وخماسية التصحيح الى هذه الحال؟

سيقال؛ إن الأسباب موضوعية تقاطعت فيها التطورات الإقليمية والجيوسياسية وموجات الثورة المضادة التي جندت كل أساطيلها الإعلامية والمالية والأمنية لإجهاض الثورة في تونس، والإجهاز على المشروع الديمقراطي. إضافة إلى أدوار أدتها الأجهزة الأمنية والأيديولوجية والمالية للنظام القديم، في زواج متعة كاثوليكي مع منتهكي السيادة الوطنية لدولة الثورة.

إلا أن هذه الإجابة وحدها لا تسمن ولا تغني أمام حجم التحدي الذي واجهته الثورة من النيران الصديقة للداخل وعوامله الذاتية قبل الإغراق في العوامل الخارجية، رغم كونها عوامل حاسمة وصلبة لا يمكن تجاهلها ولا يمكن لها أيضا أن تكون الشجرة التي تخفي الغابة.

البعد الاجتماعي والبعد الديمقراطي

اندلعت ثورة 17/ ديسمبر 2010 في بعدها الاجتماعي من الهامش الجغرافي والسكاني التونسي في حلقات من الحركة الاحتجاجية الاجتماعية بمختلف المدن التونسية، وبلغ أوجها إلى العاصمة في 14 يناير 2011، متوجة ببعد سياسي أنهى 65 سنة من الهيمنة والاستبداد الأوتوقراطي للنظام البائد ببعديه الدستوري والتجمعي.

إلا أن البعدين السياسي والاجتماعي للثورة قد افترقا منذ الأيام الأولى للثورة، وذلك بحكم اختلاف القيادات وتنازعهم حول الترتيبات التأسيسية للدولة في قصر قرطاج والقصبة وباردو/ الرئاسة والحكومة ومجلس نواب الشعب. وبقيت القاعدة الاجتماعية للثورة تلعق دماءها وتنتظر. وكانت تلك أولى نقاط الضعف التي أصابت الثورة في مقتل.

ورغم ما أشاعته حكومة الترويكا من حريات في التنظيم والتظاهر والإعلام والتعبير، فإنها لم تجب عمليا عن التحديات التي تخص:

ـ الوضع الجديد للفئات المهمشة والمحرومة
ـ إدماج ضحايا الاستبداد
ـ الإحاطة بجرحى وضحايا الثورة
ـ التحويل العملي لجماهير الشعب الذين عاملهم النظام القديم كرعايا وكقبضة من غبار إلى مواطنين أحرارا، في وطن حر يتمتع فيه الجميع بالمساواة في الحقوق والواجبات.

ـ تحويل المواطن من الوظيفية إلى العضوية بالمصطلح الغرامشي، أو من السلبية إلى الفعالية السياسية.

ـ مآلات ومخاطر التناقض بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية. وفي غياب ذلك الوضوح، تسلل التغول الحقيقي للثورة المضادة وانقلابات التوافق والتصحيح.

وباتت تلك حال المشهد السياسي الذي تغلبت فيه أيديولوجيا الرغبة على أبستمولوجيا الإرادة الحرة والمشتركة، وذلك رغم الجهود المبذولة لإنجاح عمومي للثورة، ومحاولة التقرب ولو الشكلي من نبض الشعب.

لقد كان الانقسام حادا داخل مكونات الطيف السياسي والمدني حول:

ـ باراديغم الإفشال المتمثل في إعادة إنتاج النمطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام القديم، في مرحلتيه الدستورية والتجمعية وبناء "ديمقراطية لطفاء" دون إسلاميين تقتصر على اليسار الوظيفي والليبرالية الريعية والبرجوازية الطفيلية. وفي غمار نشوة بدايات الانتصار الثوري أعلن عديد المثقفين والسياسيين عن نهاية البورقيبية، والحال أنه كان يتوجب على  العقل السياسي للثورة أن يعمل على إنهاء البورقيبية قبل إعلان نهايتها.

ـ  باراديغم الثورة المتمثل في محاولة إرساء ديمقراطية تستوعب جميع التونسيات والتونسيين المتساوين في الوطن والمواطنة.

ولم يكن الإصرار الخطابي والإعلامي على مبدأ "ديمقراطية دون إسلاميين "التي انتهت إلى "ديمقراطية دون ديمقراطيين" في لحظتي حكم بن علي وحكم التصحيح لـ 25 يوليو2021، إلا إصرارا متهافتا يعكس غرق طيف هائل من الفاعلين في مستنقع الرومانسية والميتافيزيقا السياسية التي تتخطى الواقع السياسي إلى ما ورائياته.

ورغم أن الإسلاميين لم يدعوا حقا فوق حقوق المواطنين، ولم يدعوا أنهم شعب الله المختار، ولا أنهم وكلاء الحكم اللاهوتي، إلا أن الطيف المقابل الرافض لوجودهم والحالم برميهم في البحر، ضاع في متاهة التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، وهي معادلة تشربوها بدغمائية لاهوتية عبأتهم بمشاعر الكراهية والعنصرية، ففضلوا التعامل مع الثورة المضادة والبرجوازية الطفيلية على أن يستكملوا أهداف الثورة الوليدة.

النبي والبروليتاريا

كريس هارمن المنظر الماركسي البريطاني وعضو اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي ببريطانيا، ورئيس تحرير مجلة العامل الاشتراكي ثم مجلة الأممية الاشتراكية، كان له موقف آخر من التحالفات الثورية ورأي مختلف حول دور الإسلاميين في الثورة، سجله في كتابه الشهير "النبي والبروليتاريا"، ذكر فيه أن للإسلام الشعبي أهمية كبرى ودورا فعالا في حياة المسلمين"؛ فهو يتشكل بناء على تفاعل بين الإسلام كدعوة والعادات والتقاليد المحلية لكل مجتمع، بل ولكل منطقة في نفس المجتمع".

ولذلك كله: فالدعوة للعودة لممارسات النبي ليست بالضرورة دعوة للعودة إلى الماضي، إنها دعوة للتمرد ضد الحاضر وتبني سلوكات واختيارات جديدة. فقد كان الإسلام حاضرا في مواجهة الغزاة الأجانب. وأضاف أن العودة إلى البداية هي رفض للحاضر من أجل التغيير، واعتبار البداية مصدرا ثوريا يضمن التعبئة، ويضمن التضحية. وأشار في ثنايا كتابه إلى أن الحركات الإسلامية لا تدعو إلى العودة للاقتداء بالماضي؛ لأن هذا أمر مستحيل أصلا، "فالتطلع لإعادة خلق ماض مثالي هو تعبير عن إرادة لتغيير المجتمع الحالي تغييرا جذريا". كما ينبغي "التمييز بين الإسلاميين والتقليدانيين، فالأمر يتعلق عند الإسلاميين بالإصلاح وليس بالدفاع عن التقليد". فالتقليدانية الإسلامية تريد إدامة الواقع والحفاظ عليه مادام يخدم الطبقات المسيطرة، أما الحركات الإسلامية فهي حاملة لإيديولوجية تهدف إلى تغيير المجتمع، لذلك لا يمكن وصفها "بالتمامية" (أو الشمولية أو التزمتية، أي الدعوة للحفاظ على المذهب كما هو في كليته)؛ لأن "التمامية تحيل على التصلب الديني والنقاء الثقافي والتقليدانية السياسية والمحافظة الاجتماعية، ومركزية المبادئ العقائدية ورفض العالم الحديث".

لم يكن الإصرار الخطابي والإعلامي على مبدأ "ديمقراطية دون إسلاميين "التي انتهت إلى "ديمقراطية دون ديمقراطيين" في لحظتي حكم بن علي وحكم التصحيح لـ 25 يوليو2021، إلا إصرارا متهافتا، يعكس غرق طيف هائل من الفاعلين في مستنقع الرومانسية والميتافيزيقا السياسية، التي تتخطى الواقع السياسي إلى ما ورائياته.
ترتكز الحركات الإسلامية "على الملاءمة الإيديولوجية والمرونة الثقافية، إضافة إلى رفض الوضع القائم وأخذ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بعين الاعتبار". ونظرا لقابلية الخطاب الإسلامي للتأويلات، فيصعب التمييز دوما بين الحركات الإسلامية والتقليدانية، وينبغي تأكيد ما قامت به الحركات الإسلامية في غزة ولبنان وإيران، واحتجاجات الإسلاميين في بلدان عديدة ضد غزو العراق ومن أجل فلسطين. (انتهى كلام هارمن).

كانت تلك آراء وانطباعات المنظر الماركسي كريس هارمن الذي يتابع التحولات من بعيد، فما هي حال رفاق الوطن الواحد وحتى أبناء المنحدر الطبقي الواحد مع إسلامييهم؟

لقد كان حضور الإسلاميين الفاعل في الثورة حجة على تهافت معادلة التناقض على قاعدة الحداثة التي اعتمدها الحداثويون؛ لأن طيفا من الإسلاميين يتطلع أيضا إلى مقاربات جديدة في الحداثة، والتحديث، والتقدم والتقدمية.

الأيديولوجيا والجمود النظري

اندلعت الثورة في تونس وعجزت الطبقة السياسية والمدنية من تشكيل قيادة موحدة وإعداد خطط وبرامج وخارطة طريق للثورة؛ نظرا للجمود النظري وكوابحه البنيوية لدى جميع الأطراف. وهو ما وفر للنزعات اليمينية للنظام القديم من اغتنام اللحظة المربكة، وإعادة إنتاج سياساتها باسم التواصل في الدولة.

لقد كانت الأيديولوجيا المتصلبة والدغمائية لعدد من المكونات السياسية والمدنية للثورة، أكثر فاعلية وسمكا وارتفاعا من جدار برلين في التفريق بين أبناء القضية الواحدة.

فقد تمسك كل طرف بعقائديته على أنها الحق وإنجيل الخلاص الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، وتحولت الأفكار والمقاربات إلى تيولوجيا سياسية أو لاهوت سياسي، لا فكاك منه إلا بالإذعان أو النفي؛ إذ لا يقبل التفاعل والمثاقفة والنقاش والحوار بين المختلفين، فيسوسون الناس بالحق ويتجاهلون الحقيقة الاجتماعية والسياسية الماثلة بين أيديهم، ويشترك في ذلك عديد الفاعلين من اليسار الماركسي والإسلاميين والقوميين ومدّعي الليبرالية.

النقد والنقد الذاتي

ويكشف ذلك أهم خطأ ارتكبه عديد الفاعلين، ويتمثل في غياب ثقافة النقد وممارسة النقد الذاتي. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم/سورة الرعد الآية11/.

 أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ/سورة آل عمران165 /

وهو نقد يفتح على تجاوز الأخطاء الظرفية والبنيوية، وتجديد الوعي والممارسة وملاءمة مشاريع البرامج والخطط التشغيلية مع متطلبات الواقع ومتغيراته.

تعددت قراءات المفكرين النقديين مثل سلامة كيلة وياسين الحاج صالح وفؤاد مرسي والسيد ياسين ولطفي الخولي من التيار الماركسي، وسعد الدين إبراهيم وعياض بن عاشور وبرهان غليون من التيار الليبرالي، وعصمت سيف الدولة من التيار القومي، وخالص جلبي وعبد الله النفيسي وفهمي هويدي من التيار الإسلامي، إلا أن تلك المقاربات لم تصل إلى وعي مختلف ألوان الطيف السياسي، وهو ما غلب أوضاع الهشاشة الميدانية والتباينات الحادة.

الرافعة الديمقراطية

وباتت الديمقراطية مجرد آلية للتسوية السياسية والانتخاب والاحتكام إلى صناديق الاقتراع والتداول السلمي على السلطة، وهي آليات إذا بقيت مجردة دون اعتمادها على تعميق الثقافة الديمقراطية، وتركيز بيئتها المفهومية وتعميمها على المواطنين، ستكون عائقا أمام المشروع الديمقراطي للمجتمع التونسي، وسيأتي من يقايض الديمقراطية بالخبز والزيت والسكر وخطابات الديماغوجيا العالية.

الدولة والدولة الوطنية

كانت ثورات الربيع إيذانا بنهاية النظام العربي الرسمي بأجهزته المادية والأيديولوجية، وهو ما حشد كل ترساناته المالية والإعلامية والديبلوماسية من أجل الإجهاز عليها وإنهائها. وهو ما حصل فعلا، لكن في دورة من دورات المعركة وليس في جميع دوراتها، فقد علمنا التاريخ أن التحولات والمنعرجات الكبرى في التاريخ لا تأتي هكذا بين عشية وضحاها.

لقد كانت الأيديولوجيا المتصلبة والدغمائية لعدد من المكونات السياسية والمدنية للثورة، أكثر فاعلية وسمكا وارتفاعا من جدار برلين في التفريق بين أبناء القضية الواحدة.
ولكن تعثر النظام العربي الرسمي يؤكد أن الدولة الوطنية التي تأسست غداة الاستقلال، لم تستوف شروط راهنيتها في الزمان والمكان وفي الاجتماع والاقتصاد السياسيين، ولا شروط تمثيلها لشعوبها وشروط التتويج العملي لملاحم بطولات معارك التحرير الوطني وشهدائها، وظلت تسوس شعوبها في ظل تبعية ركنت حدث الاستقلال بين قوسين، وتجاهلت مشاريع النهضة والتنوير والتطور العلمي والمعرفي، واستراتيجيات الحداثة والتحديث الموعودة، رغم مسحة التحديث الظاهرة والمتفاوتة من نظام عربي إلى آخر.

فتحت الثورة أفقا جديدا لاستكمال أضلاع الدولة الوطنية الجديدة وشروط نهوضها واستقلالها وتحديثها، إلا أن عديد السياسيين المعارضين وحديثي العهد والتجربة بالحكم، كانوا لا يفرقون بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام ومفهوم السلطة ومفهوم الحكم، مما أقعدهم عن إعادة إنتاج السياسة، وإعادة توزيعها وفقا لأهداف الثورة ووجدان الثائرين.

ونظر عديد الفاعلين السياسيين إلى الدولة على أنها كيان مقدس أو هيكل محايد. والحال أن الدولة لا تستقر ولا تفرض هيبتها إلا بعصبية داعمة كما يقول ابن خلدون، وطبقات اجتماعية حاضنة وقاعدة اقتصادية وطنية مثمرة ومحفزة، صانعة للخيرات والخبرات والثروة ومادة التوزيع العادل له.

 فقد عملت الوزارات كأنها جزر متناثرة بتسيير إداري وبيروقراطي محافظ، ليس بينها ناظم سياسي وتصور استراتيجي للمدى القريب والمتوسط البعيد. وبقيت وزارات السيادة بيد المنظومات المحافظة للنظام القديم تواليه وتعيد إنتاجه، بعد نزاع عبثي حول تحييد وزارات السيادة، ولم تتولها الثورة إلا بعضا من سنة وبضعة أشهر. فتجردت دولة الثورة من شروط قوتها وهيبتها ومن وظائف الاحتكار المشروع للقوة الصلبة، وباتت نهبا للتنازع والانقلاب.

نجاحات وإخفاقات حركة النهضة

وطبيعي أن ينصب اهتمام الإعلاميين والمراقبين المحليين والإقليميين والدوليين على حركة النهضة؛ باعتبارها أهم مكون من مكونات المشهد السياسي في دولة الثورة.

ولئن حققت حركة النهضة نجاحات في مختلف محطات التمثيل الانتخابي إلا أنها أخفقت في استثمار ذلك النجاح في النقلة النوعية بأنصارها ومناضليها وتحويل تلك القاعدة الانتخابية الواسعة إلى مواطنين عضويين في المشروع الوطني ضمن تحالفات طبقية ووطنية، تكون حاضنة للمسار الثوري والديمقراطي.

  فقد واجهت الحركة أعتى حملات الشيطنة بأضخم ترسانة مالية وإعلامية ولوجستية، خاصة بعد الانقلاب المصري وارتداد موجة الربيع في سوريا.

ولم تستند الحركة إلا على مناضليها الذين أنهكتهم السنون واستهلكتهم العذابات في المنافي والسجون، رغم ما التزموه من صمود وتعلق فلكي بحلم وأمل قد تأتي به مقدرات الأسباب والسنن.

ولم تكن ردود حركة النهضة ولا جاهزيتها في حجم تلك الحملات، واكتفت بالتطمينات والدفاعات الناعمة. لم تتمرس على الإعلام الحرفي والموضوعي، ولم تتكيف مع ثقافة الصورة واستراتيجيات الاتصال والتواصل والومضة التعريفية والسينما، والبرامج الحوارية المعبأة بالمضامين البرنامجية والثقافية لمشروعها الوطني والاستراتيجي. رغم كثرة لجانها الوظيفية التي أغرقت في مصارعة طواحين الذباب الإلكتروني، ودعاوي القنوات التلفزيونية الموجه.

التوافق

بدت سياسة التوافق الذي جمع الشيخين راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، والباجي قائد السبسي رئيس حركة نداء تونس ورئيس الجمهورية التونسية، سياسة استثنائية ناجحة أدت إلى نوع من الهدنة والاستقرار السياسي، امتد على سنوات خمس من العهدة الرئاسية والبرلمانية 2014/2019.

لم يرتكز التوافق على بنية تعاقدية واستراتيجية أو فلسفة سياسية لها خارطة طريق وخطط تنفيذية وتشغيلية، وإنما بنيت تلك السياسة على نوايا حسنة سرعان ما تصدعت في أول اختلاف حصل بين رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد.

البرنامج الاقتصادي والاجتماعي

وغاب عن الحركة رباطها الوثيق مع قاعدتها الاجتماعية ومنحدرها الطبقي، الذي يجمع الشرائح الفقيرة والمفقرة ومزارعي الأرياف والطبقة الوسطى ورجال المال والأعمال الوطنيين، وضاعت أدبياتها الاجتماعية حول خلق الثروة واعتماد الثورة العلمية والمعرفية والتكنولوجية، ورسم استراتيجية في تصنيع المواد الأولية وتطوير البنى التحتية واسترجاع حقوق المستضعفين. ضاع كل ذلك بين أدراج الروتين اليومي لإدارة ما ورثته الحركة وحلفاؤها عن النظام البائد من ليبرالية طفيلية طرفية تابعة ومتوحشة ومناويلها الصدئة.

التنظيم

أغلى ما كانت تتباهى به حركة النهضة وتبز به نظراءها هو تنظيمها الحركي، وانتشاره الهرمي، إلا أن التصدعات التي حصلت في المشهد السياسي وموجة تزييف الوعي التي انتشرت كالنار في الهشيم، والتي تولاها ما سماه الفيلسوف الفرنسي "باسكال بونيفاس" بالمثقفين المزيفين، وانتصار الإعلام الكاذب، لم تكن تلك التصدعات والحملات بمنأى من أن تصيب التنظيم الحركي بحريق التشققات الهيكلية والدراماتيكية، حتى هجرت الحركة جميع الملفات الاستراتيجية والتربوية والروحية، وبات شغلها الشاغل هو عقد المؤتمرات من أجل إقالة الرئيس المؤسس راشد الغنوشي. وكأن الانتقال القيادي هو الممر الوحيد للتجدد والتجديد. والحال أن التجدد يهم العقل السياسي والاستراتيجي والمشروع الوطني والتنويري، لحركة لم تنجز بعد قطائعها المعرفية، ولم تجدد تمثلها الديمقراطي والعلمي للإسلام، وأنسجته السوسيولوجية والوطنية وأبعاده الإنسانية والوجودية ومجالاته الجيوسياسية والتاريخية وآفاقه الروحية الرسالية. ولم تزل الحركة سجينة المركزية والتنظيم الهرمي الكلاسيكي، ولم تنتقل إلى المنوال الشبكي للتنظيم الديمقراطي الحديث والمفتوح على الفضاءات الاجتماعية، وعلى الحركة الشبابية والنسوية وشبكات المجتمع المدني وجمعياته، وعلى الروح الوطنية العامة والجامعة للفعاليات والإرادات الشعبية.

كانت تلك الانشقاقات والتصدعات أولى مقدمات الهشاشة البرلمانية التي تسللت منها منظومة الاستبداد والفساد اليمينية القصووية المتطرفة للانقلاب على الثورة فوق مدرعات ودبابات "التصحيح ".

المأساة والثورة

ولئن توحدت مأساة العائلات المرابطة أمام سجن المرناقية وتشابكت أيديهم المضرجة لتدق أبواب الحرية الحمراء، فإن قادة الحركة الوطنية الإسلامية والديمقراطية لم يتوصلوا بعد في لحظة الذكرى الخامسة عشرة لثورة الحرية والكرامة المجيدة، إلى أرضية الحد الأدنى للاتفاق والتعاقد الاجتماعي والوطني حول التأسيس الثاني للثورة. لكن وقوف جميع الفاعلين أمام أخطائهم ومتاهاتهم البنيوية والاعتراف بها والاحتكام إلى آلية النقد والنقد الذاتي، والتجاوز من طفولية التشظي وغوغائياتها إلى الالتقاء الاستراتيجي حول الوطن، سيكون الطريق الضروري والوحيد للتجديد والتجدد وإنجاز الثورة في الثورة، كما كتب وأسس المناضل الأممي الكبير "ريجيس دوبريه".
التعليقات (0)

خبر عاجل