بصرف
النظر عن توصيفه (هل كان "إنقاذا" أم "انقلابا")، وبصرف النظر
عن العوامل التي تسببت في الهوّة بين الوعود التي أطلقها الرئيس والإنجاز، فإن "تصحيح
المسار" -باعتباره مشروعا من خارج
الديمقراطية التمثيلية ومن خارج "التوافقات"
التي هيمنت على عشرية الانتقال الديمقراطي- كان محوجا إلى اتخاذ مسافة نقدية من
السردية "الرسمية" للثورة. فالرئيس الذي أقام جزءا من شعبيته على تمثيل
أولئك المهمشين من سكّان الدواخل والشباب الذين كتبوا -بشعاراتهم المعروفة- دستور
الثورة على "الحيطان"، كان يحتاج في مشروع "التأسيس الثوري
الجديد" إلى إعادة كتابة تاريخ الثورة. فتغيير تاريخ الثورة من 14 كانون الثاني/ يناير (2011) إلى 17 كانون الأول/ ديسمبر (2010) هو عملية رمزية تستعيد
الهيمنة على التاريخ والمخيال بالتوازي مع الهيمنة على الحقل السياسي وعلى الفضاء
العام. وهي استراتيجية استوجبتها "الديمقراطية المباشرة" القائمة على
نفي الحاجة إلى الأجسام الوسيطة -خاصة منها الأحزاب- والقائمة كذلك على مَركزة
السلطة في نظام رئاسوي يتحرك بالتعارض الكلي مع أية تشاركية مع باقي الفاعلين
الجماعيين.
لفهم
المآلات الحالية للثورة
التونسية سيكون علينا أن نعود إلى المرحلة التأسيسية وخيار
"استمرارية الدولة"، وما رافقه من سياسات "توافقية" في
"مأسسة الثورة" أو استدماج مطالبها ضمن خيارات السلطات الحاكمة بعد هروب
المخلوع. كانت "استمرارية الدولة" تعني واقعيا استبعاد منطق
"التثوير" أو القطيعة مع ميراث دولة المخلوع "البورقيبية"
(الدولة الجهوية الزبونية التابعة) والتطبيع التدريجي -تبعا للمزاج الشعبي العام
ولموازين القوى الداخلية والخارجية- مع ورثة المخلوع.
رغم أهمية الدوافع البراغماتية في هذا الخيار النهضاوي، فإننا نذهب إلى أنها لم تكن المحدد الأساسي لخيارات الحركة بعد الثورة، خاصة خيار التوافق مع نداء تونس ومن يقف خلفه في الدولة العميقة. فهذه الحركة السياسية ذات المرجعية الإسلامية -كما تعرّف نفسها- لم تكن يوما ما حركة "ثورية"، بل كانت دائما حركة ذات سقف "إصلاحي"
فبالتوازي
مع إبقاء السيد فؤاد المبزع رئيسا مؤقتا للدولة واستدعاء المرحوم الباجي قائد
السبسي لرئاسة الوزراء (وما يعنيه ذلك من شرعنة لاستبقاء العمود الفقري للمنظومة
القديمة تحت غطاء "الكفاءات")، عمل حلفاء المنظومة القديمة -بمنطق
التناقض الرئيس والتناقض الثانوي- على إبقاء "البورقيبية" خطابا كبيرا
للثورة وحرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى المدار الهوياتي.
كانت
الصراعات الهوياتية خيار "القوى الديمقراطية" الراغبة في وراثة المنظومة
القديمة وإضعاف حركة النهضة باعتبارها جسما غريبا عن "العائلة
الديمقراطية". فالنخب "الديمقراطية" بأحزابهم وجمعياتهم هم أساسا
"قوة نوعية" ووظيفية جعلتهم الثورة في مواجهة اختبار
"الشرعية" والتمثيل الشعبي، وفي مواجهة خصم كان مقموعا منذ بناء ما يسمى
بالدولة الوطنية: الإسلاميين. وقد فرض ذلك الاختبار الدفع بالخلافات الأيديولوجية
البينية إلى الهامش والبحث عن "المشترك" الذي مهّد للتطبيع مع المنظومة
القديمة والاستقواء بها بشريا ورمزيا ومؤسساتيا ضد حركة النهضة ومن طّبع معها. ولم
يكن هناك أفضل من إعادة تدوير سردية النظام القديم التي قتلت الحياة السياسية طيلة
عهد المخلوع: الدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي" في مواجهة الظلامية
والرجعية والإرهاب. وفي مواجهة هذا الخيار المعادي لوجودها القانوني بمنطقي
الاستئصال الصلب والناعم من لدن أغلب القوى اليسارية -بشقيها الماركسي والقومي- حاولت
حركة النهضة أن تبحث عن سند "محافظ" في المنظومة القديمة ذاتها.
رغم
أهمية الدوافع البراغماتية في هذا الخيار النهضاوي، فإننا نذهب إلى أنها لم تكن
المحدد الأساسي لخيارات الحركة بعد الثورة، خاصة خيار التوافق مع نداء تونس ومن
يقف خلفه في الدولة العميقة. فهذه الحركة السياسية ذات المرجعية الإسلامية -كما
تعرّف نفسها- لم تكن يوما ما حركة "ثورية"، بل كانت دائما حركة ذات سقف
"إصلاحي". فالنهضة لم تكن تدعو خلال حكم المخلوع -ومن قبله بورقيبة- إلى
ثورة تشبه الثورة الشيعية الإيرانية، بل كانت تطلب "الاعتراف" وتطبيع
السلطة معها، أي تقنين وجودها. ولم تكن ترى حرجا في دور "الشريك الأقلي"
داخل منظومة الحكم، لقد كانت النهضة دائما تطرح نفسها شريكا لا بديلا، وهو ما
يجعلنا نتدبر خيار التوافق بعيدا عن تبريرات النهضاويين أنفسهم، وكذلك بعيدا عن
سرديات خصومهم الأيديولوجيين. فـ"التوافق" لم يكن ضرورة سياقية أو
إكراها سياسيا بقدر ما كان تعبيرا عن خيار استراتيجي سياسي سابق للثورة ذاتها:
دخول الدولة بدل مواجهتها. وهو خيار يمكن رده إلى الطابع الإصلاحي للإسلام السياسي
الإخواني الذي تتضخم عنده المسألة الهوياتية على حساب المسائل الاقتصادية
والاجتماعية.
في
ظل هاتين الاستراتيجيتين الفرعيتين (استراتيجية "الديمقراطيين" لإضعاف
حركة النهضة أو استئصالها إن أمكن، واستراتيجية "التوافقيين" للتطبيع مع
المنظومة القديمة لمواجهة أعدائهم "الوجوديين")، كانت الاستراتيجية
الأصلية للمنظومة القديمة تتحرك بتوظيفهما معا لإعادة التموقع والانتشار القديمة
بصورة تراكمية وفعّالة؛ أدت في النهاية إلى نفي الحاجة إلى "الديمقراطية
التمثيلية" وكل أجسامها الوسيطة.
وبهذا
المنظور، فإن "تصحيح المسار" هو الابن الشرعي لديمقراطية بلا مشروع
مواطني جامع، وتوافق بلا أفق إصلاحي حقيقي، وهو أيضا الإعلان عن فشل الانتقال
الديمقراطي ونخبه المؤدلجة المرتدة عن استحقاقات الثورة وانتظارات عموم المواطنين.
فماذا حققت النخب "الديمقراطية" من مطالب "الحرية والشغل والكرامة
الوطنية"؟ وماذا حققت النخب "التوافقية" من انتظارات
"المقهورين" ومن لا صوت لهم داخل قواعدهم قبل غيرها؟ بل ما هي طبيعة
الدولة التي أدارتها سردية "الاستمرارية"؟ وماذا تحقق فيها من مطالب
إعادة توزيع الثروة أو السلطة على قواعد أكثر إنصافا؟ إنها الأسئلة التي همّشتها
النخب المهيمنة على مسار الانتقال الديمقراطي، وما زالت تهمشها، ونحن نعتبر أن
"تصحيح المسار" هو من قدّم الإجابة عنها. ولكن ما هي "طبيعة"
هذه الإجابة وما علاقتها بمنطق" استمرارية الدولة" وباستحقاقات الثورة؟
ظاهريا،
يبدو أن "تصحيح المسار" هو تقديم لإجابة من "خارج الصندوق"
بحثا عن وفاء "أصيل" للثورة. فتصحيح المسار لا يطرح الاستمرارية بل
القطيعة مع الخطر الجاثم قبل الخطر الداهم، وهو لذلك لا يطرح الإصلاح إلا في أفق
"التأسيس": التأسيس الثوري الجديد. إننا أمام مشروع سياسي يؤمن بأن
"الديمقراطية المباشرة" من الأسفل ومركزة السلطة من الأعلى هما الخياران
الأمثل لمأسسة الثورة ومطالبها المشروعة. فالديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة
-من هذا المنظور- هي خطر جاثم لأنها تعكس خيارا سلطويا "مشبوها" ومعاديا
للإرادة الشعبية بالضرورة. فالأحزاب -وهي الجسم الوسيط الأهم في الديمقراطية
التمثيلية- تزيّف تلك الإرادة بتوافقاتها و"صفقاتها" وبالمال السياسي
الفاسد الذي يقف خلفها.
ولا
شك في أن هذا التوصيف يقول جزءا من الحقيقة، ولكنه لا يقولها كلها. فأغلب ما
ينتقده مناصرو "تصحيح المسار" في الأحزاب صحيح، وهو أمر حتمي في كل
ديمقراطية وليدة. ولذلك فإن "تصحيحه" هو أمر ممكن بمراكمة الخبرات
الديمقراطية وتقوية آلياتها التعديلية والرقابية ولا يكون بالضرورة بإجهاض المسار
الديمقراطي أو باعتماد الديمقراطية المباشرة.
لو
سلّمنا جدلا بسردية تصحيح المسار وبكل مقدماتها ومضمراتها الأيديولوجية (نهاية زمن
الأحزاب)، فإننا سنجد أنفسنا أمام مأزق نظري سيكون على أنصارها الإجابة عنه: كيف
يمكن إدارة المشروع دون نخب بديلة، أو كيف يمكن "التأسيس" باستعمال
رأسمال بشري ينتمي في أغلبه -خاصة في مراكز القرار- إلى المنظومة القديمة ولا
علاقة لهم بـ"تصحيح المسار" قبل وصول رمزه إلى قصر قرطاج؟ فهذا
"الإشكال" يطرح منطقيا علاقة "المشروع" بسردية
"استمرارية الدولة" وبمأسسة مطالب الثورة بعيدا عن ادعاءات السلطة
ومزايدات خصومها.
ونحن
نذهب إلى أنّ تصحيح المسار لم يغادر مربّع "استمرارية الدولة" والقوى
التي أنتجته ورعته (بخطابها البورقيبي وبخيارات الدولة-الأمة وأساطيرها التأسيسية
منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا)، وهو مجرد سردية فرعية من السرديات الموظفة في منع
أي "تثوير" حقيقي لبنية السلطة ولآيات إنتاج الثروة وتوزيعها.
إننا
هنا لا نقول إن مشروع الرئيس قد تخلّق على أعين المنظومة القديمة أو بالتوافق
معها، ولكننا نقول إن المنظومة القديمة قد "طبّعت" مع هذا المشروع -في
إطار علاقة تعامد متبادل- مع الحرص على "تكييفه" بصورة لا تهدد مصالحها
المادية والرمزية بصورة "وجودية". فـ"الشركات الأهلية" لا تمس
مصالح العائلات الريعية الكبرى ولا مصالح رُعاتها الأجانب، وكذلك الشأن في إعادة
هندسة الحقل السياسي أو الحقل العام برمته. ولذلك فإن الدولة العميقة لا تعارض
منطق "الوحدة الوطنية المضيقة" (الوحدة بين المتشابهين) التي يدعو إليها
الرئيس ضدا على دعوات "الوحدة الوطنية الموسعة"(الوحدة بين المختلفين)
التي يدعو إليها "التوافقيون" من حركة النهضة وبعض الشخصيات الاعتبارية،
مثل السيدين نجيب الشابي أو مصطفى بن جعفر والعديد من النقابيين والناشطين
المدنيين.
إذا
كان "تصحيح المسار" يقدم جوابا مختلفا لمطالب الثورة (الشغل والحرية
والكرامة الوطنية) في إطار الديمقراطية المباشرة أو القاعدية، فإنه يقدم أيضا
إجابة مختلفة لمعنى الوحدة الوطنية. فالشركات الأهلية قد جاءت لتحقيق مطلب
"الشغل"، والحكم المجالسي جاء لتلبية مطلب الحرية، وهما معا يجسدان
"الكرامة" و"السيادة" في إطار "حرب التحرير
الوطني". أما الوحدة الوطنية فإنها لا تعني التوافقات المشبوهة التي حكمت
مرحلة الانتقال الديمقراطي منذ لحظة التأسيس. إنها تعني التوحد على أساس الايمان
بانتهاء زمن الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، وتمثيل الرئيس بصورة حصرية
للإرادة الشعبية غير المتلاعب بها والمزيفة.
مآلات الثورة التونسية قد أثبتت عجز النخبة على الارتفاع إلى مستوى اللحظة الثورية ورهاناتها منذ المرحلة التأسيسية. وهو عجز لم تستطع الأزمات الدورية للانتقال الديمقراطي أن تدفع بأهم ممثليه إلى البحث عن أسبابه العميقة في سردياتهم الأيديولوجية والقيام بمراجعات نقدية حتى لحظتنا الراهنة
إننا
أمام سردية سياسية تكتسب قوتها من ضعف خصومها وتهافت خياراتهم وبؤس صراعاتهم،
ولكنها سردية تخترقها العديد من التناقضات الداخلية التي ترتد في جذرها الأعمق إلى
التوتر البنيوي بين أفق "التأسيس الثوري الجديد"، وبين واقع
"التطبيع" مع المنظومة القديمة برأسمالها البشري والرمزي وبنواتها
الريعية المعروفة.
ختاما،
فإن مآلات الثورة التونسية قد أثبتت عجز النخبة على الارتفاع إلى مستوى اللحظة
الثورية ورهاناتها منذ المرحلة التأسيسية. وهو عجز لم تستطع الأزمات الدورية
للانتقال الديمقراطي أن تدفع بأهم ممثليه إلى البحث عن أسبابه العميقة في سردياتهم
الأيديولوجية والقيام بمراجعات نقدية حتى لحظتنا الراهنة. فرغم
"هامشيتهم" في السياق السياسي الحالي، لا توجد مؤشرات على تجاوز منطق
"الإنكار" ومبدأ الرغبة عند أغلب المتسببين في فشل الانتقال الديمقراطي
باعتباره مأسسة لمطالب الثورة. ولذلك فإننا نستطيع أن نقول بأن مطلب "الوحدة
الوطنية" والتشاركية بمنطق المعارضة ليس إلا محاولة لتدوير رموز الأزمة
بادعاء الوفاء للثورة ومطالبها. وهو مطلب عبثي بحكم اختلال موازين القوى بينهم
وبين السلطة بحكم فقدان ثقلهم الشعبي ومصداقيتهم عند طيف واسع من المواطنين.
ولكنّ
ذلك لا يعني "صوابية" خيارات السلطة، بل يعني فقط غياب أي محاور/ منافس
حقيقي لها. فالمعارضة -في أفضل حالاتها- هي بخطابها الحالي مجرد "صدى"
لخيارات ثبت فشلها. أما السلطة فإنها مجرد تعبيرة أيديولوجية لا تبدو قادرة على فك
الارتباط بالمنظومة القديمة -بشريا ورمزيا- على الأقل في المدى المنظور. هذا ما
بقي من الثورة، وهو ما ينبغي الاعتراف به والتعامل معه بعيدا عن منظومات المشاعر
والمصالح والقضايا الصغرى التي يُخيل لأصحابها أنها أفكار تجري لمستقرها المواطني السيادي.
x.com/adel_arabi21