الذاكرة السياسية

لو خذل العرب ثورة الجزائر مثل سوريا وفلسطين لانكشفت جامعة الخيانة

لم يجمع أفراد هذه الأمة على عدالة قضية ودعم ثورة ونصر شعب شقيق بصدق وإخلاص نادر المثال والتضحية في سبيله بالمال والرجال والأقوال والأفعال مثلما وقف الأشقاء العرب مع الشعب الجزائري..
لم يجمع أفراد هذه الأمة على عدالة قضية ودعم ثورة ونصر شعب شقيق بصدق وإخلاص نادر المثال والتضحية في سبيله بالمال والرجال والأقوال والأفعال مثلما وقف الأشقاء العرب مع الشعب الجزائري..
لم يجمع  أفراد هذه الأمة على عدالة قضية ودعم ثورة ونصر شعب شقيق بصدق وإخلاص نادر المثال، والتضحية في سبيله بالمال والرجال والأقوال والأفعال مثلما وقف الأشقاء العرب مع الشعب الجزائري طوال سنوات ثورته الجهادية من بدايتها إلى نهايتها المشرفة له ولها، وهو ما نخصص له هذا المقال المناسب في الوقت المناسب؛ إحقاقا للحق وإنصافا للتاريخ واعترافا بالجميل لأهل الفضل من الأشقاء، مقارنة وقياسا للماضي القريب على الواقع الحاضر بين خذلان  فلسطين وسوريا ونصرة الجزائر.

وإذا كان الشعر هو أسمى أنواع التعبير عن المشاعر الصادقة للكائنات الناطقة، فإننا نبدأ بما جادت به قرائح الشعراء، الذين يعبرون عن أسمى معاني الوفاء والانتماء والتبني لجهاد الجزائر ضد العدو الغاصب للأرض والشعب والماسخ  للهوية، فيقول الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى (الملقب بشاعر الثورة الجزائرية) في هذه القصيدة، التي تعد من بواكير قصائده عن الثورة الجزائرية قبل أن تقفل عامها الأول، وقد كانت بعنوان: "ميلاد شعب"  ألقاها في مهرجان دمشق (تموز/ يوليو 1955) يقول فيها:

في عروقي أنتِ في آهاتنا في كل خاطـــرْ
يا دويَّ الصيحة الحمراء في قلب الجزائر
لا تعاتبني... تمنيت لو أني جــرح ثائــرْ

أيها العبء الذي يجثو على صدر بـلادي
أيها المستعمـر الماضي إلى غـير معــــاد
نتحداك جهادا ذاب في نار جهــــــــاد
أيها المستعمر الماضي: إلى غير معــــــاد!؟

يرى الشاعر في ثورة الجزائر أمل العرب، في أن تحقق لهم وحدتهم وتلغي الحدود بين أقطارهم:

وليقيموا ما يشاؤون على الرمل الحـدودا
يصل الأجيال يمحو البعد يجتاح السدودا
ثائـر يهوي على أرض البطولات شهيدا
وثبــــة تومئ للأجيـال أنا سنعـــــود..

وعن المواقف التي تذكر لهذا الشاعر العربي الأصيل، أنه عندما  زار الروائي والشاعر الجزائري مالك حداد سوريا (سنة 1961)، وتنقل بين مدنها، وهزت المحاضرة التي ألقاها بدمشق الكتاب السوريين عندما أعلن: "إن مجرد وقوفي اليوم بينكم لأتحدث إليكم بالفرنسية، وأنا العاجز عن التعبير عن أفكاري باللغة العربية، يكفي برهانا، لتعلموا إلى أي مدى كنا نحن الجزائريين ضحايا أبشع وأرهب محاولة من محاولات إفقاد الشخصية في تاريخ البشرية. إن ما يفصلني عن الجزائر، ليست الجبال ولا البحار، بل هي اللغة الفرنسية.

وفي هذا الجو المفعم بالمشاعر الصادقة يقرر سليمان العيسى نظم قصيدة عن مالك حداد، يقول فيها:

سأكتب عنك يامالك
سأعجن بالحروف الخضر كل عطاش آمالكْ
سأكتب عنك أنشوده
ترن بأحرف القرآن بالأوراس مشدوده
بلى يا شاعري
سأخط عنك غناءك الصامت
بحرف من شواظ النار بالعربية الحره
ليصدح لحنك الخافت
لتعرف أننا أسره
لتعلم أن أرضك يا أخي أرضي
ونبضك لم يكن يوما سوى نبضي

وهذا النبض القومي الصادق، هو الذي نقرأ له بقلم الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي في حديث الشهر، بعد الإعلان عن توقف الحرب بين الجزائر و فرنسا في شهر آذار/ مارس 1962 فيقول: "أريد أن أكتب عن الجزائر، فماذا آخذ من القول وماذا أدع؟ أأشيد بوقف إطلاق النار الذي وقع منذ أسابيع؟ فقد أشاد به مئات الكتاب، وفرح به الملايين من العرب فرحا قلّ أن فرحوا فرحا مثله في هذه العقود القريبة في الزمان. أم أمجد البطولة العربية، بل البطولة الإنسانية التي كانت، في سبيل المجد الصّراح الذي ملأ العين، فلم تأخذ أحدا فيه ريبة؟ فقد مجّدها الكثير العديد من الأقلام، ودوّى بها الكثير العديد من الخطباء".

ومن هؤلاء الشعراء الذين أشادوا بهذه الثورة التي اعتبروها ثورتهم، الشاعر أحمد السقاف الذي يقول:

طلَع الفجْــرُ على رَغــم عِدانـا             وانجَلى اللَّيلُ وولّى عن حِـمـانا
ومَسَحنا دمعــــةً قــد طَفَـرتْ           مِن مَآقٍ يَبسـت مِنهــا زمَانـــا

*  *  *

وتَـــبارى للـرَّدى أبــــطالُـها                يــــدْفَعون العَار عنّا والهَوانـــا
بِأبى "أوراس" كمْ مِن شاعـــرٍ          لمْ يجدْ مِن هَول ما ضَحَّت بيانــا

*  *  *

والبُطولاتُ إذا مـــا أعْجَــزت          قَصَّرَ الوَصْـفُ وعانى ثُمَّ عانى
لم يــر التــــاريــــخ في أدوارِه          مثل هاتيك الوَغَى حرْبًا عــوانا

*  *  *

ومــضَت سَبعٌ وما مِـــن ثائـرٍ           مَــلَّ للهيْجاءِ ضربــا وطعانــا
ورَمــى جيشُ فرنْســا حِــقْده          يَطْلبُ النَّصرَ، ولو نصرًا جبانــا

*  *  *

وصَلاحُ الـــدِّين من قبِـــــرِه              قــدَّمَ التَّاج لها والصّـــوْلَجَانــا
يـــا بَنَي العُــرْبِ بَلَغْتُم مِـثْلَهَا            ورَفَعْتُم أبَــدَ الدّهــــرِ لوانــا
لا تَظُنـــُّوا أنــّها قَد خَمــــدت           فأوَار الشَّمس من بَعـض لظَانَا


وعن مساعدة الأشقاء في تونس، يقول المجاهد الرائد عثمان سعدي في مذكراته: "وبإمكاننا القول؛ إن عددا لا بأس به من الثوار التونسيين، التحقوا بصفوف جيش التحرير الوطني إلى جانب إخوانهم المجاهدين الجزائريين، مما يدل على أن كفاح الشعبين التونسي والجزائري كان كفاحا واحدا، وفي خضم المعركة، استشهد عدد من المجاهدين التونسيين في الجزائر. ومن بقي على قيد الحياة، استمر في الكفاح إلى جانبنا، إلى أن طلبت منهم الحكومة التونسية العودة إلى بلادهم، وفي هذه المرحلة، لم تكن تونس قد حصلت على استقلالها، فالجيش الفرنسي ظل موجودا على أراضيها".

يقول المجاهد الرائد عثمان سعدي في مذكراته: "وبإمكاننا القول؛ إن عددا لا بأس به من الثوار التونسيين، التحقوا بصفوف جيش التحرير الوطني إلى جانب إخوانهم المجاهدين الجزائريين، مما يدل على أن كفاح الشعبين التونسي والجزائري كان كفاحا واحدا.
ونذكر أيضا من الشهادات التي تؤكد مساندة الأشقاء للثورة الجزائرية، ما أورده الأستاذ محمد الصالح الصديق في كتابه "دور الشعب الليبي الشقيق في جهاد الجزائر"، حيث يقول؛ "إن أسبوع الجزائر في ليبيا، وبصفة خاصة في طرابلس، أقل ما يقال عنه؛ إنه رائع وفريد من نوعه، تتجلى فيه روح التضامن الليبي مع الجزائر قوية وثابتة، وفي وعي عميق، حيث يتحول الشعب الليبي الشقيق بأكمله إلى تعبئة عامة شاملة، فكل فئاته تتجند لصالح الثورة الجزائرية، وفي كل أسبوع من أسابيع الجزائر في ليبيا، يسجل التاريخ أروع صور الإيثار والتضحية والفداء، ولكثرتها وتنوعها نكتفي بذكر ثلاث حالات فقط على سبيل المثال:

الحالة الأولى: في صبيحة يوم من أيام رمضان 1958، كان يجلس متسول إلى مكان  في قلب مدينة طرابلس تلاقت فيه عدة شوارع وأنهج، وجلس على الرصيف وتحته حصير أبلاه مر الأيام.

واتفق أن وقفت بالقرب منه مع سفير عربي نتحدث عن تطورات الثورة، وتضامن ليبيا مع الشعب الجزائري، وخاصة في هذا الأسبوع، وكنت من حين لآخر أرمي بعيني إلى المتسول العجوز، سيما عندما تمتد إليه يد محسنة في رفق، فيقابلها بابتسامة. وبعد ساعة من الإفطار، ذهبت إلى مكتب الهلال الأحمر الجزائري بباب الحرية، حيث تجمع التبرعات ووجدت المكتب غاصا بمختلف الطبقات: الأطفال، والشباب، والكهول، وكلهم جاؤوا لتلبية النداء المقدس وتأدية فروض الأخوة: فبينما كنت أتحدث مع المسؤولين، وأتابع المتبرعين إذا بشيخ أعمى تسبقه عصاه، ويقوده طفل صغير، يشق الطريق إنه الشيخ الذي رأيته صباح اليوم، أخرج من جيبيه صرة بها كل ما جمعه في بياض ذلك النهار، وقدمها إلى المسؤول عن التبرعات، فعندما رفض المسؤول أن يقبلها مؤكدا له أن مثله لا يقل حاجة إلى المساعدة من المجاهدين أنفسهم، استشاط غيظا وأبى إصرارا أن يعود بها، ولم يهدأ حتى قبلت منه.

أما الحالة الثانية التي أذكرها مثل يومنا هذا؛ فهي أنه ذات يوم خرج بالسيارة مجاهد جزائري يعمل في لجنة التبرعات (في أسبوع الجزائر) إلى إحدى ضواحي طرابلس لمهمة كلّف بها، فدهس شابا دون العشرين من عمره فقتل، وما إن بلغ الخبر والده، حتى أسرع مذعورا إلى مكان الحادث يعتصره الألم ويهزه هول المصاب، فما إن علم أنّ قاتل ولده جزائري كان يسوق سيارته بسرعة حتى يؤدي مهمة للثورة في موعدها المحدّد، حتى هدأ وسكن وتقدم بخطى وئيدة إلى ابنه ممرغا في الدماء، فحدجه بنظرة ثم قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، ثم التفت إلى السائق وقال له والدموع تترقرق في عينيه: اذهب يا أخي لمهمتك حتى لا تفوت، فإن الوقت لا ينتظر، أما ولدي، فإنه من شهداء الجزائر، وللشهداء مكانتهم عند ربهم. وكانت دهشة السائق بالغة عندما احتضنه بذراعيه وقال له: اذهب لا تتأخر عن موعد المهمة، أما ابني، فإنه لم يمت لأنه ذهب شهيدا في سبيل الجزائر.

أما الحالة الثالثة، فهي تتعلق بالعرائس الليبيات اللائي صادف زفافهن أسبوع الجزائر فتبرعن بحليهن للثورة الجهادية المقدسة، لديهن مثل كل الشعب الليبي الشقيق.

لقد ظَهَرَ تضامن البلدان العربيّة وشعوبها منذ الوهلة الأولى لانطلاق الثّورة، ولكن هذا الدعم كان متفاوت الحجم والنوع في الميدان؛ لأنّ بعض هذه البلدان كان ما يزال هو نفسه تحت الاحتلال أو الحماية.

وكان العِراق مستقِّلا، ولكن لم تتجسّد مساعدته إلّا بعد وصول العميد عبد الكريم قاسم إلى السّلطة سنة 1958. وعن مساعدة العراق للثورة الجزائرية نترك القلم للأستاذ توفيق المدني (الوزير في الحكومة  الجزائرية  المؤقتة آنذاك)، ليحدثنا عن مثل هذه المواقف الرائعة للأشقاء حيث يقول:  "...عقد عبد الكريم قاسم مجلس الوزراء ودعانا إلى حضوره في بناية وزارة الحربية، فرحب بنا ترحيبا حارا بليغا.. فشكرت العراق شعبا وحكومة على ما بدأه من روح ثورية عالية.. وقلت بعد أن شرحت الموقف الحربي: الآن جاءت الساعة الحاسمة ساعة بعدها النصر أو الفناء، المال أو السلاح، هذا ما نطلب من العراق.. قال عبد الكريم قاسم: كفاح الجزائر أمر أساسي في كفاح العرب، ولن ينجح العرب أصلا في مستقبل أيامهم، ما لم تفز الجزائر باستقلالها، كلنا للجزائر! أما السلاح فسنعطيكم سريعا مما عندنا ومن أجود الأنواع، وأما المال، فهو قليل بين أيدينا لكننا لن نبخل عليكم بشيء، وسنتحمل فوق ما نستطيع، قلت المال بالنسبة لنا اليوم كالسلاح.. نطق السيد حديد وزير المالية فقال: لا نجد بين أيدينا اليوم شيئا من المال.. فأجابه قاسم بلهجة شديدة: سواء أكان عندنا المال أم لم يكن عندنا منه شيء، فواجبنا إمداد الجزائر حاليا، أخِّر دفع مرتبات الموظفين، أخِّر المشروعات التي لديك، أخِّر كل شيء إلا الجزائر! يجب أن تغاث حالا".

إن أسبوع الجزائر في ليبيا، وبصفة خاصة في طرابلس، أقل ما يقال عنه أنه رائع وفريد من نوعه، تتجلى فيه روح التضامن الليبي مع الجزائر قوية وثابتة، وفي وعي عميق، حيث يتحول الشعب الليبي الشقيق بأكمله إلى تعبئة عامة شاملة.
هذه الشهادة الأولى، أما الشهادة الثانية التي تؤكدها، فموجودة بنفس المعنى في كتاب المجاهد سعد دحلب وزير خارجية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، حيث يقول: "لقد ساعدتنا البلدان الشقيقة في حدود إمكاناتها المتاحة، وكانت هذه المساعدة والدعم الدائم  المادي والمعنوي أحسن عون وسند لنا طوال سنوات حربنا التحريرية حتى بلوغ الانتصار النهائي".

ومن أروع الصور التي تجسد تضحية الأشقاء العرب في الثورة الجزائرية، نذكر الموقف النموذجي النادر المثال للمجاهد (الليبي المولد ـ الجزائري الروح والمدفن) الهادي إبراهيم المشيرقي، الذي يسجله بقلمه في كتابه "قصتي مع ثورة المليون شهيد" حيث يقول: "ومرة أخرى وبالتحديد في 20 يناير 1958... دق جرس الهاتف في مكتبي بالفندق الكبير "جراند أوتيل" بطرابلس.. وكان المتكلم هو العقيد أعمران.. وطلب مني أن أنتظره، فهو قادم في الطريق.. وجاء معه بشير القاضي وكمال شاكر.. ودخل في الموضوع مباشرة قائلا: نحن في حاجة ماسة للمزرعة التي قلتم إن ثمنها ثمانية آلاف وخمسمائة دينار ليبي.. لكن ليس معنا غير أربعة آلاف فقط.

قلت: هذه المسألة نتباحث فيها هذا المساء.. فأنت معزوم على العشاء في الفندق.. وسيحضر العشاء معنا التابعي القائم بأعمال السفارة المصرية.. والطبيشي القائم بأعمال السفارة السعودية.. أنتم ضيوفي.. وحضر العشاء العقيد أعمران ورفاقه ومعهم شخص رابع محروق اليد، نتيجة إشعاله النار في أحد المتاجر التي رفضت الامتثال للإضراب.. وفي الصباح الباكر جاءني العقيد أعمران يسألني إن كنت قد جهزت باقي ثمن المزرعة.. ولما كانت الظروف الاقتصادية مأزومة.. فقد طلبت مهلة شهر كي أتصرف.. ولكنه رفض الانتظار.. كما رفض محاولاتي لشرح الإجراءات والمدّة الزمنية التي تستغرقها، فعرضت عليه أن أقوم برهن بيتي.. وتوجهنا للبنك ومعنا مستندات ملكية البيت.. وهناك أعلمونا أن الإجراءات ستستغرق بعض الوقت.. فقبل على مضض.. وفي أثناء عودتنا لمكتبي.. أخذ لنفسه طريقا منفردا ولم نعرف وجهته، ولكني فوجئت في الصباح بكمال شاكر يدخل مكتبي ومعه أوراق بيتي التي تركناها في البنك المصري قيد الرهن، وأخبرني أن المشكلة قد حلت بطريقة العقيد أعمران، ووسط استغرابي أجاب كمال: بعد أن تركنا العقيد أعمران وذهب بمفرده.. دخل قصر الخلد وأخذ يرفع صوته عاليا: هكذا وصلنا إلى أن يرهن الهادي المشيرقي بيته.. فسمع الملك إدريس هذه الضجة فقال: ادفعوا له الذي يطلبه حالا.. فخرج والصك في يده.".

ويقول أيضا: "في الأسبوع الأول من شهر مايو 1960.. زارني خليفة العروسي وكيل وزارة التموين والتسليح.. وكان معه وزير التموين والتسليح عبد الحفيظ بوصوف.. جاء الاثنان إلى مكتبي وسألني خليفة سؤالا مباشرا:

ـ هل تعرف شخصا اسمه "بيزنر ويلي"؟

فأجبته على الفور: نعم.. أعرفه جيدا، فقد كان يورد الأسلحة لمكتب المغرب العربي بالقاهرة..
وجاء السؤال الثاني مباشرا أيضا.. وقاطعا مثل سابقه:
ـ هل أنت مستعد للعمل مع الثورة الجزائرية بأقصى حد؟

والجواب:

ـ نعم.. وهذا شرف يمنح لا يفرض..
وعقب الوزير الجزائري ردا على جوابي:
ـ المسألة فيها خطورة على حياتك؟

ورددت:

ـ ماذا يضير موتي.. بعد موت مليون من إخوتي..؟
وهز رأسه متمتما: طيب.. ثم بلع ريقه، وأردف قائلا والكلمات تخرج من بين شفتيه بصعوبة:
ـ حتى نكون واقعيين.. وهذا ما يجب إزاء الأشخاص الثوريين... فإن الأمر يتطلب ـ للاحتياط ـ ـ أن تكتب وصيتك وبراءة للثورة من دمك.

قلت:

ـ أكتبها من كل قلبي وأنا مرتاح وسعيد بشرف انضمامي إليكم... وهذا شرف طالما تمنيته... وطلبته منكم مرارا.. وها قد تحقق ولله الحمد.

وبالفعل، كتبت وصيتي.. بمصيري.. ومعها ورقة أخرى أبرئ فيها الثورة تماما من دمي، وأعفيها من أي مسؤولية خاصة بمصيري.. كما كتبت رسائلي لأسرتي.. وفي صباح يوم 29 مايو 1960 أخذني خليفة العروسي إلى السفارة السعودية في طرابلس... وهناك كان في انتظارنا الوزير المفوض بكري عبد الكبير، وتسلم مني ما أحمله من وصايا وبراءة ورسائل لأسرتي، فوضعها في مظروف كبير وأودعها في الخزانة الحديدية.

وقبل أن ينبس بأي كلمة... أيقنت تماما أنه يعرف كل شيء مسبقا... وقد أغناني هو عن البحث عن مزيد من المؤشرات... عندما نظر إليّ وقال وهو يودعني:

ـ أنا في انتظارك... لأسلمها لك شخصيا إن شاء الله تعالى.

 وفي اليوم التالي، غادرت طرابلس في طريقي إلى ألمانيا.. بينما أخذ خليفة طريقه إلى القاهرة حسبما أظن... وبعد أربعة أيام وصل إلى الفندق.. وخرجنا معا للقاء "ويلي".. وبدأنا على الفور العمل.. وناقشا المطلوب.. وتوالت الاجتماعات حول التفاصيل.. وكانت عصابة اليد الحمراء في أقصى حالات نشاطها؛ في محاولة مسعورة لقطع طرق الإمداد والتسليح على الثورة الجزائرية.. وقد ارتكبت عدة جرائم اغتيالات.. ولم يكن "ويلي" بعيدا عن مراقبتها.. وكان هو بنفسه يعرف ذلك.. ويتخذ احتياطات كثيرة للخداع.. وطالما رفعت عيني لأدور بهما حولنا.. فأتصبب عرقا عندما أجد أن كل الوجوه حولنا غريبة.. تبعث على الريبة.. لو أني أضفت تفاصيل أخرى للوصية.. ويأخذني إحساس بالاختناق.. ولكن سرعان ما يستغرق مشاعري العمل المقدس الذي نحن بصدده.. فأشعر بالزهو والكبرياء.. وتتضاءل كل الأخطار أمام عيني.

وأخيرا اتفق الطرفان (الثوار والتاجر) على البحث عن حل لهذه الثقة المفقودة بين الطرفين.. واقترح التاجر اسمي بحكم المعرفة السابقة منذ أيام مكتب المغرب العربي.. وبدأ "ويلي" عمله، فأخذ يلف على المخازن والمخابئ طلبا للأسلحة... وودعني خليفة على موعد أن يعود بعد ثلاثة ومعه ثمن ما اتفقا عليه، أن نلتقي في فندق آخر حدده "ويلي"... وبعد يومين فقط، عاد خليفة العروسي من دمشق... وسلمني ثلاثة صكوك باسمي وبها مبالغ ضخمة:

1  ـ  الأول  بقيمة مليون و189 ألف دولار...
2  ـ  الثاني بقيمة 712 ألف و50 مارك ألماني..
3 ـ والثالث بقيمة 822 ألف و200 مارك ألماني غربي كذلك.

والصكوك الثلاثة صادرة باسمي.. وقد سلمت خليفة إيصالا واحدا بالصكوك الثلاثة.. وذكرت في الإيصال أنه في حالة موتي أو فقداني للوعي، فإنه على ورثتي أن يعيدوا قيمة الصكوك إلى جبهة التحرير الوطني الجزائري.

كما حررت رسالة للمصرف بنفس المعنى.. وظللنا نلتقي ثم نفترق.. وتطول الآماد بين اللقاءات.. وصديقي "ويلي" مشغول تماما بتجهيز الصفقة..

وحان وقت التسليم.. وبدأت اللقاءات تكتسب سمة النهاية.. عندما فوجئنا بأن "ويلي" بعد إحدى هذه اللقاءات يحاول إدارة محرك سيارته.. فإذا بانفجار ضخم يطيح بكل شيء في السيارة.. ويحولها إلى شظايا.. وخاصة ذلك المقعد المجاور له، الذي طالما جلست عليه حتى قبل لحظات من الانفجار..

لقد نجوت، أما صديقي المسكين فقد بترت ساقه.. وأصابت الشظايا وجهه.. وتسببت في إصابته بضعف شديد في الإبصار.. وقد أسفت كثيرا لهذا الصديق الذي طالما ناقشني حول قضايا الوطن العربي.. من تونس.. إلى الجزائر.. إلى فلسطين، ومصير الشعب العربي في هذا الجزء من الوطن الكبير".

أما الأشقاء في المملكة المغربية ملكا (محمد الخامس) وشعبا كريما معطاء، ويكفي أن نشير  إلى أن معامل تصنيع الأسلحة للثوار كانت تقام على أرضه، ولم يكتشفها العدو حتى توقيف القتال   والاحتفال مع الشعب الجزائري بالاستقلال، وكأنه بيت واحد في قرية من المساكن المجاورة  من خليج عمان إلى جبل طارق وطنجة و تطوان.
وإذا كان من الصعب حصر كل أوجه المساعدات التي قدمتها الدول العربية الشقيقة وشعوبها للثورة الجزائرية التي اعتبروها قولا وفعلا ثورتهم... فإننا نقتصر هنا على ذكر الأهم والأعم منها فقط للحقيقة والتاريخ والاعتبار وهي:

ـ  تنظيم أيّام أو أسابيع تضامنيّة مع الثّورة الجزائريّة،
ـ  أعمال ضدّ مصالح فرنسا... بعد عمليّة القرصنة الّتي تعرّضت لها الطّائرة المُقلّة للوفد الجزائريّ يوم 22 أكتوبر 1956.
ـ  تضامن واسع بعد هجوم الطَّيران الفرنسيّ على ساقية سيدي يوسف (8 فبراير 1958).
ـ  مساعدات ماليّة متفاوتة من جميع البلدان العربيّة، كل حسب قدرته.
ـ  تكوين عسكريّ للمجاهدين الجزائريين في بعض البلدان العربيّة.
ـ  فتح مجال الإعلام للثّورة الجزائريّة (صوت العرب مثلا بالقاهرة، وكذلك إذاعة الرباط وتونس وطرابلس ودمشق وبغداد).
ـ وقوف البلدان العربيّة ككتلة متراصّة عند تناول القضيّة الجزائريّة في المحافل الدّوليّة.

زيادة على هذه الأعمال المشترَكة، لا بدّ أن نشير إلى عمليّات متميّزة قامت بها بعض الدّول العربيّة من أجل الثّورة الجزائريّة منها:

ـ كون القاهرة منارة للوطنيّة العربيّة ومركز إشعاع للثّورة الجزائريّة، ففيها تَنَصَّبت الحكومة المؤقّتة للجمهورية  الجزائريّة.. 1958 قبل أن تنتقل بعض مصالحها الي تونس  وليبيا لاحقا.

ـ ومن ذلك ما تعرضت له مصر من عدوان ثلاثيّ (فرنسي بريطاني صهيوني في سنة 1956)، الذي كان من أسبابه الأساسية مساعدة مصر للثّورة الجزائريّة، في مختلف المجالات السياسية والإعلامية والعسكرية من البداية إلى النهاية.

ـ  أما الأشقاء في المملكة المغربية ملكا (محمد الخامس) وشعبا كريما معطاء، ويكفي أن نشير  إلى أن معامل تصنيع الأسلحة للثوار كانت تقام على أرضه، ولم يكتشفها العدو حتى توقيف القتال   والاحتفال مع الشعب الجزائري بالاستقلال، وكأنه بيت واحد في قرية من المساكن المجاورة  من خليج عمان إلى جبل طارق وطنجة و تطوان.

ـ وليقس ما لم يقل من ذلك الزمان مقارنة بأيامنا هذه من خذلان لأهلنا في غزة  وسوريا ولبنان..
ـ وقل للزمان ارجع يا زمان لترى الردة والخيانة للأشقاء مع ألد الأعداء في بعض البلدان، وفي حصار غزة  من أقرب الجيران (شرقا وغربا) لعقدين من الزمان أقوى دليل وبرهان.
التعليقات (0)

خبر عاجل