أفكَار

كشف حساب الثورة ومعاركها المقبلة.. دلالة الانقلاب في مصر وتونس

إن من اختارتهم الشعوب ممن يتهمون بكونهم ضد الحداثة القيمية أصبحوا هم المدافعين الحقيقيين عن الحرية والكرامية والديمقراطية التي تعبر عن إرادة الشعب الفعلية.. (فيسبوك)
إن من اختارتهم الشعوب ممن يتهمون بكونهم ضد الحداثة القيمية أصبحوا هم المدافعين الحقيقيين عن الحرية والكرامية والديمقراطية التي تعبر عن إرادة الشعب الفعلية.. (فيسبوك)
لما تبين أن البديل الذي أتت به الثورة لم يستجب لقصد التحريف المستهدف من التدخل الأجنبي تكشفت حقيقة المجتمع المدني الدخيل حجما ودورا فعاد إلى حلفه مع أدوات الحكم الخادم والتابع بآليات الاستبداد والفساد. وعاد معه مموله بعد أن تأكد من فشل تدخله الذي لا ننفيه بل ننفي أن تكون الثورة ثمرة لتدخله.

وهذه الجماعات المتحالفة في الثورة المضادة قابلة للحصر الدقيق: فقد افتضح ادعاء الثورية عند غالب العلمانيين يساريين كانوا أو ليبراليين أو قوميين من الصنفين وكذلك عند بعض الأقليات التي تعتبر الحامي الوحيد لامتيازاتها هو حليف سيدها الغربي من أنظمة الاستبداد والفساد في كل البلاد العربية.

لذلك فالشعب قد تصدى لهم ولمشروع الديمقراطية الطائفية علن النحو العراقي أو اللبناني بحيث إن من اختارهم ومن يتهمون بكونهم ضد الحداثة القيمية أصبحوا هم المدافعين الحقيقيين عن الحرية والكرامية والديمقراطية التي تعبر عن إرادة الشعب الفعلية لا الديمقراطية الصورية التي تريدها أمريكا لتمكن لطابورها الخامس.

 تلك هي دلالة نتائج الانتخابات وعلة الرد عليها بالانقلابات. فمن انتخبهم لو قبلوا بأن يكون بديلا من نخبة لم يعد المستعمر يرضاها لخدمته وليس لبناء ديمقراطية فعلية تعبر عن إرادة الشعب العميقة لما شجع الغرب الانقلاب عليها ولما موله من موله من أنظمة الفساد والاستبداد البترولية ولما اضطر إلى أن يسمي الانقلاب العسكري في مصر ثورة.

المفاجأة الأكبر هي مفاجأة الموجة الثانية من ثورة الربيع العربي. فحلف المتظاهرين بالدعوة للديمقراطية ليبرالية كانت أو شعبية وأدعياء الحداثة والتقدم مع العسكر وقبولهم بحكم الدبابة جعل الإسلاميين بشيء من مكر التاريخ أو مكر الله يصبحون المدافعين الصادقين الوحيدين أو يكادون على التحديث والديمقراطية الحقيقيين أعني أنهم يريدونهما بمعناهما المحقق للحرية والكرامة البشرية.
وحتى نفهم ذلك فينبغي أن نوضح الفرق بين التدخلين الذي حصل في الخمسينات والحاصل الآن:

 فقد كان الهدف في انقلابات الخمسينيات من القرن الماضي ساعيا إلى تحقيق جدار صد أمام الشيوعية بالاعتماد على تدعيم الفارق الحضاري بين الشعوب الإسلامية وبين قيم الحركة الشيوعية. كان المطلوب حليفا ضد الحضارة الشيوعية من الأنظمة التي تدعي القومية أو الدينية لأن القومية من المفروض أن تكون معادية لعالمية النزعة الشيوعية ولأن الدين من المفروض أن يكون معاديا للإلحاد الشيوعي.

وأصبح الهدف في ما كان يعد له من تغيير بالقوة الناعمة للطابور الخامس معتمدا على تحجيم الفارق الحضاري بين الشعوب الإسلامية وقيم الليبرالية الغربية من خلال تسميح الإسلام وعلمنته العلمنة الفاسدة. لذلك كانت هذه الخطة بحاجة إلى الإعداد الجيد لها بتكوين هذا الطابور الخامس. أصبح المطلوب حليفا ضد الحضارة الإسلامية نفسها من داخلها باسم التحديث والديمقراطية الزائفين.

فالتحديث الزائف يولد التبعية من خلال جعل الجماعة مستهلكة من دون إنتاج والديمقراطية الزائفة تيسر التحكم عن بعد. ذلك أن الغاية من خطة الاعتماد على طابور خامس هي وضع الجرثومة في الجسد نفسه حتى يتحقق المحور الثاني من الخطة:

فالمحور الأول هو تبعية أجهزة فعل الدولة والمجتمع أعني الأمن والدفاع والإدارة لجعلها عميلة سياسيا بضمان بقائها رغم استبدادها وفسادها ضد إرادة الشعب. وهذا حاصل قبل الربيع العربي. وتلك هي الوظيفة التي أدتها الانقلابات العسكرية السابقة خلال النصف الثاني من القرن الماضي.

أما المحور الثاني فهو تبعية أعمق تجعل النخب السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية وحتى الروحية تنتقل من العمالة السياسية إلى العمالة الحضارية في الانقلابات المدنية التي كانت أمريكا تعد لها والتي بين الربيع العربي فشلها لأن المجتمع المدني الأصيل تصدى للمجتمع المدني الدخيل.

وكانت بداية الخطة المعلنة هي الاستحواذ على أدوات الفعل الرمزية أعني التربية والثقافة والإعلام لجعلها في خدمة هذه الخطة بالعملاء الحضاريين مع ما لديهم بعد من سلطان خفي على العملاء الجهازيين المنبثين في أدوات القوة العامة والإدارة حتى يتم التمكين للديمقراطية الصورية فتجعل الدولة الوطنية نفسها تتحول إلى حرب شاملة على كل مقومات الحضارة العربية الإسلامية باسم تحديث مسيخ وتابع كما يتبين بوضوح من البرنامج العلني لانقلاب السيسي الذي وضع تجفيف المنابع الشهير في الدستور.

والهدف مضاعف:

منع شروط استئناف المسلمين لدورهم من خلال الحيلولة دون الثورة وانتهاج طريق الوصول إلى القوة أولا وفي حالة فشل ذلك الاستعداد لمنع ثمرتها أعني الانقلاب على الإرادة الوطنية المستقلة.

وذلك بفرض نزع أسباب القوة والمناعة من خلال نزع أداته الأساسية أي السلاح كالحال مع الألمان واليابان الأمتين معزولتي السلاح وفاقدتي شروط الإرادة المستقلة بمنطق العصر عن المتغلب عليهم.

لكن الربيع العربي أفسد على هذه الخطة مسعاها وجعل الثورة بالانتخاب الديمقراطي الشفاف بيد أمينة بأن أرجعها إلى ممثلي حركة الإصلاح والنهوض التي عمرها قرنان والتي تمثلها حاليا الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية.

فهو قد فاجأ الجميع أو هو إن شئنا حصل قبل أن يصبح هذا الطابور الخامس قادرا على السيطرة على الشارع والشعب بصورة تمكن من بناء ديمقراطية بالشكل الذي تريده أمريكا في استراتيجية الشرق الأوسط الجديد والتي أساسها الجوهري هو القضاء النهائي على أي طموح إسلامي للعودة إلى الدور الكوني.

إن ممثلي قيم الأصالة وجدوا أنفسهم وحيدين أو يكادون في وضع من يدافع عن كل المعاني الحديثة للديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية خلال دفاعهم عن كل المعاني الأصيلة التي كان همهم شبه مقصور عليها.
فشلت هذه الخطة. لم يبق هدف التدخل الأمريكي بالقوة اللطيفة للمجتمع المدني المأجور. لم يؤت أكله بسبب الربيع العربي الذي لم يترك له الوقت الكافي لمد جذوره في الجماعة العربية خاصة. لذلك حصلت الانقلابات التي هي بداية الموجة الثانية من الربيع العربي الموجة التي تبرهن يوميا بأن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والكرامة كلها أصبحت مطالب الحركات الإسلامية لأنها هي الممثل الحقيقي للإرادة الشعبية الثورية والبقية تحالفوا مع الانقلاب لخدمة الأجندة التي تريد إبقاء الأمة تابعة إلى يوم الدين.

لكن المفاجأة الأكبر هي مفاجأة الموجة الثانية من ثورة الربيع العربي. فحلف المتظاهرين بالدعوة للديمقراطية ليبرالية كانت أو شعبية وأدعياء الحداثة والتقدم مع العسكر وقبولهم بحكم الدبابة جعل الإسلاميين بشيء من مكر التاريخ أو مكر الله يصبحون المدافعين الصادقين الوحيدين أو يكادون على التحديث والديمقراطية الحقيقيين أعني أنهم يريدونهما بمعناهما المحقق للحرية والكرامة البشرية.

وهنا حصلت الظرفية التاريخية التي يمكن وصفها بكونها من علامات التأييد الإلهي لمسعى الأمة وللنصر المؤكد بإذن الله: فهي ظرفية الجمع بين قيم الأصالة وقيم الحداثة بصورة شبه مضطرة بداية وأصبحت مختارة غاية لأنها شرط خوض المعركة والنصر فيها.

ذلك أن ممثلي قيم الأصالة وجدوا أنفسهم وحيدين أو يكادون في وضع من يدافع عن كل المعاني الحديثة للديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية خلال دفاعهم عن كل المعاني الأصيلة التي كان همهم شبه مقصور عليها.

ومن ثم فقد أصبحت أهداف الأمة الأصيلة والحديثة متصالحة بل هي تبينت غير قابلة للتحقيق إلا بهذا الشرط. فالتخلص من التبعية بأدوات العصر يقتضي الوصل بمطالب حركة الإصلاح والنهوض التي بدأت منذ القرن التاسع عشر. وأصبح المعبر عن نوعي القيم الأصيلة والحديثة نفس التحرك الشعبي الذي هو جوهر ثورة الربيع العربي.

وهكذا تبين أن المعبر عن الإرادة الوطنية هو من انتخبه الشعب للدفاع عن مطالبه المباشرة من منطلق قيمه التي رأسها المطالب غير المباشرة أعني المناعة والقوة. وحينئذ سقطت  الخطة الأمريكية خطة الغزو اللطيف لضمان ما تحقق من غزو عنيف سابق.

الشعب لم يختر نخبة بديلا أعدتها أمريكا لتعوض نخبة فقدت قدرتها على خدمة المشروع الأمريكي بنخبة أخرى أكثر شرعية بعد أن تكون قد نفذت إلى مواطن القرار في الجماعة الوطنية بل ألغى هذه الخطة واختار نخبة تعبر عن إرادته العميقة.
التعليقات (0)