كتب

جلال الدين الرّومي والتفسير الصوفي للقرآن.. مراجعة كتاب

ما فرعون إلاّ نموذجا للنفس البشرية ومواطن ضعف نفسه من ضعف هذه النّفس أو لعلّه أقرب إلى المرآة التي يجب أن يرى فيها السّالكون أنفسهم.
ما فرعون إلاّ نموذجا للنفس البشرية ومواطن ضعف نفسه من ضعف هذه النّفس أو لعلّه أقرب إلى المرآة التي يجب أن يرى فيها السّالكون أنفسهم.
الكتاب: "الرومي والقرآن: القصص القرآني والتأويل الصوفي"
الكاتب: عامر لطيف
ترجمة: علي السعدي
الناشر: كنز ناشرون، ط1 بيروت 2021
عدد الصفحات:  256


1 ـ جلال الدين الرومي الذي نجهل

ينطلق الباحث الأمريكي ذي الأصول الباكستانية عامر لطيف ممّا يعتبره حقيقة مدهشة. فأكثر الشعراء شهرة ومحبة في الولايات المتحدة الأمريكية هو جلال الدين الرومي، ذلك العارف المسلم الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي. ولكن ترجمة أعماله من لغته الفارسية إلى لغات أخرى تمّت من قبل المستشرقين الذين نقلوا تراثه إلى ثقافاتهم. وبديهي أن تفضي معضلات الترجمة من ثقافة إلى أخرى مختلفة، إلى غموض العلاقة العميقة بين هذا العارف والقرآن.

ويضيف في تقديمه للترجمة العربية أن تعريب هذه الأعمال لم يحدث إلاّ في زمن متأخر. لذلك لا يكاد يعرف عند القراء العرب. ولا يتعلق الأمر بتداول معلومات حول الرّجل كأن نعرف أنه يسمى محمد بن محمد بن حسين الخطيبي البلخي ويُعرف بجلال الدين الرومي أو كأن نعلم سياحته في العالم الإسلامي من إيران إلى بغداد إلى تركيا وإنما بفكر العارف المتصوّف الذي له علاقة خاصّة بالقرآن.

وأكثر من ذلك ، يضيف مترجم الكتاب العراقي على السعدي، فأغلب المردّدين لنتف من أقواله لا يكادون يعرفون التصوّف الحقيقي. فتمثل أغلبنا له، يبقى متأثرا بممارسات التصوّف الطّرقي الشائع في البلدان العربية والإسلامية. والحال عنده يبدو أشبه بمن لا يعرف الورد الطبيعي إلا من خلال صلته بالورود الاصطناعية، ويقدّر بناء على ذلكّ  أنّ تمثلاتنا للتصوّف تظل مشوّهة وتكاد تكون مناقضة لروح التصوّف الحقّ.

ليست قصص جلال الدين الرومي استدعاءً مجانيا للخيال. فهو ينزّل ما يعرض من الأحداث في الواقع ويجعله حقائق على الأرض. وانطلاقا من توظيف القص القرآني يجمع التفاصيل بعضها إلى بعض ويجعل نفسه راوياً خبيراً ذا معرفة واسعة ليدفع القارئ إلى التّسليم بما يخبره به وبما تعنيه القصة في المثال المقصود.
من هذه المفارقة إذن تتحدّد أهداف الأثر. فتعمل على سد ما ترصد من فجوة لتبرز أنّ تصوّف جلال الدين الرومي تجربة كونية ثرية عابرة للأديان والقوميات والأعراق وأنّ تفسيره للقرآن مستجيب لحاجة الإنسان للتفاعل مع المطلق. ومن ثمّ كان الكتاب يستهدف القارئ عامّة بصرف النّظر عن ديانته، وهو يحاول أن يبرهن على أنّ معاني الحب والجمال والرحمة التي يتسم بها شعر الرومي وتعاليمه، نابعة من أصول قرآنية.

2 ـ تفسير القرآن بين أصحاب الشريعة والفقه والمتصوّفة

يبسط الباحث الاتجاهات المختلفة لتفسير القرآن. فهو يتصل عند أصحاب الشريعة بعلوم عديدة تعين عليه أو تتعلّق به أو تتفرع منه كالقراءات، والأحكام، والنسخ، والحديث، وأصول الدين، وأصول الفقه، واللغة والنحو. وتعرّفه موسوعاتهم بكونه "شرحَ القرآن وبيان معناه لتدبر آياته وتطبيق أحكامه" أو "الإفصاحَ بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو فحواه" أو "العلمَ بمعانيه من حيث دلالتها على مراد الله عز وجل بقدر الطاقة البشرية". ومن هنا مأتى اختلافه عن التأويل الذي هو "بيان مدلول اللفظ بغير المتبادر منه لدليل..

وللتّفسير شروط وأدبيات. فمن شروطه الإخلاص الذي يجعل غايته الفضلى بيان معاني آيات القرآن الكريم والتفويض أي التّجرد عن الهوى لنصرة رأي أو مذهب أو مبارزة خصم أو خدمة مصلحة. ومن آدابه التي تستوجب المراعاة  ضرورة التأدب مع كلام الله عز وجل وتحري الأقوال الصحيحة في تفسير الآيات وعدم الإقبال عليه بغير علم وعُدّة.

وللتّفسير الصوفي للقرآن منهج مغاير. لذلك يُصطلح عليه بالتفسير الإشاري  أو التفسير الفيضي. فالمتصوّفة ينطلقون من الحديث النبوي "القرآن ذُو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه"  ليبرروا اعتمادهم للإشارة التي تستدعي عند العارف إشارات أُخرى وفق نسيج خاص يتدرّج في استنباط معاني النصوص من الظاهر إلى الباطن بطرائق تختلف حسب تجربة كلّ صوفيّ، حتّى أنّ  بعضهم يذهب أنّ لكلّ ظاهرٍ سبعين باطنًا.  ولكن عامةً يرتَّب التّفسير عندهم وفق تدرّج، من التفسير باعتماد العبارة، وهو التفسير الذي يتولاّه العوام،  إلى بالاستناد إلى الإشارة، وهذا التفسير يهمّ الخواص. ويختص الأولياء باللّطائف فيصلون إلى جواهره الكامنة خلف حجاب الأحرف والكلمات في شكل كشف يفتحه له الله. ولا يدرك الحقائق منه غير الأنبياء. ثم يستند الباحث إلى المستشرق إكنار كولنزبهرفي كتابه "مدارس مفسّري القرآن" ليقسّمه إلى خمس مراحل هي المرحلة المبكرة ثم التفسير الطقوسي الشعائري ثم التّفسير التقليدي ثم التّفسير العقائدي ثم التّفسير الصوفي.

3 ـ السرد الإبداعي ودوره في تفسير القرآن

يذكر من المتصوّفة المفسّرين للقرآن ابن عطاء الآدمي أبو يزيد البسطامي ومحيي الدين ابن عربي. ويُعدّ أبو حامد الغزالي حجّة الإسلام أما أكثرهم اعتدالا أو قربا من منهج أصحاب الشريعة. فهو يعتقد أن لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر. ولكنّ أكثرهم تأثيرا في جلال الدّين الرّومي صديقه شمس الدين التبريزي. فعلى الناس" وفقه "أن يتجاوزوا المعاني الظاهرية للقرآن، وأن يطلبوا عمقها"، ف"لا بد الآن من الطلب، لأن للقرآن ظهرا وبطنا، هذا هو البطن، لم أمرك بطن البطن، ولو أمرته غدا". ومن مناهجهم في  تفسيرهم الصّوفي السرد الإبداعي.

والسؤال الذي يطرحه الباحث حول تفسير جلال الدين الرومي للقرآن يتعلّق بوجه الخصوصية في نظرة هذا الصوفي للنصوص بما يجعله يختلف عن غيره. فكيف يهتم بالإشارة والذوق ولا يلتفت إلى المعنى الظاهري للنصوص الدينية؟ وإلى أي حد يمكن أن نتحدّث عن تفسير صوفي مكتمل الآيات القرآن عند الحديث عن جلال الدين الرومي؟

تشتمل أشعار جلال الدّين الرومي على قدر من التّفسير باعتماد السرد الإبداعي. فيستدعي أحداثا من قصة موسى وفرعون. ويعتمد طريقة خاصّة في عرض شخصياتهما وشخصيات زوجته آسيا والسّحرة ووزيره هامان. وينتهي إلى معاني لطيفة نعرضها في ما يلي.

4 ـ من تفسيرات الرومي التأويلية للقرآن

لم يعرض جلال الدّين الرّومي رؤية خاصة للتأويل أو طريقة مميّزة في استيعاب المعنى. ولذلك يتولّى الباحث استقراء نصوصه بنفسه ليحدّد معالمها. ويدرسها  ضمن مباحث النص والمعنى واللغة. وينتهي إلى أنّ العارف الصّوفي يستخدم ثنائية المبنى والمعنى ضمن قناعة ترى أنّ شكل الشيء هو مظهره الخارجي أما معناه الحقيقي فهو حقيقته الباطنة غير المرئية. ويستخدم الدعاء المأثور عن النبي "اللهم أرنا الأشياء كما هي" للبرهنة على أنّ العالم كما يبدو لنا في الظاهر مجرّد حجاب للحقيقة. فيقول:

"اعلم أن صورة العالم الظاهري تفنى، وعالم المعنى يبقى للأبد.
إلى متى شغفك بالجرة؟ دع الجرة، وابحث عن الماء
 فبعد أن شهدت الصورة، صرت لا تدرك المعنى
كن حكيما، وخذ الدّرر من الصدف".

ويقول أيضا: "فتجاوز الصورة وخل عنك الاسم وانتقل من اللقب والاسم إلى المعنى".

ويقدّم جلال الدين الرومي ما يعتقد أنه النموذج الصحيح للتّفسير والكشف العميق لدلالة القرآن الباطنية. فيضطلع بدور المعلم ضمن أفق الإرشاد والهداية. ويجعل سبيله في ذلك معرفة النفس والدّراية بأهوائها. فمن مهام التفسير الارتقاء بالنفس من خلال تجسيد تعاليم القرآن. ومن هذا المنطلق يتطلّب فهم القرآن يتطلب فهم المحتوى الداخلي للنفس" وفق تقدير عامر لطيف. ومنه أيضا يرى أنّ تفسير العارف الرومي يجعل القرآن نصا حيا يتجاوب مع الأسلوب المتبع في تناوله.

5 ـ فرعون في القرآن

يدرس عامر لطيف وصف فرعون في تفسير الرّومي للقرآن. وينتهي إلى ضبط السمات الشخصية التي رسمت للفرعون انطلاقا من أحداث كثيرة كولادة موسى  أو حوار موسى مع الله أو مع فرعون أو انطلاقا من حوار فرعون والسحرة أو من وصف زوجة فرعون ووزيره هامان وآله وبطانته وقومه. ويأخذ بعين الاعتبار ما يطرأ على تلك الصفات عبر مسار السرد القرآني من تطور أو تغيير. ومن النتائج التي يخلص إليها أنّ التصوير القرآني لفرعون ضمن سرد جلال الدين الرّومي الإبداعي، وصفٌ نفسي بالدرجة الأساسية. فهو يركز على قواه الداخلية وعلى الدوافع الكامنة وراء أفعاله. "ومن خلال أساليب الإظهار والإخبار، تبين القصة القرآنية الشخصية النمطية التي تدرك حقيقة رسالة الله ولو بمقدار معين داخل نفسها. لقد سمح فرعون لتكبره وطموحه أن يحجبا علمه، وواصل ممارسته الأفعال الطغيان متبعاً إملاءات غروره و غطرسته غير أن هناك تطوراً مثيراً في شخصية فرعون حين أعلن، في لحظة غرقه، عن علمه المسبق بوحدانية الله. ولأن القرآن يطالب القارىء بتيني الرؤية التقييمية لله، يخلق القصص القرآني بشكل كبير كراهية لدى القارئ لشخصية فرعون من خلال الإدانة الواضحة لصفاته وأفعاله".

المتصوّفة ينطلقون من الحديث النبوي "القرآن ذُو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه" ليبرروا اعتمادهم للإشارة التي تستدعي عند العارف إشارات أُخرى وفق نسيج خاص يتدرّج في استنباط معاني النصوص من الظاهر إلى الباطن بطرائق تختلف حسب تجربة كلّ صوفيّ، حتّى أنّ بعضهم يذهب أنّ لكلّ ظاهرٍ سبعين باطنًا.
ويخلص عامر لطيف إلى استنتاج عميق: فخوض جلال الدين الرومي في التركيب النفسي لشخصية فرعون على صلة باعتبارها كونا صغيرا تتجلى في ديناميتها دينامية الكون الأكبر. وعليه فما فرعون إلاّ نموذج للنفس البشرية ومواطن ضعف نفسه من ضعف هذه النّفس أو لعلّه أقرب إلى المرآة التي يجب أن يرى فيها السّالكون أنفسهم.

وحتى يكون لتفسيره ولقصصه وقع على القارئ، يعمل على توريطه فيجعله يتعاطف مع فرعون في مواطن معيّنة. وهكذا سيخلص القارئ إلى أنّ عمى فرعون صورة من عمى النفس عامّة. وسيختبر على أديم شخصيته مختلف الصفات المعيبة للذات البشرية، كالكبر والغطرسة والتعلق بالحياة الدنيا أوالاستخدام الغاشم للسلطة.

6 ـ جلال الدّين الرّومي والوظيفة التّطهيرية للقص

ليست قصص جلال الدين الرومي استدعاءً مجانيا للخيال. فهو ينزّل ما يعرض من الأحداث في الواقع ويجعله حقائق على الأرض. وانطلاقا من توظيف القص القرآني يجمع التفاصيل بعضها إلى بعض ويجعل نفسه راوياً خبيراً ذا معرفة واسعة ليدفع القارئ إلى التّسليم بما يخبره به وبما تعنيه القصة في المثال المقصود.

تكون نهايات القصص عندئذ طريقة للاستحواذ على مشاعر القارئ. ولم يكن تفسير الرّومي يكترث بالنهايات بقدر ما يركّز على المسار الذي يفضي إليها. فإظهار الصراع داخل النّفس يتنزّل ضمن وظيفة تطهيرية، إن جاز القياس على التراجيديات الإغريقية،  تكشف في الرّومي الروائي الخبير صاحب المعرفة الموسوعية وهو يحاول أن يدفع السّالكين عبر السّرد الإبداعي الخلاّق ليتخلصوا من كلّ ما هو ذميم في أنفسهم. ويركز على القصص التي استغرقت سنين فيسحبها على المستوى الخارجي ثم يعيد رسمها لتعبر عن اللحظة الحاضرة مستخدما  الحكايات المركبة التي توظف جميع أنواع المجاز المألوف من قبل جمهوره. يقول مخاطبا إياه "كل ما في فرعون موجود فيك انت لكنّ أفاعيك حبيسة جبّ".

ولا يخفي عامر لطيف انبهاره بتفسر جلال الدين الرومي وسرده الإبداعي. فيخلص في نهاية أثره إلى أنّ تفسيراته لشخصية فرعون في القرآن خلاّقة ومثيرة ومطولة إلى حد كبير، فهي تظهر حالة من التواصل مع المضمون القرآني، وتؤدي، وظيفتها في مساعدة القراء، من خلال الشرح وتسهيل الاستيعاب، على فهم بنية نفوسهم وديناميكياتها.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل