أفكَار

نيجيريا.. حروب استعمارية صليبية أم هي بداية النهاية للهيمنة الغربية؟

هل يسعى ترمب حقًا إلى عالمٍ أكثر استقرارًا، أم أنّه بطبعه الممثل–المصارع يستطيب أن تُستفز الخرائط وتعود إلى منطق الحروب وتأثيثها؟ الأناضول
استيقظ العالم يوم 1 نوفمبر 2025 على خطابٍ صاعقٍ اخترق ذاكرة التاريخ، تهديدٍ فجٍّ يبعث من تحت رماد القرون المظلمة سردياتِ الحروب الصليبية بثوبٍ نووي ـ اقتصادي جديد. خطابٌ نزع آخر الأقنعة عن العقل الإمبراطوري الغربي، فكشف جوهره القديم في أبهى صوره: غزوٌ يُقدَّس باسم الإيمان، ويُبرَّر بذريعة "حماية الحضارة". كانت تلك لحظةً انكسرت فيها هيبة القانون الدولي، وتدحرجت مواثيق الأمم إلى مزابل السياسة، وغدا منطق القوة هو المشرّع الوحيد لمصير الشعوب، بينما صمتت المؤسسات التي وُلدت لتمنع تكرار هذا الجنون.

فمنذ تأسيس النظام العالمي الحديث عام 1948، بقيادة القوى العظمى التي خرجت من رماد الحرب الثانية، وُعِد العالمُ بقانونٍ دوليٍّ ومؤسساتٍ مشتركةٍ تُسوس الشعوب وتمنع عودة الفوضى. غير أنّ ما بُني على أنقاض المدافع سرعان ما عاد ليُختبر بمنطقها. فالصراع بين الحلفين، الذي وُلد لتثبيت السلام، أنجب قضايا صُنعت بالسلاح لتُدار بالمفاوضات: من قيام إسرائيل إلى أزمة فيتنام، ومن انقسام الكوريتين إلى سباق التسلح في كل قارة.

ثم جاءت لحظة 2001 لتُطلق عنان التدخل في البلدان تحت شعار «مكافحة الإرهاب»، فغدا العالم محكومًا بقبضة «الشرطي الذي لا يُسائل ولا يُحاكَم». وتُوّج عام 2016 هذا المسار بصعود رجلٍ يرى نفسه مالكًا لا رئيسًا، ويعتبر القانون قيدًا، والحلفاء عبئًا، والعالم مزرعةً مفتوحةً لسيادته الشخصية. نحن إذن أمام ارتدادٍ تاريخيٍّ لا نزوةٍ انتخابية؛ عودةٍ إلى زمنٍ تتحرك فيه الجيوش قبل الكلمات، وتُقاس فيه الشرعية بقدرة القوة على الفرض لا بوزن الأخلاق في ميزان الإنسانية.

منذ تأسيس النظام العالمي الحديث عام 1948، بقيادة القوى العظمى التي خرجت من رماد الحرب الثانية، وُعِد العالمُ بقانونٍ دوليٍّ ومؤسساتٍ مشتركةٍ تُسوس الشعوب وتمنع عودة الفوضى. غير أنّ ما بُني على أنقاض المدافع سرعان ما عاد ليُختبر بمنطقها. فالصراع بين الحلفين، الذي وُلد لتثبيت السلام، أنجب قضايا صُنعت بالسلاح لتُدار بالمفاوضات: من قيام إسرائيل إلى أزمة فيتنام، ومن انقسام الكوريتين إلى سباق التسلح في كل قارة.
خاطب دونالد ترمب العالم عبر منصّته Truth Social، في لحظةٍ تُعيد إلى الذاكرة قدرة التاريخ على أزيائه القديمة بوجوهٍ جديدة، وكأنّ العالم يعود إلى زمنٍ تُصاغ فيه السياسة باندفاع القوة لا برجاحة المؤسسات.

خاطب نيجيريا مهدِّدًا، بل مخاطبًا العالم أجمع بلغةٍ تُشبه قرع الطبول قبل اندفاع الخيل، ظنًّا منه أنّ ساحات القرن الحادي والعشرين ما زالت تقبل منطق الفاتحين.

نيجيريا التي اختارها ترمب ميدانًا لوعيده ليست دولةً هامشيةً في إفريقيا كما يظن، بل عملاقٌ ديموغرافي يتجاوز عدد سكانه 230 مليون نسمة، يشكّل المسلمون نحو 53% منهم، والمسيحيون قرابة 40%، فيما تتوزع النسبة الباقية بين دياناتٍ إفريقيةٍ محليةٍ ومعتقداتٍ تقليدية.

إنها أكبر اقتصادٍ في القارة، وأوسع مجتمعاتها تنوّعًا، ومفتاحُ التوازن بين المسلمين والنصارى الذين يتعايشون معًا بسلامٍ منذ نشأة الدولة، في تداخلٍ فريدٍ بين الثقافات واللغات والعادات.

لذلك فإنّ الخطاب الذي جاء تحت غطاء "حماية المسيحيين" لم يكن رسالةً دينيةً أو انحيازًا للمظلومين من النصارى، بل استعدادًا محمومًا للاستحواذ على مقدّراتها المنجمية وإعادة توزيع النفوذ في قلب القارة باسم الدين والإنسانية.

لكنّ نيجيريا لم ترتعش. خرج الرئيس بولا تينوبو بملامح رجلِ دولةٍ لا تابعٍ ينتظر إذنَ الإمبراطورية، متحدثًا بثقةِ من يعرف وزن بلاده وموازين قارتها. أكّد أنّ الدستور يحمي الجميع، وأنّ الدمّ النيجيري لا يُختزل على مذبح الدعاية، وأنّ السيادة ليست بندًا في مزاد القوة الدولية. بتلك النبرة الرصينة، أسقط الصخبَ الأميركي على صخرة الواقعية الإفريقية، كضربةٍ تفقد خصمها توازنه قبل أن تُصيب هدفها.

ثم جاءت الحركةُ الحاسمة على رقعة الشطرنج السياسي: «مات الملك»، ولكن بلغةٍ دبلوماسيةٍ بالغة، حين خرج مستشار الرئيس للإعلام والاستراتيجية، بايو أونانوجا (Bayo Onanuga)، ليُعرّي منطق ترمب بسخريةٍ راقية، قائلًا إنّ ما صدر عنه لا يعدو أن يكون "تكتيك تفاوض"، وإنّ الولايات المتحدة مرحّبٌ بها ما دامت السيادة ليست بندًا للمقايضة ولا جسرًا للهيمنة.

ولا يمكن فهم هذه الجغرافيا العنيفة إلا ضمن المشهد الإفريقي الأوسع: صراعاتٌ قبليةٌ متوارثة تتقاطع فيها الأديان داخل البيت الواحد؛ مسلمٌ ومسيحيٌّ وذو معتقدٍ محلّيٍّ يتنازعون الأرض والماء والماشية، فيما تُورّث الذاكرة الثأر كما تورّث اسم الجدّ. هنا لا يحتاج الشرّ إلى عقيدة، بل يكفيه الجوع والمصلحة وضيق الأرض ليشتعل الحزن موسمًا بعد موسم.

لكنّ سردية ترمب لا ترى سوى دمٍ واحد، وتغضّ الطرف عن دمٍ آخر، تصمت حين يُقتل المسلمون، وتنتفض حين تمسّ الحادثة مسيحيًا، وتعين إسرائيل في إبادة الفلسطينيين المسلمين بل والمسيحيين أيضًا. فأيّ عدالةٍ هذه التي لا تنظر إلا بعينٍ واحدة ثم تدّعي الوضوح؟ الواقع النيجيري أعقد من الشعارات، وأشدّ تركيبًا من فيديوهات الغضب السريع؛ فسيفساء من تمرّدٍ وعصاباتٍ وصراعٍ على المراعي والمياه، لا ملحمةَ اضطهادٍ دينيٍّ صافٍ كما تُروّج المنصّات، ولا واحةَ اطمئنانٍ حكوميٍّ، بل صراعٌ يلتهم الجميع بلا استثناء.

فكلمة المستشار الإعلامي لم تكن تعليقًا عابرًا، بل إشارةً مضمونة الوصول بأنّ ترمب اصطدم بدولةٍ ليست في هامش الخريطة ولا في ذيل موازين العالم، بل بثقلٍ إفريقيٍّ يصعب تجاوزه. نيجيريا اليوم قوةٌ إقليميةٌ كبرى تجلس على خزائن جغرافيا لا تُقدَّر بثمن؛ ليست مجرد كثافةٍ سكانيةٍ وصوتٍ سياسي، بل خزانٌ ضخمٌ للغاز الطبيعي يحتل المرتبة السادسة عالميًا، واحتياطاتٌ معتبرة من النفط، وحقولٌ غنية بالحديد والبوكسيت، ومعادن نادرة تدخل في سلاسل أشباه الموصلات والبطاريات والتجهيزات العسكرية. إنها بوابة الخليج الغيني، وقلبُ ممرّ الطاقة الممتدّ من غرب إفريقيا إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية، وركيزةُ الأمن الاقتصادي في القارة السمراء.

ولم يكن مستغربًا أن تتحول إلى ساحة تنافسٍ صامتٍ بين القوى الكبرى: فالصين تُرسّخ حضورها عبر الموانئ والبنى التحتية والقروض، وروسيا تبحث عن موطئ قدمٍ أمنيٍّ واقتصاديٍّ على طريقة تمددها في الساحل، فيما تحاول الولايات المتحدة استعادة موقعها من بوابة «الأمن» و«حماية الحرية الدينية». وهكذا يتضح أنّ المسألة أبعد من «الدفاع عن أقلية»، بل هي معادلة المعادن والطاقة والممرات البحرية، ومن يمسك بمفاتيح المستقبل الصناعي في إفريقيا. وكانت نيجيريا، من خلال موقفها، تُوجّه رسالةً صريحة إلى كل البلدان الإفريقية التي تملك مقدّراتٍ استراتيجية: أنّ السيادة لا تُستأذن، وأنّ من يملك ثروته يجب أن يملك قراره.

نيجيريا التي اختارها ترمب ميدانًا لوعيده ليست دولةً هامشيةً في إفريقيا كما يظن، بل عملاقٌ ديموغرافي يتجاوز عدد سكانه 230 مليون نسمة، يشكّل المسلمون نحو 53% منهم، والمسيحيون قرابة 40%، فيما تتوزع النسبة الباقية بين دياناتٍ إفريقيةٍ محليةٍ ومعتقداتٍ تقليدية.
إنّ ترمب يُعيد التاريخ من ذاكرةٍ ظنّ العالم أنّها طُويت. فقد قامت أمريكا على إبادة الهنود الحمر، السكان الأصليين، واستعباد الأفارقة واسترقاقهم وسلبهم حقّهم في الحياة، لتُبنى على جماجمهم إمبراطوريةٌ تحكم العالم. والتاريخ يشهد: ملايين الأفارقة اقتيدوا بالسلاسل إلى المزارع في العالم الجديد لتُشيَّد على عرقهم ودمهم الثروات الأولى للولايات المتحدة، فيما قُطّعت أوصال دولٍ كاملة من أجل الذهب والمطاط والنحاس، وأُبيدت شعوبٌ بأكملها في الكونغو وناميبيا وجنوب إفريقيا. كان التاريخ كلّه دمًا مغسولًا بخطاب «الرجل الأبيض» المتلبّس بالدين، يشرعن القهر باسم «القدر الإلهي» و«الحضارة»، تمامًا كما فعلت الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في إسبانيا.

وما بُنيت عواصم الغرب إلا على عظام العبيد وعرق القارة السوداء، وها هو ترمب يُعيد إنتاج المنطق ذاته: سيّدٌ يعود إلى مسرحٍ لم يغادره أصلًا.

ما لم تستوعبه العواصم الغربية بعدُ، أنّ إفريقيا التي كانت تُصوَّر قرونًا كأرضٍ لا تُفكّر في استعمار العالم وتعيش في توازنٍ فريدٍ مع الطبيعة والمجتمع، لم تعد تلك القارة الساكنة في خيال المستعمر القديم. إفريقيا اليوم تقرأ تاريخها، وتستعيد وعيها، وتدرك أنّ من نهبها وجرّدها من أبنائها لم يكن يحمل رسالةَ حضارة، بل جشعَ إمبراطورياتٍ رأت في الإنسان الأفريقي وسيلةً، وفي ثرواته مادةَ صعودها. وما تُظهره الصين وروسيا في القارة ليس حبًّا بريئًا بقدر ما هو إدراكٌ لطبيعة التحوّل: لقد فهم الطرفان أنّ مركز العالم يُعاد رسمه، وأنّ القارة التي كانت تُستدعى كحديقةِ معادن أصبحت لاعبًا يُستدعى للحساب الاستراتيجي لا للزينة الأخلاقية.

من تجارة الرقّ التي استعبدت أبناءها واقتلعت أجيالًا من جذورها، إلى مؤتمر فيينا الذي تجاهل وجود إفريقيا أصلًا، ثم مؤتمر برلين الذي قسّمها كما تُقسَّم الغنائم، ظلّ الحضور الغربي عنوانَ استغلالٍ لا إصلاح. كانت المعادلة دائمًا واحدة: الدمّ مقابل المعادن ـ المطاط لآلات الثورة الصناعية، الذهب لمدن أوروبا، النحاس والحديد لجيوشها ومصانعها. وسقط الملايين في الكونغو وناميبيا وجنوب إفريقيا تحت سياط الحاجة الصناعية، لا تحت رايةٍ أخلاقية.

لكنّ التاريخ يأبى أن يسير في خطٍّ واحد؛ تحرّر جنوب إفريقيا من نظامها العنصري، وإعادة بناء رواندا الجديدة بعد مأساتها، وما أفرزته الثورة في تونس مرورًا ببوركينا فاسو، وتتحرّر من وصايةٍ غربيةٍ طال أمدها.

واليوم، حين يتحدّث بعض صُنّاع القرار في الغرب عن التدخل باسم «حماية الأقليات» أو «الحرية الدينية»، تدرك إفريقيا أنّ أبواب الجحيم التي كُتبت عليها شعارات الفضيلة ما هي في حقيقتها إلّا إرادةُ سيطرةٍ على الموارد، وتحكّمٌ في الممرّات البحرية، وضمانٌ لأن يبقى مركز العالم في الشمال لا في الجنوب. وما انحسارُ الظلّ الفرنسي في الساحل، وصعودُ محور واغادوغو–باماكو–نيامي، إلّا برهانٌ على أنّ إفريقيا بدأت تقول كلمتها، وأنّ زمن المكاتب الأوروبية التي كانت ترسم الحدود وتملي السيادة قد انتهى، وأنّ مستقبل إفريقيا هذه المرة يُكتب من عواصمها، لا من خارجها.

ولم يعد السؤال عن نوايا دونالد ترمب ترفًا سياسيًا أو جدلًا إعلاميًا، بل أصبح ضرورةً لفهم مستقبل النظام الدولي خلال السنوات القادمة. فالرجل الذي أشعل شرارة «الحروب الجمركية» ضد العالم، وفتح جبهات صراع اقتصادي مع حلفائه قبل خصومه، لا يبدو منشغلًا بإطفاء توترات العالم بقدر ما يبدو ميّالًا إلى إعادة رسم موازين القوى فيه.

إنّ ترمب يُعيد التاريخ من ذاكرةٍ ظنّ العالم أنّها طُويت. فقد قامت أمريكا على إبادة الهنود الحمر، السكان الأصليين، واستعباد الأفارقة واسترقاقهم وسلبهم حقّهم في الحياة، لتُبنى على جماجمهم إمبراطوريةٌ تحكم العالم.
ومن هنا يبرز السؤال الجوهري الذي لم يعد ممكنًا تجاهله: هل يسعى ترمب حقًا إلى عالمٍ أكثر استقرارًا، أم أنّه بطبعه الممثل–المصارع يستطيب أن تُستفز الخرائط وتعود إلى منطق الحروب وتأثيثها؟

فمنذ تولّيه الرئاسة في ولايته الأولى وعودته إلى الحكم اليوم، لم يُظهر دونالد ترمب توجهًا نحو تعزيز النظام الدولي أو دعم مؤسساته، بل انحاز إلى مقاربة قائمة على الانفراد بالقرار وإعادة تعريف القوة بوصفها امتيازًا أصيلًا للأقوى. فالدولة الحديثة تقوم على التراكم والإصلاح المتدرّج وتعزيز ما بُني سابقًا، بينما انتهج ترمب مسارًا مناقضًا يقوم على تفكيك ما تعتبره المؤسسات الأميركية رصيدًا استراتيجيًا راكمته عبر عقود.

وقد همّش خلال ولايته مؤسسات وأجهزة ظلّت لعقود تضطلع بحماية المصالح الأميركية في الخارج، وفضّل استبدال منطق الشراكة بمنطق الصراع والضغط المباشر، مقاربًا السياسة الدولية بعقلية المنافسة الاستعراضية لا بعقلية إدارة دولة. فترامب لا يتعامل مع الصراع بوصفه إدارةً للعلاقات الدولية، بل باعتباره مواجهةً شخصية تُحسم بالقوة لا بالتوازن، وكأنّ العالم امتدادٌ لحلبةٍ لا مجال فيها للتسويات بل للضربات القاضية.

وفي الشرق الأوسط، ظهر النمط ذاته بوضوح؛ إذ لجأ ترمب إلى حملات جمع الأموال في الخليج تحت شعار «الحماية من الخطر»، بأسلوبٍ اتسم بالتعالي وابتزاز رمزي للقوة مقابل المال، وكأنّ الأمن الإقليمي سلعة تُشترى لا منظومة تُبنى على الشراكات والتوازنات. ثم مضى في الاتجاه نفسه حين وقف بلا التباس إلى جانب إسرائيل خلال عدوانها على غزة، مانحًا إياها غطاءً سياسيًا غير مشروط، رغم إدانة محكمة العدل الدولية لما اعتُبر جريمة تطهير عرقي بحق المدنيين هناك.

فلم تُحسم المعادلة في فنزويلا، ولم تنكسر مقاومة غزة، ولم تتراجع قدرة إيران على الردع، ولم تُعد هندسة الأمن الخليجي على النحو الذي سعى إليه ترمب. وبدت الولايات المتحدة، بدلًا من بسط نفوذ مطلق، أمام معادلة استنزاف وتآكل نسبي في قدرتها على فرض الإيقاع الدولي منفردة. هنا اتضح أنّ مرحلة التفوق الأحادي تتآكل تدريجيًا، وأنّ «الضربات الخاطفة والاستكبارية» لم تحقق أثرًا بنيويًا. ومع انحسار فاعلية أدوات الضغط في فنزويلا، وتنامي كلفة الانخراط العسكري والسياسي في جبهات غزة وإيران، أصبحت الحسابات في دوائر صنع القرار الأميركية تميل إلى البحث عن ساحات أكثر ليونة، يُظَنّ أنّها أقل قدرة على فرض انضباط استراتيجي أو بناء منظومات ردع صلبة، بما يتيح استعادة زمام المبادرة وإظهار القوة بأقل كلفة ممكنة في بيئة دولية تتغير قواعدها بسرعة.

وهنا انفتحت عينُه على إفريقيا، كأنّها الحلقة الرخوة في عنق العالم، يرى أنّ النفوذ المنفلت يستطيع أن يستعيد أنيابه فوق أرضها بأيسر كلفة وأوضح استعراض.

لن ينهار الغرب لضعيفه، بل لأنه فقد بوصلة العدل والتوازن، واستبدل مبدأ الشراكة بمبدأ الاستحواذ، وفضّل المحافظة على الهيمنة ولو على أنقاض العالم. والتاريخ لا يعاقب القوي حين يخطئ، بل حين يصرّ على الوهم؛ ووهم التفوق حين يسرف أصحابه في اعتناقه يتحول إلى باب السقوط.
ما لم يفقه ترمب ومن معه أنّ تدخّله الصارخ في السياسة الداخلية للولايات المتحدة، من محاولة فرض الحرس الوطني على ولاياتٍ رفضت سلطته الفدرالية ـكما جرى في كاليفورنيا أثناء احتجاجات الهجرة، وفي إلينوي وأوريغون حين أُرسل الجنود بذريعة ضبط الأمن رغم اعتراض الحكام ـليس إلا مؤشرًا على نزعةٍ ترى الدولة حلبة قتال لا منظومة مؤسسات. ثم يأتي صعود أصوات جديدة مثل زهراون في نيويورك داخل الحزب الديمقراطي ليعكس اهتزاز العمود الفقري للولايات المتحدة من الداخل؛ فجيلٌ يطالب بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية يقف في مواجهة جيلٍ يريد إعادة أميركا إلى منطق الهيمنة العضلية. عندها لا يبدو الاستقطاب الأميركي أزمة انتخابات فحسب، بل إرهاصة زلزالٍ حضاري يهدد بنية الإمبراطورية من جذورها، ومآلات قد تجعل الولايات المتحدة نفسها تدخل في مسار التشقق والانقسام.

أمّا خارج أمريكا، فإنّ خصوماته المفتوحة مع الحلفاء قبل الخصوم ـبل حتى مع الشريك الأطلسي التاريخي ـتكشف رؤيةً لا تذهب نحو إصلاح النظام الدولي بل نحو تفكيكه، وتجرّ الغرب إلى لحظة انكماش استراتيجي غير مسبوقة، حيث تتراجع الثقة، وتنكمش المبادرات، ويتحوّل الحليف إلى عبء، والمنظومة إلى قيد، والمؤسسات الدولية إلى هياكل بلا أسنان. وعند تلك اللحظة، لن تتداعى الموازنات فقط، بل الرموز أيضًا؛ ستفقد الأمم المتحدة مكانتها كمرجعية، ويتهاوى إطار القانون الدولي، ويتعثر مشروع الغرب الذي ظن نفسه قدر البشرية ومقياسها الأخلاقي

 الأكيد، لن ينهار الغرب لضعيفه، بل لأنه فقد بوصلة العدل والتوازن، واستبدل مبدأ الشراكة بمبدأ الاستحواذ، وفضّل المحافظة على الهيمنة ولو على أنقاض العالم. والتاريخ لا يعاقب القوي حين يخطئ، بل حين يصرّ على الوهم؛ ووهم التفوق حين يسرف أصحابه في اعتناقه يتحول إلى باب السقوط.

وعندها، لا يُطوى فصل حضارة فقط، بل يُفتح فصل آخر، وتنهض قوة جديدة من قلب الركام، لأن الأرض لا تقبل الفراغ، ولأن عجلة العالم لا تتوقف عند ضجيج القوة، بل عند من يملك معناها وأخلاقها وقدرته على حمل مسؤوليتها. فإذا انطفأت أنوار مركزٍ واحد، أضاءت قارات أخرى، وتحوّلت الريادة إلى من يحسن العدل قبل السلاح، والبناء قبل السيطرة، والشراكة قبل الإخضاع. هكذا يولد العالم القادم، لا بالمصادفة، بل بحكم التاريخ حين يأتي أوانه.