أفكَار

حقوق الإنسان بعد الطوفان.. سقوط القناع عن أقدس شعارات الغرب

إنّ حقوق الإنسان كما نشأت في الغرب وكما هي مطبّقة اليوم عالميا لم تكن نشأتها من مصدر قيمي ديني أو إنساني..
تنشر عربي21، بالتزامن مع صفحة الباحث والمؤرخ التونسي الدكتور عبد المجيد النجار على "فيسبوك"، هذا النصّ الفكري العميق الذي يتناول فيه الدكتور النجار مصير شعار "حقوق الإنسان" بعد ما كشفته حرب الإبادة على غزة، أو ما اصطلح على تسميته بـ"طوفان الأقصى"، من زيف الشعارات الغربية ومحدودية إنسانيتها.

يراجع النجار في هذا المقال جذور فكرة "حقوق الإنسان" كما نشأت في السياق الغربي، وكيف تحوّلت من ميثاقٍ إنساني عالمي إلى أداة انتقائية تخدم الأقوياء، ويخلص إلى أن طوفان الأقصى لم يكن مجرد حدث عسكري أو سياسي، بل كان زلزالاً أخلاقياً وإنسانياً أسقط القناع عن أكبر أكذوبة روّجت لها الحضارة الغربية في العصر الحديث.

على مدى القرن الأخير على الأقلّ لم يحظ شعار أممي بعلوّ المقام ورفعة الصيت والشهرة بين الأنام مثلما حظي به شعار حقوق الإنسان، فقد سارت به الركبان، وانتشر بين البلدان، ونظّمت من أجله مؤتمرات البيان، وعقدت عليه المواثيق والعهود، وأصبح في العلاقات الدولية هو الميزان. وهو وإن كان فكرة تراود الناس ما قبل قرون إلا أنّه أصبح ميثاقا دوليا إثر الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن الماضي، وكان ذلك بسبب ما حدث في هاتين الحربين من فظائع انتُهكت فيها إنسانية الإنسان في مناطق الحرب بصفة غير مسبوقة من حيث الحجم على الأقلّ، إذ طال هذا الانتهاك قتلا وجرحا وعذابا مئات الملايين من البشر.

أولا ـ حقوق الإنسان في السياق الغربي

وتعني حقوق الإنسان بحسب مقتضيات العنوان حفظ الحقوق الطبيعية للإنسان بمقتضى إنسانيته: حق الحياة وحقّ الكرامة وحقّ الحرية وحقّ التنقّل وغيرها من الحقوق، والعمل على رعاية هذه الحقوق أن يتمتّع بها كلّ إنسان على أساس وحيد هو عنصر الإنسانية فيه، وعلى توفير أسبابها، وعلى الدفاع عنها عند انتهاكها من قِبل كل من يريد الاعتداء عليها. وبعدما كانت هذه الحقوق حلما تحمله شعوب الأرض كلّها أصبحت في منتصف القرن الماضي ميثاقا دوليا ملزما لكلّ من وقّع عليه ـ وقد وقّعت عليه كلّ الدول أو معظمها ـ ويقتضي هذا الإلزام تطبيق مضمون هذا الميثاق من الحقوق على النطاق الخاصّ للدول، وعلى النطاق الدولي العامّ، كما يقتضي النصرة للدفاع عنها في أيّ موقع انتُهكت فيه.

لمّا لم تكن حقوق الإنسان متأسّسة على أسس ثابتة من دين أو إنسانية فإنّها أصبحت تتأسّسس على توازن القوى بين المتعاملين على الساحة الدولية، فإذا كانت القوى الاجتماعية داخل المنتظم المجتمعي في الدولة الواحدة متوازنة، وإذا كانت القوى متوازنة على الصعيد الدولي تأسّس على ذلك التوازن حقوق الإنسان،
 وبالرغم مما كان يراود بعض الناس من توجّس في مصداقية هذا الشعار الكبير إيمانا به على ما يقتضيه عنوانه، وعملا به في الواقع الداخلي عند من هم أكثر حماسا لرفعه، وأقوى دعوة إليه ومحاسبة عليه، فإنّ شعار حقوق الإنسان لم يفقد بين الناس ما يحمله من أمل، ولم يفقد قوّة الجذب إليه، ولم يفقد على وجه العموم (قداسته) في النفوس، وظلّت الأمم والشعوب متعلّقة به كما هو مطروح في مواثيقه، وكما هو متداول في الأوساط العالمية، وكما هو ميزان توزن به الدول في تقدّمها وتأخّرها، وتوزن به أحيانا العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول.

غير أنّ ذلك التوجّس الذي كان يراود بعض الناس ما فتئ ينمو في الضمائر شيئا فشيئا بما يصدّقه من أحداث تقع في العالم، ولا يتعامل معها كبار من يرفعون هذا الشعار الذين نشأ بينهم وروّجوا له حتى أصبح ميثاقا عالميا وهم أهل الغرب عموما، فالكثير من المظالم التي يرتكبها هؤلاء أو يباركون من يقوم بها تُنتهك فيها حقوق الإنسان انتهاكا على نطاق واسع، ولكن هؤلاء لا يبالون كثيرا بهذه الانتهاكات، ولا يدافعون عن هذه الحقوق أن يُعتدى عليها، بل قد يناصرون من يقترفونها  أو يغمضون العين عنهم في انتهاكهم إياها، وخاصّة عندما يكون انتهاك حقوق الإنسان مسلّطا على ذوي الأديان المخالفة لدين أهل الغرب، أو على الشعوب الضعيفة المحافظة، أو على الجماعات التي تعارض مصالحهم.

وقد أصبح هذا التوجّس المتنامي في مصداقية حقوق الإنسان كما ينادي بها أهل الغرب ومن شايعهم يقينا بأن لا مصداقية لهذا الشعار الذي لا يعلو عليه شعار منذ أكثر من قرن، وذلك كما عرّاه حدث طوفان الأقصى، حينما محيت من على وجه الأرض مدن بأكملها في قطعة صغيرة من الأرض تسمى غزّة، وحينما دُكّت المباني دكّا على رؤوس مليونين ونصف من الناس رجالا ونساء أطفالا ونساء شبابا وشيوخا، فقضى عشرات الآلاف، بعضهم بقي تحت الأنقاض بعد عامين من هذا الهول، وحينما قُطعت سبل الحياة على هذين المليونين ونصف من الناس مأكلا ومشربا وملبسا ودواء، وكلّ هذا بتزكية من الذين يرفعون شعار حقوق الإنسان، بل بعون منهم تزويدا بأسباب الموت آلافا مؤلّفة من المتفجّرات المدمّرة.

ثانيا ـ طوفان الأقصى يكشف الزيف

إنّ أحداث طوفان الأقصى كما شاهدها العالم كلّه أصبحت شهادة قاطعة على أنّ حقوق الإنسان كما طرحها أصحابها وهم أهل الغرب، وكما تقتضيه صياغة عنوانها ليست إلا أكذوبة كبرى لعلّها أكبر أكذوبة رُوّج لها في العصر الحديث.

لقد رُوّجت في هذا العصر أكاذيب كبرى في العلاقات بين الدول والأمم والشعوب من مثل أكذوبة "الحماية" التي لم تكن إلا استعمارا استُعبدت فيه الشعوب ونهبت فيه ثرواتها، وأكذوبة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن إلا احتكارا لهذا السلاح من قبل الأقوياء ومنعه على الضعفاء لضمان الهيمنة المطلقة، وأكذوبة نشر الأمن في العالم عبر ما سُمّي بمجلس الأمن التي لم تكن إلا هيمنة لخمسة من أقوياء العالم يقرّرون في الأمن ما يناسب مصالحهم ويمنعون بالفيتو ما لا يناسبهم، غير أنّ أكذوبة حقوق الإنسان هي الأكذوبة المدوّية التي تصدّرت هذه الأكاذيب، لكثرة ما أُنفق عليها من الترويج، ولكثرة ما علّق عليها من الآمال.

إنّ نسبة هذه الحقوق إلى الإنسان تقتضي أن تكون حقوقا للإنسان بمقتضى إنسانيته، وبقطع النظر عن العوارض التي تعرض لها من عرق ولون وجنس ودين وغير ذلك من العوارض، ولكنّ محكّ الواقع كشف عن زيف هذا الادّعاء، إذ كانت هذه الحقوق إنما هي حقوق الرجل الأبيض أو إنسان الشمال ، ولو صيغ الشعار على هذا النحو لكان فيه بعض الصدق، أما باقي الأمم والشعوب من ذوي الألوان والأعراق والأديان المغايرة فإنّ هذه الحقوق لا يناله منها شيء إلا قليلا، ولا يهبّ لنصرتها في هذه الحقوق أحد إلا أن يكون رياء، أو تبييتا لمصلحة منتظرة. بل إنّها ليست حقوقا للرجل الأبيض الشمالي بهذا التعميم، وإنما هي حقوق للأقوياء من هذا الرجل الأبيض، أمّا الضعفاء منهم فإنّ حقوقهم منتهكة مثل غيرهم من الضعفاء، وشاهد ذلك أنّ النازيين والفاشيين حينما أنسوا من أنفسهم القوّة، وتهيّأ لهم أنّهم لا يطالهم في القوّة طائل كرّوا على الرجل الأبيض في أوروبا بحربين عالميتين انتهكت فيهما حقوق الإنسان على أوسط نطاق، فهذا الشعار الكبير إنما يكون صادقا لو صيغ بصياغة "حقوق الرجل الأبيض القوي"، أما صياغته بحقوق الإنسان فهو الأكذوبة الكبرى، بل لعلّها تكون من البهتان العظيم، وذلك بشهادة أحداث الواقع المتواترة وعلى رأسها أحداث طوفان الأقصى.

ثالثا ـ شواهد الزيف في حقوق الإنسان في سياقها الغربي

إنما كان هذا الانطلاء لزيف حقوق الإنسان على الناس عجبا لأنّ الأدلّة ظاهرة وكثيرة على أنّ هذا الشعار منسوبا إلى من اخترعه وروّجه وهم أهل الغرب يحمل في ذاته شواهد زيفه، وهي شواهد عديدة لعلّ من أهمّها.

1  ـ تحرّك الضمير الأوروبي ليقنّن حقوق الإنسان في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان إثر الحرب العالمية الثانية وقبلها الحرب العالمية الأولى لما وقع في هذين الحربين من انتهاك فظيع لحقوق الإنسان، إذ قُتل فيهما وجرح وعُذّب ونهبت أموال مئات الملايين، فتوافق المنخرطون في الأمم المتحدة وبالأخص منهم الدول الأوروبية على إنجاز هذا الميثاق عسى أن يكون على الأقلّ مخفّفا من الاعتداء على حقوق الإنسان مستقبلا، وخاصّة تلك التي تنتهك خلال الحروب. فقد نشأ إذن هذا الميثاق لحقوق الإنسان في هذا الظرف المعيّن المتمثّل في انتهاك حقوق الإنسان الذي وقع في الحرب بين الأوروبيين في الحربين العالميتين.

إنّ أحداث طوفان الأقصى كما شاهدها العالم كلّه أصبحت شهادة قاطعة على أنّ حقوق الإنسان كما طرحها أصحابها وهم أهل الغرب، وكما تقتضيه صياغة عنوانها ليست إلا أكذوبة كبرى لعلّها أكبر أكذوبة رُوّج لها في العصر الحديث.
لقد ارتُكبت قبل هذه الفظائع فظائع أخرى انتهكت فيها حقوق الإنسان بما هو أشدّ من حيث الكيف مما ارتكب في الحربين العالميتين. ونذكر من ذلك على سبيل المثال عشرات الملايين من العبيد الذين استجلبتهم أمريكا من إفريقيا، وقضى الكثير منهم في رحلة البحر أو تحت سياط التعذيب في مأساة إنسانية مشهودة. ونذكر أيضا ما ارتكبه الاستعمار الفرنسي في الجزائر من فظائع وصلت إلى حدّ إحراق عشائر بأكملها في مخابئهم بكهوف الجبال، وقتل خمسة وأربعين ألفا في يوم واحد في مدينة سطيف، فلماذا لم يعلن آنذاك ميثاق لحقوق الإنسان؟

إنما أعلن الميثاق إثر انتهاك حقوق الإنسان الأبيض الشمالي في أوروبا، ولم يؤبه بانتهاك حقوق الإنسان الأسمر الجنوبي في إفريقيا، فقد تأسّست إذن حقوق الإنسان على حقوق الإنسان الأبيض القوي وليس على أساس حقوق الإنسان بمقتضى إنسانيه بقطع النظر عمّا يعرض لتلك الإنسانية من عوارض، وهذا ما تعزّزه أحداث اليوم الجارية في العالم، فإذا انتهكت حقوق الإنسان الأبيض في أيّ مكان تقوم الدنيا ولا تقعد، وتكون النصرة بجميع وسائلها، وإذا ما انتهكت حقوق الإنسان من غير الإنسان الأبيض لا يؤبه بذلك كثيرا، وقصارى ما يكون الاستنكار، بل قد تكون المشاركة في ذلك الانتهاك وأحداث غزّة مثال على ذلك.

2 ـ في علاقة بما تقدم فإنّ حقوق الإنسان كما نشأت في الغرب وكما هي مطبّقة اليوم عالميا لم تكن نشأتها من مصدر قيمي ديني أو إنساني، فالدين قد أُخرج من الحياة العامّة منذ بعض قرون فلم يعد مصدرا إلا لقيم روحية في الشأن الفردي، أما تنظيم الحياة الاجتماعية فقد أُوكل إلى العقل المستقلّ، فلم يعد الدين إذن مصدرا للقيم التي تنظّم الحياة الاجتماعية ومنها قيم حقوق الإنسان. أمّا منطلق الإنسانية الذي ترتكز عليه القيم كأساس ثابت فقد أتت عليه النزعة المادّية التي عمّت العالم الغربي منذ قرنين أو ثلاثة، فأصبح الإنسان يُرى مجرّد بعد مادّي، وضعفت كثيرا النظرة إليه في حقيقته الإنسانية القائمة على أبعاده الروحية.

ولمّا لم تكن حقوق الإنسان متأسّسة على أسس ثابتة من دين أو إنسانية فإنّها أصبحت تتأسّسس على توازن القوى بين المتعاملين على الساحة الدولية، فإذا كانت القوى الاجتماعية داخل المنتظم المجتمعي في الدولة الواحدة متوازنة، وإذا كانت القوى متوازنة على الصعيد الدولي تأسّس على ذلك التوازن حقوق الإنسان، فإذا ما انخرم ذلك التوازن انخرمت معه هذه الحقوق فلم تعد قائمة. هكذا كان منشأ هذه الحقوق عندما تكافأت القوى المجتمعية في الدولة الأوروبية العمال وأرباب العمل، والدولة والمجتمع، وعندما تكافأت القوى الدولية الأوروبية بعد عهود من الحروب لم يستطع فيها طرف أن يلغي طرفا آخر، فمن هذا التكافؤ نشأت حقوق الإنسان فكرة في أول الأمر ثم ميثاقا دوليا بعد ذلك، ولم تنشأ من احترام قيمة الإنسان بمقتضى إنسانيته.