أفكَار

ما جمعته يد الرحمن بالإسلام والعربية لا تفرقه يد الشيطان بالردة العنصرية!

مثلما أن الإسلام ليس حكرا على العرب فالعربية هي كذلك لغة كل المسلمين في العالم إلا من أبى أن يكون من قوم محمد!! (الأناضول)
يواصل الكاتب والباحث الجزائري الدكتور أحمد بن نعمان، في سلسلة مقالاته الخاصة بـ"عربي21"، التعمق في دراسة حضور اللغة العربية في منطقة المغرب الكبير، واستكشاف أبعاد انتشارها ودورها في توحيد شعوب هذه الرقعة الجغرافية ذات التاريخ المشترك والتنوع الثقافي الغني.

وتأتي بحوث الدكتور بن نعمان حول عروبة المنطقة المغاربية في سياق لا تزال فيه أصوات الهويات الأمازيغية تتعالى، مدعومة أحيانًا من قوى نافذة داخل دوائر الحكم، ما يجعل من هذا الطرح مادة للنقاش العلمي والفكري المتجدد بشأن هوية المنطقة ومساراتها المستقبلية.

وفي هذا الإطار، يعرض في هذه المقالة جوانب جديدة من هذا المسار الحضاري، مبرزًا التحديات والفرص التي تواجه مساعي ترسيخ العربية لغة جامعة وموحِّدة في المنطقة.



                                                                      أحمد بن نعمان

إنه من نافلة القول أن نؤكد هنا بأنه مثلما أثبتنا بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف في كل البلاد المغربية لأنه أتى محررا  للسكان من قبضة الرومان، فكذلك الأمر بالنسبة لانتشار لسان القرآن مع دينه وكتابه المحفوظ في الصدور فبل  السطور. ولو كان الأمر عكس ذلك  لما زالت المسيحية واللا تينية من هذه البلاد وبقي الإسلام وحده راسخا في الواقع مع لسان القرآن إلى يومنا هذا في كل هذه البلدان رغم عودة وقوعها من جديد تحت سيطرة المسيحيين والإسبان والإيطاليين الذين لم يتركوا أثرا مقبولا من الشعب يذكر لهم   خارج  الإدارة الرسمية للاحتلال طوال سنوات وجوده.

وقد كان من المفروض أن يعود الشعب للغة الرومان والفرنسيين والإسبان بعد زوال الاحتلال ورفع يده عن التحكم في إدارة  البلاد والعباد الذي دام عدة قرون في المرة الأولى والثانية ولكن ذلك لم يحدث لأن الشعب ظل يرفض رموز الاحتلال (دينا ولسانا) في كلتا المرتين والحالتين وذلك خلافا للإسلام ولسان القرآن اللذين دخلا إلى البلاد المغربية بكيفية إرادية وعفوية مع الفاتحين الأول وبقيا راسخين عبر القرون ومتجذرين في أعماق الأرض كجبال الأطلسين الراسيات الشامخات.

"مرحلة تاريخية كان لها أثر كبير في تعريب المغرب وهي وجود الأدارسة من أحفاد علي بن أبي طالب، وإنشاؤهم دولة مغربية عربية بربرية في قلب المغرب، وبناؤهم لمدينة كان لها شأن كبير في تاريخ المغرب السياسي والحضاري والثقافي وهي مدينة فاس".
وعن بداية ذلك الفتح المبين بالنسبة لانتشار لسان البيان في هذه البلاد عبر الزمان والمكان حتى الآن، يقول الباحث المغربي الأستاذ عبد الكريم غلاب: "مرحلة تاريخية كان لها أثر كبير في تعريب المغرب وهي وجود الأدارسة من أحفاد علي بن أبي طالب، وإنشاؤهم دولة مغربية عربية بربرية في قلب المغرب، وبناؤهم لمدينة كان لها شأن كبير في تاريخ المغرب السياسي والحضاري والثقافي وهي مدينة فاس".

كان ذلك حينما فر إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب من العباسيين إلى المغرب بعد انهزام أخيه محمد النفس الزكية سنة 172هـ / 788م، وكانت شخصية إدريس قادرة على استنفار عدد من المهاجرين العرب ليكونوا بجانبه بالإضافة إلى البربر (مستعربين وغير مستعربين)، وقد استطاع أن ينشر الإسلام، ومعه العربية، في مختلف إقليم المغرب ما بين تلمسان شرقا ـ التي كانت تابعة في كثير من فترات التاريخ للمغرب ـ حتى إقليم سوس جنوبا.

وإذا كانت سلطة الدولة العباسية قد استطاعت أن تغتاله، فقد أكمل رسالته ابنه إدريس الثاني الذي أسس مدينة فاس سنة 192هـ / 808م، واستقبل فيها كثيرًا من القبائل العربية. وفي العهد الإدريسي بدأ وجه المغرب واضحًا لا في الدولة فحسب، ولكن كذلك في المجتمع الذي تعرّب، وانتشرت فيه الثقافة العربية الإسلامية وأخذ يؤسس مراكز العلم كجامع القرويين التي تطورت فيما بعد إلى جامعة أشرفت على الثقافة والعلم في الجناح الغربي من الوطن العربي أكثر من ألف ومائة سنة.

وحينما نذكر هذه الجامعة (التي يصفها كثير من المستشرقين بأنها أول جامعة في العالم) نستشرف لمرحلة مهمة من مساهمة المغرب في الثقافة العربية التي لا تقتصر على ما يمكن أن يسمى اليوم بالثقافة التقليدية.

واستطاع المغرب من خلال هذه المدارس المحافظة على التراث العربي الإسلامي طيلة أحد عشر قرنا، وساعد على ذلك أن المغرب من بين البلاد القليلة التي لم تنحدر فيها الثقافة بفعل حملات المغول وحملات الصليبيين المدمرة التي لم تصل إلى المغرب، ولا بفعل الفتح العثماني الذي شمل البلاد العربية جميعها وتوقف عند حدود المغرب".

ويلخص هذا التفاعل والتماثل والانصهار الرباني الواقع بتدبير العلي القدير على أيدي الفاتحين والسكان الأصليين بعد إسلامهم الصادق الذي حقق الأخوة بين الجميع في الدين، وأصبح أكرم الناس وأشرفهم أتقاهم وأخلصهم وأفقههم في الدين وليس أغناهم وأذكاهم وأكثرهم جاها ومالا وولدا، وذلك ما يؤكده الباحث الأستاذ الحسن فرداوسن بقوله: "أما إذا أردنا الحديث عن العروبة والأمازيغية والإسلام، فهذا يتم في إطار واحد يضع الأمور في نصابها: وهو أن العربية أتت مع الفتوحات الإسلامية، ولم تأت عن طريق شعوب عربية استقرت في شمال إفريقيا، إذن، العربية كأداة للاتصال والإسلام كديانة كونية..".

وعن هذا الانتشار السلمي للإسلام واللغة العربية، وكذا التعايش والتكامل اللغوي المثالي بين اللغة العربية واللغات المحلية في البلاد المغربية المسلمة العربية، يقول الباحث المغربي عبد الحق المريني: "فبدخول الإسلام إلى المغرب وانتشاره عبر سهوله وهضابه وجباله، تبنى سكان المغرب الأصليون بعد اعتناقهم الدين الإسلامي هذه اللغة العربية لغة الإسلام ولغة كتابه المبين، وقاموا بتعلمها وتعليمها، دون أن يهملوا لهجاتهم المحلية الأصلية التي يتحدثون بها فيما بينهم وفي وسطهم العائلي، والجدير بالإشارة أنه قد وقع (من خلال التعايش الوطني والمبادلات المثمرة بين مختلف سكان مناطق المغرب) تبادل التأثير والتأثر بين اللغة العربية والدارجة المغربية واللهجات الأمازيغية عبر عصور المغرب، كما وقع تأثر الدارجة المغربية بمفردات إسبانية وفرنسية في عهد الحماية، وقد سجل المؤرخون أن تعريب المغرب على مختلف عصوره وقع بسهولة ويسر دون منازع يذكر ودون محاولة إقصاء اللهجات المحلية، وذلك لالتحام الشعوب العربية بالشعوب الأمازيغية، الشيء الذي لم يقع في شبه الجزيرة الهندية مثلاً، وهذا هو السبب الأساسي لكون اللهجات الأمازيغية لم تنقرض في المغرب وبقيت متداولة بين أهلها "فالريفية" ما زالت تستعمل من قبائل عمارة إلى بني زناسن عبر الريف، والأمازيغية، تشمل الأطلس المتوسط ودرعة وتيفيلالت، و"تشلحيت" ما زالت منتشرة بين سكان الأطلس الكبير وسوس إلى الصويرة، هذه حقيقة لا سبيل إلى نكرانها، مما يدل على على الثقافة والعلم في الجناح الغربي من الوطن العربي أكثر من ألف ومائة سنة.
وحينما نذكر هذه الجامعة (التي يصفها كثير من المستشرقين بأنها أول جامعة في العالم) نستشرف لمرحلة مهمة من مساهمة المغرب في الثقافة العربية التي لا تقتصر على ما يمكن أن يسمى اليوم بالثقافة التقليدية.
واستطاع المغرب من خلال هذه المدارس المحافظة على التراث العربي الإسلامي طيلة أحد عشر قرنا، وساعد على ذلك أن المغرب من بين البلاد القليلة التي لم تنحدر فيها الثقافة بفعل حملات المغول وحملات الصليبيين المدمرة التي لم تصل إلى المغرب، ولا بفعل الفتح العثماني الذي شمل البلاد العربية جميعها وتوقف عند حدود المغرب".

وعن دور البربر أنفسهم في نشر الإسلام واللغة العربية خارج بلدانهم ذاتها بعد إسلامها وتعريبها، يضيف  الباحث المغربي  نفسه  قوله: "ولا ننسى منطقة السودان (حوض النيجر والسنغال) حيث كانت الوثنية مترسخة...فعلى أيديهم (الامازيغ) أسلمت القبائل الأولى  من الزنوج حيث لا تزال  الصلوات الخمس تسمى إلى اليوم بأسمائها البربرية... بل من المؤرخين من يعتبرهم فاتحين حقيقيين، إذ لا يعقل أن يحقق هذا الانتشار الإسلامي بمضمونه الحضاري والعقائدي في رقعة جغرافية  شاسعة جيش محدود العدد واللوجستيك، بغض النظر عن أوضاعهم الصحية والاجتماعية وتقدم معظمهم في السن لولا انصهارهم في الكيان الامازيغي.. ومن نماذج المصاهرة الحضارية  الموفقة، نموذج  انصهار العرب و البربر معا في بوتقة  العقيدة الإسلامية". 

بدخول الإسلام إلى المغرب وانتشاره عبر سهوله وهضابه وجباله، تبنى سكان المغرب الأصليون بعد اعتناقهم الدين الإسلامي هذه اللغة العربية لغة الإسلام ولغة كتابه المبين، وقاموا بتعلمها وتعليمها، دون أن يهملوا لهجاتهم المحلية الأصلية التي يتحدثون بها فيما بينهم وفي وسطهم العائلي،
وتأكيدا لهذه العوامل الاجتماعية والدينية التي أدت إلى تعريب البربر يقول العلامة  الجزائري (القبائلي) الفضيل الورثيلاني  في شرحه للكيفية التي تعرب بها البربر في البلاد المغربية  في كتابه الجزائر الثائرة: "كان سكان المغرب العربي قبل دخول الرسالة الإسلامية العربية، بربرا لا خلاف في ذلك، ولا يهمني ما يذهب إليه بعض المؤرخين، من أن هؤلاء البربر أنفسهم، انما هم من اصل عربي، وانما الذي يهمني والذي لا شك فيه، ان اولئك البربر قد تعربوا جميعا بعد الهجرات العربية المتوالية على ديارهم..

أما أهم أسباب هذا التعريب فثلاثة: الدين، واللغة، والتزاوج وكان الدين أسبق الثلاثة إلى التحكم في مصير البربر، فلقد اعتنقوا الإسلام عن شوق وقناعة، وأحبوه من أعماق قلوبهم، واخلصوا لتعاليمه أشد الإخلاص، ثم أحبوا معه، ومن أجله كل ما صحبه من مقومات، أحبوا أهله العرب حبا لم يكن يخلو من الغلو، حتى كان البربري يرى أن الانصهار إلى العربي والتقرب منه، إنما هو شرف كبير له، بل هو في نظره ضرب من العبادة، والتقرب إلى الله، لأن هذا العربي في نظره، إنما هو رسول الله إليه، وإنه مجاهد في سبيل تبليغ رسالة الحق المقدسة، وإنه مرابط في الثغور، بعيدا عن أهله وعن وطنه، وإنه يفعل كل ذلك، في سبيل إعزاز كلمة الدين والحق، وفي سبيل نشر مبادئه السمحة الخالدة، وساعد على تسهيل التزاوج والاختلاط، أن حملة رسالة الإسلام الأول من العرب كانوا بدورهم يؤمنون بأن دينهم لا يفرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى، من هناك، شاع التزاوج بين العرب والبربر، وابتدأ منذ الفتح، وظل يتسع نطاقه حتى يوم الناس هذا، وقد مضى أربعة عشر قرنا على هذا التلقيح، لا يقف في طريقه واقف.!!"

وهكذا أصبح المجتمع الجزائري والمغاربي عموما ذا دين واحد ودولة واحدة ونظام سياسي واحد، ولغة واحدة للتعبير عن هذه الثقافة على إمتداد أربعة عشر قرنا من تاريخ البلاد.

وعن سهولة انتشار اللغة العربية في بلاد المغرب وعدم تمكن البربرية من التصارع معها، يقول الباحث العربي محمد حسن: " لم تكن (اللغة) البربرية؛ قادرة على الوقوف أمام لغة العرب الفاتحين، فقد كانت لغة شفوية أكثر منها كتابية، ولم تتخط في مستوى الكتابة المراحل الأولية من نشأتها، مما يفسر قلة النصوص التي وصلت إلينا بالبربرية وانحصارها في بعض النقوش المكتوبة التي وردت أحيانا بلغتين، سواء بالبربرية والفينيقية، أو البربرية واللاتينية. وقد عجز العلماء عن حل رموز هذه اللغة. وطبيعي ألا يحصل تكافؤ بين هذه اللغة المقسمة إلى عدة لهجات وبين اللغة العربية وهي في أوج فتوتها، وكان الحسم النهائي لصالح اللغة العربية حتى أن المعارضة البربرية اعتنقت المذهب الخارجي كإيديولوجية مناهضة للسلطة القائمة، ولكنها أقبلت على تعلم اللغة العربية كلغة للقرآن وللشريعة الإسلامية.

ومهما يكن من أمر فإن العربية عند وصولها إلى إفريقية وجدت أمامها لغة أخرى تصدت لها وتنافست معها، إنها اللغة اللاتينية. فكيف وقع هذا التفاعل بين اللغتين؟

لسبب واضح هو أن اللغة اللاتينية ليست اللغة الوطنية للبربر، ولم تؤد إلى ذوبان  الشخصية الوطنية التي سعت دائما إلى التخلص من الهيمنة الخارجية. ولم تكن عملية "الرومنة" سوى "نمر من ورق"، حيث لم يشمل إلا الفئات العليا المتعاملة مع الرومان، ومن الطبيعي أن يزول هذا الصرح الهش بسرعة التفاعل الإيجابي الذي وقع بين العروبة والإسلام من جهة والبربر من جهة أخرى، ونشير هنا إلى بعض التفسيرات الخرقاء التي التجأت إليها المدرسة التاريخية الاستعمارية، فتحدثت عن أزمة ضمير وخطأ ندم عليه البربر.. إلخ، والحقيقة أنها كانت ظاهرة تاريخية طبيعية تفسرها عوامل موضوعية عدة.

على أن اندثار اللغة الرومانية وقع بطريقة تدريجية إذ استمر التعامل بها حتى أواخر القرن الأول سواء في الإدارة أو في ضرب النقود، وقد عثر على دينار ضرب في عهد موسى بن النصير (78 - 96 هـ/697 - 714م) نقش عليه بالأحرف اللاتينية "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا شريك له، ضرب الدينار بإفريقية موسى بن (فيليوس) نصير". ولم تتعرب الإدارة  نهائيا إلا بعد تعريب عبد الملك بن مروان (65 - 86هـ/ 685 -705م) لها، وبهذا أصبحت هذه اللغة رسمية لا في المشرق فقط وإنما كذلك في بلاد المغرب، مما يفسر إقبال البربر والأفارقة والروم على تعلمها لغايات متعددة، منها رفع مكانتهم الاجتماعية والمشاركة في العمل السياسي والإداري وتقليد الفئات العليا الارستقراطية العربية التي  حرصت على استعمال اللغة الفصحى كظاهرة تمايز اجتماعي، بينما استعمل  المستغربون وبقية العرب اللغة العامية وتمكنوا أحيانا من اتقان اللغة العربية، لكن نطقهم تشوبه اللكنة".

كان البربري يرى أن الانصهار إلى العربي والتقرب منه، إنما هو شرف كبير له، بل هو في نظره ضرب من العبادة، والتقرب إلى الله، لأن هذا العربي في نظره، إنما هو رسول الله إليه، وإنه مجاهد في سبيل تبليغ رسالة الحق المقدسة، وإنه مرابط في الثغور، بعيدا عن أهله وعن وطنه، وإنه يفعل كل ذلك، في سبيل إعزاز كلمة الدين والحق، وفي سبيل نشر مبادئه السمحة الخالدة، وساعد على تسهيل التزاوج والاختلاط، أن حملة رسالة الإسلام الأول من العرب كانوا بدورهم يؤمنون بأن دينهم لا يفرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى
وعن كيفية تعرب تونس والجزائر، يقول محمد حسن في البحث نفسه: "كانت القيروان بحق (أم  القرى) التي انطلقت منها حركة التعريب اللغوي والثقافي في بلاد المغرب، وقد تعدى إشعاعها الثقافي إفريقية ليصل إلى المغرب الأقصى والأندلس وصقلية، مما جعل الوفود ترحل إليها من هذه الأماكن النائية طلبا للمعرفة، ومما سهل عملية المثاقفة بهذه المدن هو حضور العامل البشري بها، وإن كان معظم العرب استقروا في القيروان، فإن مجموعات منهم تفرقت في بقية المدن والرباطات والحصون وخاصة المواقع الاستراتيجية الموجودة على طول الطريق الرابطة بين المشرق والمغرب، وكذلك في مناطق الثغور الحربية على طول الحدود الإفريقية، في بلاد نوميديا القديمة.

فسكنت بعض الجاليات العربية في أرباض برقة وتوالد الجند هناك حتى صار لهم الأولاد والأعقاب، وحرص العرب على المحافظة على مدينة طرابلس التي تربط المشرق بالمغرب، فاستقرت بها حامية عسكرية مهمة، مما أدى إلى مثاقفة تجاوزت حدود هذه الواحات وصلت إلى بلاد السودان التي تم إسلامها  ونشر اللغة العربية فيها عن طريق التجار الإباضيين خاصة. وشمل هذا التمازج البشري مدينة قابس، فكان أهلها أخلاطا من القبائل العربية والسكان الأصليين من بربر وأفارقة. كما استقرت فروع من ربيعة في مجانة وقوم من قريش من بني هاشم  في باجة...إلخ  وقد أشار اليعقوبي في كل هذه المواقع إلى اختلاط الجند العربي بالسكان الأصليين من بربر وأفارقة وهو أمر ينتج عنه حتما تعريب حضاري لهذه المدن.

هذا وقد شملت ظاهرة التمازج بقية مدن إفريقية مثل سوسة وصفاقس والمنستير والوطن القبلي وبنزرت وتونس، وهي كلها مدن قديمة سبقت نشأتها الفتح العربي. وكانت هذه العملية الحضارية أقل شأنا في مدن غرب إفريقية والمغرب الأوسط والأقصى، وقد وجدت بها مدن مستحدثة مثل المسيلة في العهد  الفاطمي وتاهرت من طرف عبد الرحمان بن رستم في القرن الثاني للهجري، وفاس من طرف الأدارسة وكذلك سجلماسة. كما استقرت جاليات عربية في المدن ذات المواقع المهمة سواء أكانت عسكرية أم تجارية، فكانت طبنة في العهد الأغلبي عاصمة لمنطقة الزاب".

وعن تعريب المغرب الأقصى، يقول الباحث محمد حسن: "تعتبر فاس المركز الأساسي الذي انطلقت منه هذه الحركة، وقد قام بتأسيسها إدريس بن عبد الله في أواخر القرن الثاني للهجرة، بعدما بايعته القبائل البربرية إماما، وكانت مصرا عربيا انفردت فيها كل مجموعة قبلية بخطة مستقلة، وقد ذكرت ضمن القبائل العربية قيس وزاد ويحصب ومذحج وصدف، وذلك علاوة على المجموعات العربية القادمة من القيروان والأندلس.

إن هذه الهجرة قد ساعدت كثيرا على  نشر اللغة العربية في هذه الربوع، زيادة على تدعيمها للسلطة العلوية الناشئة، وسرعان ما أصبحت فاس مدينة عربية كبرى تضاهي القيروان وقرطبة ابتداء من القرن الثالث، وكانت مركز إشعاع ثقافي مهم انطلقت منها حركة التعريب نحو المناطق المجاورة، ولا يخفى علينا أن هذه الحركة بقيت محدودة ومرتبطة بالمناطق السياسية الخاضعة لسلطة الأدارسة بصفة خاصة، وبالسلطة العلوية بصفة عامة حيث ظهرت مجموعة من الإمارات العلوية في الناظور شمال المغرب الأقصى، وكذلك في مدكرة وسوق إبراهيم ومتيجة في المغرب الأوسط، وقد كان المتزعمون لهذه المقاطعات من العرب أو من البربر المتعربين والمنتسبين إلى أصل عربي، وإلى جانب العامل السياسي والعسكري استقرت جاليات عربية في المدن الكبرى لغايات تجارية وساهمت في حركية التعريب، فاستقر التجار الأندلسيون في بونة وتاهرت ووهران وبني جلداسن، مدينة مطغرة... إلخ. كما سكنت جاليات من البصريين والكوفيين "عراق بلاد المغرب" وهي تاهرت، وسجلماسة ميناء الصحراء والمركز الأساسي لتجارة الذهب والرقيق".

ولم تقع المثاقفة في الأرياف والجبال فحسب، بل تسربت إلى القبائل البربرية المقيمة قرب الطريق الساحلية الرابطة بين المشرق والمغرب، وما انتساب لواتة إلى قيس عيلان ولخم، ومزاتة الأباضية إلى اليمن على غرار زعماء الأباضية بجهة طرابلس وهم عبد الجبار ثم أبو الخطاب المعافري، إلا دليل على بداية هضم هذه الثقافة الجديدة الوافدة منذ القرن الثالث.

وخلاصة القول: إن تعريب قرى ومداشر وواحات المغرب الأدنى القريب من المشرق جاء مبكرا ولم يتطلب وقتا طويلا، خاصة منها المناطق الساحلية أو الموجودة على طول طريق بلاد السودان. كما لعبت الأحزاب السياسية والمذاهب من خوارج وشيعة ومعتزلة أدوارا مهمة في تعريب الأرياف البعيدة عن مركزية القيروان. ذلك أن اعتناق البربر للإسلام الخارجي لم يكن يعني رفضا كاملا للتراث العربي ولا للغة القرآن، بل سعت هذه الحركات على العكس من ذلك إلى استيعاب المبادئ الأساسية للغة العربية منذ زمن مبكر، وقد كان ارتحال "حملة العلم" إلى المغرب وهم عاصم السدراتي وإسماعيل بن درار الغدامسي، وأبو داود القبلي النفزاوي، وقد وصل ثلاثتهم إلى البصرة حيث أخذوا من شيخ الأباضية أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي منذ بداية القرن الثاني الهجري، وقد أصبح لهم شأن كبير منذ رجوعهم إلى جهة طرابلس، ولا يخفى على أحد شهرة هذين الرجلين، إذ قاد الأول الثورة الأباضية ودخل القيروان سنة 140هـ، وتمكن الثاني من تأسيس مدينة تيهرت (بجنوب غرب الجزائر) وإنشاء الدولة الرسمية وهي المدينة التي سيكتب فيها ابن خلدون مقدمته لكتاب العبر بعد ثمانية قرون !!

إن هذا العمل السياسي كان شديد الارتباط بالعروبة الثقافية، إذ يعتبر هؤلاء الرجال النواة الأولى التي سعت إلى نشر الخط العربي في سدراته غدامس ونفزاوة وغيرها  من الأرياف المغربية، على أنه مهما كانت أهمية دور حملة العلم الخمسة، فإن الرحلة إلى المشرق لا تعتبر الحل الوحيد والأنجع لنشر اللسان والخط العربيين. وكان التعرض لقوافل الحجاج والتجار العرب طريقة لتعلم المبادئ الأولية للكتابة، وقد كان هذا دأب عمر بن يمكتن عامل أبي الخطاب المعارفي على السرت و"صاحب لواء لواتة"، وقد توفي مع أبي الخطاب في معركة تاورغا سنة 144هـ/761م".

وعن هذا التمازج والانصهار الثقافي واللغوي يقول الباحث العربي عز الدين المناصرة: "استقبل الأمازيغ في القرن السابع الميلادي، الفتح العربي، بالترحاب، ولم يمر سوى ربع قرن فقط على الفتح العربي، حتى صار الأمازيغ المسلمون، ينشرون العربية، ويساهمون في تطويرها، فأول من نظم قواعد النحو العربي في ألف بيت في القرن الثاني عشر الميلادي، هو إبن معطي الزواوي الأمازيغي، قبل قرن من ألفية إبن مالك، أما كتاب (الأجروميّة في النحو) فقد ألّفه أمازيغي، من المغرب الأوسط، هو (إبن أجروم، 1273-1323) وتوجد في الجزائر، ثلاث عشرة فئة أمازيغية، تمثل 20 % من الشعب الجزائري، أما الأمازيغية، فهي عربية في مخارج حروفها، وقد كتبت كلّ أدبياتها بالحرف العربي، وتشمل على حرف (الضاد) الذي يميزونه عن حرف(الظاء)، وقد سبق أن كتب السعيد الزاهري الجزائري عام 1934 في مجلة المقتطف المصرية،  الإسلامية عن طريق الصحابة والتابعين الذين اخذوا يفقهون الناس في قضايا الدين، والذين نشروا القرآن وتعاليمه، ونشروا المفاهيم الإسلامية الجديدة.

وكل هذه المجموعات التي تواردت على بلاد المغرب من هذه القبائل أثرت تأثيرا كبيرا في تعريب البلاد، وقد يكون للاختلاط أثر عكسي كذلك، فما نزال نجد أسماء عربية، تنتمي بعضها إلى الأشراف من بيت النبي ﷺ تقطن المناطق البربرية وتتحدث باللهجات البربرية المختلفة، وكل ذلك دلالة مهمة على التجاوب والامتزاج الذي حدث في البلاد المغربية بين الاخلاط البشرية المنحدرة من مختلف الأصول المنصهرة اجتماعيا في بوتقة الإسلام دينا والعربية لسانا جامعا لكل  المسلمين الذين ارسل اليهم نبي الإسلام للناس كافة وليس لعرب الحجاز وحدهم الذين لا يمثلون الانسبة قليلة جدا من مجموع المسلمين الناطقين بالعربية ( مشرقا ومغربا) والبالغين اليوم نصف مليار انسان  وغير الناطقين  بها  البالغ من المسلمين الذين  يناهز عدده الملياري نسمة في  العالم!!

ومثلما أن الإسلام ليس حكرا على العرب فالعربية هي كذلك لغة كل المسلمين في العالم إلا من أبى أن يكون من قوم محمد!!  لأن الله تعالى يخاطب كل المسلمين على لسان رسوله المبلغ رسلته لكل العالمين : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28/ سبأ)} ويقول أيضا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4/ إبراهيم}.

وبما أن القرآن هو الرسول الحي القائم والدائم إلى يوم القيامة فمعرفة العربية هي واجب على كل مسلم  ومسلمة بناء على قاعدة تقول (ما لا يقوم الواجب إلا به يعتبر واجبا) فوجب على كل المسلمين تعلم اللغة  العربية.. وفي هذا الإطار تعرب كل المسلمين الصادقين من مختلف الأجناس البشرية  بعيدا عن النزعات القومية والعنصرية التي تتناقض مع قول الله تعالى مخاطبا كل المسلمين: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) الأنبياء} وإن كل ما يؤدي إلى تحقيق هذه الوحدة بين أفراد الأمة الإسلامية الواحدة  يعتبر واجبا على كل مسلم صادق مؤمن سواء كان فردا في جماعة أو جماعة في أمة!!