الكتاب: موجز تاريخ الحرب
المؤلف: غوين داير
المترجمة: أراكة مشوّح
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
"على مدى ثلاثة
أرباع القرن، لم تخض أي قوة عظمى ضد أخرى حرب مواجهة، لذا فإننا أحرزنا أشواطا من
التقدم، إذ إنها أطول فترة من دون حرب خلال آلاف السنين الماضية، رغم أنهم قد
يشنون حروبا بالوكالة، أو يغيرون على بلاد صغيرة ومستضعفة، ومع ذلك فقد باتت
أسلحتهم فتاكة أكثر من ذي قبل إلى الدرجة التي تتجنب فيها تلك القوى مواجهة بعضها
بعضا في حرب مفتوحة".
بهذه الكلمات يفتتح غوين داير، المؤرخ
العسكري الكندي، كتابه الذي يدرس الحرب بوصفها عرفا وتقليدا سائدا بين الناس،
وبوصفها مؤسسة سياسية واجتماعية، ومعضلة يجب على البشر التعامل معها. وهو يقول أنه
على الرغم من انخفاض ضريبة الحرب منذ الحرب العالمية الثانية التي سجلت مقتل ما
يزيد على مليون شخص في كل شهر، لنصل اليوم إلى بضع مئات الآلاف من القتلى، فإن
الأسلحة لا تزال موجودة وهي أشد فتكا من ذي قبل، ولا تزال الدول تضع الخطط للحرب،
وميزانيات الدفاع في ارتفاع مضطرد، فالحرب "دائما خيار مطروح على الطاولة، من
قبل العسكريين والدبلوماسيين". ومن هنا فإن السؤال المركزي الذي يحاول داير
الإجابة عنه في كتابه هذا: لماذا نخوض
الحروب، وكيف نوقفها؟.
لماذا نخوض الحرب؟
يقول داير أنه بحسب المؤرخين وقعت أول معركة
بين جيشين حقيقين قبل 5500 عام في أرض سومر(العراق). وكانت الجيوش وقتها تحمل
الأسلحة ذاتها التي استخدمها الصيادون والمحاربون لقتل الحيوانات وقتل بعضهم بعضا،
مثل الرماح والسكاكين والفؤوس، وربما الأقواس والسهام. لكنه يشير أيضا إلى أن
علماء الآثار اكتشفوا في الخمسينات من القرن الماضي أول مدينة مسوّرة في العالم في
أريحا بنيت قبل عشرة آلاف عام.
على مدى قرون شهدت أساليب الحروب وأسلحتها تحسينات فرضتها تطورات اجتماعية واقتصادية، فعلى سبيل المثال" لم يكن أحد بحاجة إلى القوات البحرية حتى بدأت الحضارات بإنتاج بضائع مثل الحبوب والخمر والمعادن والخشب.. التي كانت ومازالت تنقل عن طريق البحر.. فتم إنجاز السفينة الحربية سريعا، وضمن تصميم قياسي نادرا ما تبدلت تقنيته على مدى آلاف السنوات".
وكانت جدران هذه المدينة ترتفع إلى ما يقارب
اثنى عشر قدما، يحيط بها خندق مائي تم نحته في الصخر بعمق عشرة أقدام، وتحيط به
عشرة فدادين من الأراضي، حيث عاش في هذه المدينة ما يزيد على ثلاثة آلاف شخص، وهو
الأمر الذي فُسّر على أن هذا المجتمع الزراعي كان يعيش في حالة تأهب عسكري للدفاع
عن نفسه وعن مدينته أمام مطامع الآخرين وهجماتهم، الذين كانوا غالبا من البدو
الناقمين على المجتمعات الزراعية المستقرة. إذ يغيرون عليها وينهبون ما يستطيعون
من الممتلكات الثمينة المحرومين منها.
ويشرح داير أن المجتمعات الزراعية لم تكن في
نظر البدو أكثر من مجرد مجموعة من الطرائد التي يمكن اقتناصها وقتلها دون أي تأنيب
للضمير. لذلك كان على أفراد هذه المجتمعات أن يتعلموا شيئا فشيئا ضرورة الانضباط
في معاركهم كمحاربين أمام هذه الغارات، وأن يتقنوا طرقا جديدة وفعالة في الحرب،
"ومن هنا بدأت خطورة المعركة، واكتسبت الحرب قوتها الفتاكة".
يحاول داير إذن فهم
أسباب النزاعات العسكرية
البشرية عبر التاريخ، التي تمحورت في جلها حول التنافس على الموارد والسيطرة
عليها، ويبيّن كيف تطورت طبيعة هذه الصراعات وأسبابها، وأساليبها وأدواتها أيضا مع
تطور المجتمعات البشرية، ويقول إن بدايات الحضارات التي بنت عالما جديدا من
المزارع والمدن والجيوش، حملت معها أيضا ابتكارات أساسية في الحروب، مثل الحصون
الضخمة، وآلات الحصار، والأقواس المركبة، ومركبات الأحصنة والفرسان، وكتائب
المشاة، فأصبحت كل هذه عناصر أساسية للحرب الكلاسيكية.
ويشير داير إلى أنه على مدى قرون شهدت
أساليب الحروب وأسلحتها تحسينات فرضتها تطورات اجتماعية واقتصادية، فعلى سبيل
المثال" لم يكن أحد بحاجة إلى القوات البحرية حتى بدأت الحضارات بإنتاج بضائع
مثل الحبوب والخمر والمعادن والخشب.. التي كانت ومازالت تنقل عن طريق البحر.. فتم
إنجاز السفينة الحربية سريعا، وضمن تصميم قياسي نادرا ما تبدلت تقنيته على مدى
آلاف السنوات". وفي السياق نفسه وبسبب الحاجة إلى تقليل الكلفة البشرية
الهائلة جاء اختراع الأسلحة النارية، التي تحقق دفاعا أفضل وتقلل احتمالات
الاشتباك الجسدي المباشر.
الجيوش الحاشدة والحرب الشاملة
حتى أواخر القرن الثامن عشر لم تحدث أي
طفرات كبيرة على الجانب العسكري، لكن التغيير الذي وقع، بحسب ما يقول داير، كان
سياسيا، لا سيما في فرنسا، حيث صار بمقدور المجتمعات الجماهيرية، بفضل اختراع
الطباعة وانتشار الكتب والكرّاسات التي خلقت وعيا وفهما جديدا للحقوق والواجبات،
أن تخوض النقاشات وتطرح الأفكار المختلفة التي هيأت الناس العاديين للتحرك وصناعة
قراراتهم بأنفسهم. قاد ذلك إلى ثورات على الأنظمة الملكية الحاكمة والتخلص من
الحكام المستبدين. كما قاد أيضا لما عرف ب "الحرب الجماهيرية"
و"الجيوش الحاشدة" التي استمدت زخمها من قوة المشاعر والأفكار الوطنية،
ثم القومية. وهي في مرحلة متقدمة كانت، أي هذه الجيوش الحاشدة، سببا في تدمير
الكثير من المدن الأوروبية وقتل مئات الآلاف، عندما تحولت أهداف حروبها إلى
الهيمنة وبسط النفوذ.
سينتقل داير بعد ذلك للحديث عن "الحرب
الشاملة"، تلك التي استدعت فيها القوى العظمى الملايين من الجنود وبعثت بهم
إلى المناطق الحدودية. لتبدأ الحرب العالمية الأولى في العام 1914. وهي حرب اعتقد
الجميع، بحسب ما يقول داير، أنها ستكون سلسلة سريعة من المعارك التي ستنتهي في
غضون ستة أشهر. وهي إلى ذلك حرب "لم تشعلها التجارة أو المستعمرات الخارجية
أو من أجل الوقوف في وجه الغزاة" بل أشعلتها التوجسات من التحالفات.
"لقد توجست فرنسا من ألمانيا بفعل عدد سكانها وقوتها الصناعية المتسارعة، مما
حدا بها إلى تكوين تحالف مع روسيا..
ولجأت ألمانيا إلى التحالف مع النمسا ـ المجر،
التي كانت تتنافس مع روسيا على أراضي البلقان. وتحالفت بريطانيا مع فرنسا وروسيا
لأنها شعرت كذلك بالتهديد من صعود ألمانيا".
المجتمعات الزراعية لم تكن في نظر البدو أكثر من مجرد مجموعة من الطرائد التي يمكن اقتناصها وقتلها دون أي تأنيب للضمير. لذلك كان على أفراد هذه المجتمعات أن يتعلموا شيئا فشيئا ضرورة الانضباط في معاركهم كمحاربين أمام هذه الغارات، وأن يتقنوا طرقا جديدة وفعالة في الحرب، "ومن هنا بدأت خطورة المعركة، واكتسبت الحرب قوتها الفتاكة".
هذه الحرب التي حشد لها ملايين الجنود،
الذين اختبروا على مدى 4 سنوات المرابطة في الخنادق في ما عرف ب"الجبهة
المستمرة، بينما يمتلىء الهواء برصاص البنادق، ثم بقذائف المدافع سريعة الإطلاق،
تحولت إلى حرب استنزاف ليس فقط للجنود، بل أيضا للمدنيين. لقد تم تجنيد الاقتصاد
المدني لخدمة الحرب، وفرض التقنين على المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، وحلّت
النساء محل الرجال الذين ذهبوا إلى الحرب في المصانع. لكن نصرا شاملا أو هزيمة
شاملة لم تتحقق لأي من طرفي الحرب. لقد كانت الأثمان باهظة والخاسرين كانوا ساخطين
جدا لذلك لم يتحقق السلام لأكثر من عشرين عاما فقط. قتلت الحرب العالمية الثانية
ضعف من قتلتهم الحرب العالمية الأولى ، وقتلت من المدنيين ضعفي ما قتلته من
الجنود، وكان ذلك بفعل الضربات الجوية واستراتيجية "القصف الجماعي.
يقول داير: إن ما حدث بعد ذلك هو أن أغلبية
الناس لم تعد تنظر إلى الحرب باعتبارها أمرا معظما وجليلا، بل صاروا يرونها معضلة
كبرى.
يرى داير أنه رغم مرور عقود طويلة بدون
مواجهة عسكرية بين قوى عظمى، فإن "ثلاثة تغييرات هائلة تجري الآن يمكن أن
تقلب النظام الدولي ـ الذي تم تأسيسه من أجل حفظ السلام ـ وتعيده إلى الاختلال
القديم"؛ ارتفاع درجة حرارة الأرض، وصعود قوى عظمى جديدة، والملف النووي.
ويوضح أن ارتفاع درجات الحرارة سيؤثر بالضرورة على إنتاج الطعام، وسيقود إلى
مجاعات وموجات هائلة من اللاجئين، لن يكون مرحبا بهم على الأغلب. وبالنسبة لصعود
القوى الجديدة مثل الصين والهند فإنه سيكون على النظام الدولي التوفيق بين مطالب
هذه القوى واستيعابها ومطالب القوى المتراجعة بعيدا عن الحرب، كما حدث في الماضي،
لأن "أحدا لا يتمنى أن يتكرر هذا السيناريو بأسلحة القرن الواحد
والعشرين".
ويضيف داير: إنه لا يمكننا الحلم بمدينة فاضلة حيث يتآخى الجميع
(شعوبا وحكومات) وأكثر حل عملي متاح لنا هو الإبقاء على النظام متعدد الأطراف الذي
تم تأسيسه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، رغم كل السلبيات التي تعتريه،
واستيعاب جميع القوى ضمن نظام يشدد على أهمية التعاون بدلا من الذهاب إلى
المواجهات العسكرية.