تقارير

تشكيل مجلس الإفتاء السوري هل تجاوز إرث الصراع الأشعري السلفي؟

المدرسة الأشعرية هي الأخرى حادة جدا باتجاه المدرسة السلفية في مفاهيم العقيدة وقضاياها، فالطرفان يضلل بعضهما بعضا، وقد يصل الأمر إلى حد التكفير في بعض الأحيان.. فيسبوك
كان لافتا في قرار تشكيل مجلس الإفتاء الأعلى في سوريا، الذي أصدره الرئيس السوري أحمد الشرع في 28 مارس/آذار 2025، تنوع مذاهب واتجاهات أعضائه، بين الأشعرية المذهبية والصوفية والسلفية العلمية والجهادية، فمنصب المفتي العام أُسند للشيخ أسامة الرفاعي، بخلفيته الأشعرية والمذهبية، الأمر الذي أثار لغطا في أوساط سلفية متشددة انتقدت تعيينه كمفتي عام للجمهورية السورية على خلفية انتمائه العقدي والمذهبي.

كما تضمن المجلس شخصيات علمية ودينية معروفة بانتمائها الأشعري والمذهبي والصوفي، كالشيخ عبد الفتاح البزم، والشيخ محمد راتب النابلسي، وسهيل جنيد، إضافة لشخصيات علمية ودعوية سلفية كالشيخ أنس عيروط، وأبرز شرعيي هيئة تحرير الشام عبد الرحيم عطون (أبو عبد الله الشامي)، وإبراهيم شاشو، ومظهر الويس، وزير العدل..

ووفقا لمراقبين فإن تشكيلة المجلس على اختلاف اتجاهات أعضائه، بما يحكمها من خلافات دينية وتاريخية عميقة، تعكس سياسة دينية جديدة، وتؤشر على نسق ديني جديد من أبرز ملامحه تقبل التنوع المذهبي واحترامه، والتوجه الجاد لاحتواء الاتجاهات الدينية السنية تحت مظلة المجلس الجديد، الذي أصدر قرار تشكليه الرئيس السوري أحمد الشرع، بالتشاور مع الحلقة المقربة منه.

ويُظهر هذا التوجه الديني الجديد للرئيس الشرع والدائرة المشاركة له في صنع السياسات والقرارات، مفارقة واضحة لمنظومة الأفكار والمقولات السلفية المتشددة في تصنيفها للاتجاهات الدينية الأخرى كالأشاعرة والماتريدية والطرق الصوفية، والموقف الشرعي الواجب اتخاذه منها، إذ كانت السلفية بعموم تياراتها، ومنها الجهادية تصنف تلك الاتجاهات بوصفها اتجاهات ضالة ومبتدعة، ومنحرفة عن منهج السلف الصالح.

وهذا ما بدا واضحا في رسالة الرئيس السوري أحمد الشرع التي وجهها لمجلس الإفتاء الجديد، والتي جاء فيها: "اليوم نسعى جميعا لإعادة بناء سوريا بكوادرها وعلمائها وأبنائها، وإنه لا يخفى على أحد مسؤولية الفتوى وأمانتها ودورها في بناء الدولة الجديدة، وخاصة بعدما تعرض جناب الفتوى للتعدي من غير أهله، وتصدى له من ليس بكفء".

وأضاف: "كان لزاما علينا أن نعيد لسوريا ما هدمه النظام الساقط في كل المجالات، ومن أهمها إعادة منصب المفتي العام للجمهورية العربية السورية، ويتولى هذا المنصب اليوم رجل من خيرة علماء الشام، ألا وهو الشيخ الفاضل أسامة بن عبد الكريم الرفاعي حفظه الله".

وتابع الشرع: "كما يسعى مجلس الإفتاء إلى ضبط الخطاب الديني المعتدل، الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، مع الحفاظ على الهوية ويحسم الخلاف المفضي إلى الفرقة، ويقطع باب الشر والاختلاف". 

ذلك التوجه الذي أنتج تلك السياسات والقرارات يستدعي الوقوف على خلفية تلك التوجهات الجديدة التي تمثلت في تشكيل مجلس الإفتاء السوري الأعلى، بتجاوز إرث الخلافات السلفية الأشعرية بعمقها العقدي، وأبعادها المذهبية، واستكشاف حقيقة ما يقال من أنها تعكس بالفعل انفتاحا في الرؤية والموقف، وتمثل نسقا دينيا جديدا يقوم على إشاعته وتجذيره الرئيس الشرع، ومجموع مستشاريه المقربين منه، والذين هم محل ثقته؟

في هذا الإطار، وفي قراءته لدلالات قرار تشكيل مجلس الإفتاء السوري الأعلى، قال الباحث والداعية المغربي (السلفي)، حسن الكتاني "لقد صرحت الحكومة السورية الجديدة مرارا وتكرارا أنها لا تتعصب لصالح اتجاه ديني ضد الاتجاهات الأخرى، أو لصالح طائفة ضد الطوائف الأخرى، وهي تسعى إلى جمع السوريين على اختلاف انتماءاتهم الدينية على قلب رجل واحد".

وأضاف: "صحيح أنهم سلفيون، وعقيدتهم سلفية، ويعتقدون أنها هي الحق الذي اتباعه، لكنهم يحاولون قدر الإمكان تفادي هذه الصراعات، وعدم الخوض فيها، لذلك كان مجلس الإفتاء الأعلى الجديد يتضمن في عضويته جميع الاتجاهات من مختلف المذاهب، فالمفتي العام الشيخ أسامة الرفاعي، أشعري مذهبي، يميل إلى التصوف، لكنه محاط أيضا بمشايخ من نفس هيئة تحرير الشام، كالشيخ عبد الرحيم عطون، والشيخ مظهر الويس".


                                                       حسن الكتاني باحث وداعية مغربي

وشدد الكتاني في حديثه لـ"عربي21" على أن "النزاع الأشعري السلفي لا يمكن حسمه بين ليلة وضحاها، بل لا يمكن حسمه أصلا، لأن كل اتجاه ومذهب عقائدي يرى أن ما عليه أتباع المذهب الآخر ضلال وانحراف، فالسلفيون يصفون ما عليه الأشاعرة من نفي علو الله عز وجل، ونفي الصفات وما إلى ذلك بالضلال، ويعدونه تعطيلا لصفاته سبحانه وتعالى، وفي المقابل يرى الأشاعرة أن ما يعتقده السلفيون من إثبات صفات الله تجسيما وضلالا وانحرافا".

وتابع: "والحل فيما أرى أن يرجع الجميع إلى كلمة سواء، فيبتعد السلفيون عن المبالغة في هذا الباب، ويكف الأشاعرة عن المبالغة ـ كذلك ـ في النفي والتأويل، وليتهم يرجعون في ذلك إلى كلام متقدمي أئمتهم، ولو فعل الطرفان ذلك لخففا من حد الخلاف والصراع بينهم، لكن المشكلة تكمن في إحياء أتباع كلا الاتجاهين للنزاعات العقدية القديمة، التي كانت لها ظروفها وسياقاتها التاريخية، فإحياؤها من جديد هو الذي ينشر بين الشباب التنطع والتشدد".

ودعا في ختام حديثه كلا الطرفين (الأشاعرة والسلفية) ـ إن أرادا بالفعل تجاوز إرث الخلافات العقدية والتاريخية ـ إلى "أن ينظر كل طرف منهما إلى الجانب المشرق فيما عليه الآخر، مع تجنبهم الدخول في التفاصيل الدقيقة التي لا يمكن الاتفاق عليها، لأن الخلاف فيها وارد في صفوف الاتجاه الواحد، وهذا ما يمكن أن يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقة بين الطرفين بما ينفع البلاد والعباد".

من جانبه رأى الأكاديمي والباحث السوري، الدكتور محمد حبش أن ما يعبر عنه بـ"مصطلح الصراع الأشعري السلفي ليس صحيحا ولا واقعيا، لأن هذا الخلاف فقهي ومذهبي وهو ما ينحصر عادة بين الرواة والوعاظ، ولا أثر له مباشر في الحياة السياسية والمدنية" على حد قوله.

وأضاف: "فليس هناك صورة متناقضة لشكل الدولة أو طبيعة إدارتها أو آلياتها الشوروية بين السلفية والأشاعرة.. فهو خلاف تراثي فقهي أصولي لا يخرج عادة عن حلقات الفقه، ومجالس الوعظ، ويمكن أن يكون السلفي أو الأشعري حداثيا مدنيا، كما يمكن أن يكون مستبدا شموليا، وما أراه أن هذا المصطلح سيسقط من التداول لأنه لن يخدم أي فكرة في بناء الدولة، وهو محض جدل لاهوتي ثيولوجي عقيم".

وواصل حبش حديثه لـ"عربي21" بالقول "في تقديري أن الخلاف يوجد في مكان آخر، يمكن تحديده في جانب الصراع بين السلفية الجهادية وبين الفقهاء، فالسلفية الجهادية هي طبيعة الحركات القتالية الدينية التي ظهرت في الثورة السورية، واختارت أشد جوانب التطرف قسوة نتيجة المظالم التي عاناها الناس من ظلم وقتل وتهجير، فقد وجد هؤلاء الثوار أنفسهم يندفعون في فتاوى السلفية الجهادية التي ترى أن الواجب الشرعي يقتضي القتال ضد الكفار والمرتدين".


                                              د. محمد حبش أكاديمي وباحث سوري

وتابع "وقد وجد هؤلاء في قتال المرتدين رسالة شرعية وجهادية، خاصة أنها تنطبق حسب النص السلفي على طائفة العلوية التي ينتمي إليها النظام السابق عبر رئيسه ومخابراته، وهكذا فقد حظيت السلفية الجهادية بحضور كبير وتأثير طاغ على حملة السلاح من الثوار، وقد ازداد هذا الشعور بشكل كبير عندما نجح هذا التوجه في إسقاط النظام العنيد الذي حكم ستة عقود بالحديد والنار".

وختم الأكاديمي حبش حديثه بالقول "المطلوب من تيار الفقهاء أن يحدد ملامحه، ويوحد صفوفه، ويطرح برامج حداثية وعملية قائمة على قيم الإسلام الصحيحة في مواجهة تيار السلفية الجهادية التي تصر على ثقافة الجهاد، وقتال المرتدين والكافرين والمشركين إلى قيام الساعة".

بدوره استبعد الكاتب والباحث السوري، المهتم بحركات الإسلام السياسي، أحمد الرمح أن يفضي تشكيل مجلس الإفتاء الأعلى في سوريا بتشكيلته الحالية، والذي يترأسه الشيخ أسامة الرفاعي، إلى تجاوز الصراع الأشعري السلفي، لأنه صراع يدور حول أصول وقضايا عقائدية، وممتد عبر التاريخ".

وأضاف: "تعيين الشيخ أسامة الرفاعي كمفتي عام للجمهورية السورية، الذي ينتمي إلى المدرسة الشامية الأشعرية، هو محاولة من طرف الحكومة لكسب المدرسة الشامية، لكن من المستبعد جدا أن يفضي إلى إنهاء الصراع الأشعري السلفي، لأنه صراع عميق جدا، ولا يمكن حسمه أو إنهاؤه لا بقرار سياسي ولا بقرار مشيخي، فهو من الصراعات العقائدية التي يضلل فيها كل طرف الآخر، وربما يصل الأمر إلى حد تكفير كل طرف للآخر".

وردا على سؤال "عربي21" حول سياسة السلطات السورية الجديدة، بخلفيتها السلفية، والتي تهدف إلى احتواء جميع الاتجاهات السنية، كما حدث في تشكيل مجلس الإفتاء الأعلى، وصف الرمح هذه السياسة من طرف السلطة السياسية بقيادة الرئيس أحمد الشرع أنها "نوع من التكتيك، فحاجة الرئيس الشرع في الوقت الحالي للمدرسة الشامية والحلبية، هي ما تدفعه لمثل هذه السياسة، سعيا منه لكسبها إلى جانبه".


                                                      أحمد الرمح كاتب وباحث سوري

وتابع: "كما أن المدرسة الأشعرية هي الأخرى حادة جدا باتجاه المدرسة السلفية في مفاهيم العقيدة وقضاياها، فالطرفان يضلل بعضهما بعضا، وقد يصل الأمر إلى حد التكفير في بعض الأحيان، لذا فإن هذا التوافق برأيي هو توافق آني ومصلحي، وليس توافقا استراتيجيا، فالعقلية السلفية لا تقبل بالمخالف لها، ولا ترضى له إلا أن يكون نسخة طبق الأصل عنها" على حد قوله.

وأردف الباحث الرمح "وبحسب معرفتي العميقة بالساحة الدينية في الشام، ومعرفتي الجيدة بالعقلية السلفية، فإننا سنشهد في قادم الأيام خلافات شديدة حول الاحتفال بالمناسبات الدينية، كالاحتفال بالمولد النبوي، والإسراء والمعراج، وليلة القدر.. وما إلى ذلك.. هذا إذا ما تجاوزنا بطبيعة الحال موضوع العقائد، والخلافات العميقة حولها".

وختم حديثه بالقول: "وما أود التنبيه عليه أنني هنا لست في موقف الضد أو المعارض، لكنني أتحدث بصفتي ناقدا، أنتقد مظاهر أراها قائمة أمامي، لذا فإنني أرى أن تحالف السلطات الجديدة مع مشايخ الشام هو تحالف هش جدا، راجيا أن يتجاوزا ذلك بتغليب المصلحة العامة لجميع السوريين في سوريا الجديدة".