قضايا وآراء

الأمازيغية بين التشويه الإيديولوجي والحق التاريخي

بلغيث نفسه صرّح سابقاً بأنه 'بربري شاوي رأسه خشين'، ثم عاد ليقول إن البربر أصلهم من العماليق بعدما روج لأصولهم الفينيقية والكنعانية، في 'خالوطة' كبيرة!
دعوني أؤكد أولا وأخيرا أنني ضد حبس المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث بسبب تصريحاته المردود عليها في "قناة سكاي نيوز" الإماراتية، والتي وصف فيها الأمازيغية بأنها صناعة "صهيونية فرنسية".

والمفارقة أن بلغيث الذي يربط الأمازيغية بالصهيونية، كان ضيفا في برنامج مع مذيعة جزائرية حاورت، على نفس القناة، رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامن نتنياهو في سياق تطبيع الإمارات. ولا يمكن لبلغيث (المعادي للصهيونية)، الذي كان ينادي المذيعة بأبوية "يا ابنتي" ألا يعرف ذلك! وإن موضوعيا وجب القول إن المذيعة ناقشت بلغيث وواجهته بالحجج التي ترد على طرحه المعادي للأمازيغية. كما وجب القول إنني ضد التهجم، وبلغة صادمة (بتعابير مثل اللقطاء!) الذي تعرضت له دولة الإمارات من قبل التلفزيون الرسمي الجزائري، على خلفية هذا البرنامج. لأنه من المفترض أن الجزائر أكبر من أن يهزها برنامج تلفزيوني، واستعمال هكذا لغة لا يليق بصورة الجزائر مهما كان الموقف مع دولة الإمارات. وهناك بالمناسبة خلط أو جهل لدى الذين كتبوا هذا الكلام التهجمي، فقناة "سكاي نيوز" ممولة من قبل إمارة أبوظبي، ولا علاقة للإمارات الأخرى كدبي والشارقة مثلا بها!

أنا من حيث المبدأ ضد سجن الرجل المثير الباحث عن الجدل، ومع مناقشته فكريا وكشف تهافت طرحه.. وتذكيره مثلا فقط بتصريحاته الموثقة المتناقضة والمغلوطة عن الأمازيغية نفسها وتصريحه هو بنفسه سابقا أنه "بربري شاوي رأسه خشين"!  ثم حديثه الآن أن البربر أصلهم من العماليق بعدما كان يروج لأصولهم الفينيقية والكنعانية، في "خالوطة" كبيرة!

أنا من حيث المبدأ ضد سجن الرجل المثير الباحث عن الجدل، ومع مناقشته فكرياً وكشف تهافت طرحه.
بقدر رفضي لسجن بلغيث، بقدر ما أثار استغرابي "اكتشاف" أن هناك من المحسوبين على "النخبة" ـ الذين صمتوا طيلة السنوات الأخيرة على مظالم كثيرة وسجن جزائريين وجزائريات (بينهم أكاديميون) لرأيهم السلمي أو نشاطهم في الحراك الشعبي ـ لهم أصوات يمكن أن يتشجعوا لرفعها عاليا بتخندق إيديولوجي مكشوف مع المؤرخ بلغيث، وضد سجنه بسبب تصريحاته المردود عليها عن الأمازيغية. جدير بالذكر أيضًا أنه أدلى بتصريح آخر صادم في البرنامج نفسه عن المهاجرين الجزائريين في فرنسا.

الأمازيغية وسياسة "فرق تسد"

قضية بلغيث حلقة أخرى من حلقات الجدل والانقسام المجتمعي الحاد حول الأمازيغية في الجزائر. وقد نفخ النظام الحاكم في هذا الانقسام وغذّاه للأسف بشكل خطير منذ الاستقلال، من منطلق فرق تسد، كما ظهر في عدة شواهد آخرها خلال الحراك الشعبي، حيث عزف النظام بنشاز مفضوح على وتر الأمازيغية لتفريق الشعب الموحد في ثورته السلمية. وكان بلغيث نفسه، وبشكل موثق، أحد أبرز العازفين في الفرقة الدعائية حينها للنظام، الذي كان يقوده رئيس أركان الجيش الراحل الفريق أحمد قايد صالح. والمفارقة أن بلغيث نفسه كان مؤخرا فقط يكيل المديح للرئيس الحالي.

وقد ظل النظام يتلاعب بهذه "الورقة المحروقة والحارقة" بشكل مفضوح وانتهازي، حيث تنكر لعقود، بل حوّل قضية الهوية الأمازيغية إلى "قنبلة موقوتة" بسياسته الإقصائية منذ الاستقلال، إذ أقصى اللغة الأمازيغية، ورفض تسمية المواليد بأسماء تاريخية أمازيغية أصيلة، وفرض سردية تنكرية تعتبر أن الشعب الجزائري عربي فقط، رغم أن الحقيقة هي أن الأمازيغية هي الهوية الأولى للبلاد، وأن الشعب الجزائري في غالبيته أمازيغي، ودينه الإسلام، والعربية البعد الآخر في هوية البلد، ولا إشكال من المفترض في ذلك.

هذه السياسة الإقصائية، التي يجب الإشارة كذلك أنها ظهرت في الحركة الوطنية الجزائرية، حتى قبل الثورة التحريرية الجزائرية بما سميت بـ"الأزمة البربرية"، استمرت بعد الاستقلال بشكل خطير كأن يرفع، أحمد بن بلة، أول رئيس جزائري بعد الاستقلال في 1962 صوته لفرض إيديولوجية بعثية مستوردة من المشرق، ويقول: "نحن عرب.. نحن عرب!"، ويريد إجبار أمازيغ الجزائر، الذين كانوا في قلب معركة تحرير البلاد، ودفعوا الغالي والنفيس من أجل ذلك، على "الرضوخ لذلك". كما ستستمر نفس السياسة العروبية، التعريبية في عهد هواري بومدين (الأمازيغي الأصل كذلك) وزير دفاعه، الذي انقلب عليه بعدها في 1965، ليصبح رئيسا للبلاد.

ظل النظام يتلاعب بهذه 'الورقة المحروقة والحارقة' بشكل مفضوح وانتهازي... محاولاً تحويل الأمازيغية إلى قنبلة موقوتة داخل المجتمع.
السياسة نفسها، وإن بأقل حدة، تواصلت مع من جاء بعده، أي الرئيس الشاذلي بن جديد، حيث انفجرت في 1980 احتجاجات "الربيع البربري أو الأمازيغي" في منطقة القبائل بعد منع محاضرة في جامعة تيزي وزو، عن الشعر الأمازيغي، كان سيقدمها الكاتب مولود معمري. وستشهد منطقة القبائل مرة أخرى، احتجاجات أكثر دموية في ما سمي بـ"الربيع الأمازيغي الأسود" في 2001 في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، حيث خلفت 126 قتيلا ومئات الجرحى. وستخلف هذه الأحداث ردود أفعال ستتطور إلى طروحات انفصالية في منطقة القبائل، وإن كان فيها ما فيها كذلك من تلاعبات من النظام.

اللافت أنه بعد ذلك بسنة أي في 2002 سيقوم بوتفليقة، بالاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية، ثم دسترتها في 2016، كلغة وطنية ثانية رسمية في البلاد بعد العربية، رغم أن بوتفليقة كان قد أقسم سابقا، في خطاب بمنطقة القبائل، بأن ذلك لن يحدث أبدا!

وقد أثارت هذه الدسترة حفيظة تيارات ترفع شعارات العروبة والإسلام، والتي سترتفع أصواتها أعلى في 2018 بالرفض واللغط بعد إقرار رأس السنة الأمازيغية المعروفة باسم "يناير" المصادف ليوم 12 يناير بالتقويم الميلادي، لتكون عطلة رسمية إلى جانب عطلة رأسي السنة الميلادية والهجرية. القرار جاء بحسابات سياسوية، حينها، مرتبطة بالولاية الخامسة لبوتفليقة، المريض المقعد، والتي كان يُعد لها قبل إسقاطها وإسقاطه بعد انتفاضة 22 فبراير الشعبية.

حق أريد به باطل

وبرغم أن الخطوة "أُريد بها باطل"، حينها لكنها تبقى "حقا"، بل وجاءت متأخرة لتصالح الجزائر مع ذاتها وعمقها التاريخي. لكن الخطوة أثارت وما زالت تثير غضبا لدى قطاع من الجزائريين، فقد سارع حينها أحد دعاة السلفية الوهابية بالفتوى بتحريم الاحتفال بـ"يناير". وقد استغربت شخصيا، وما زالت أستغرب غضب الكثير من الجزائريين من إقرار هذا اليوم بـما بدا لي ردود أفعال "هيسترية" و"مازوخية" و"كره ذات" غريبة، ورفض هؤلاء لبعدهم الهوياتي الأول، أي الأمازيغية والمغالاة في محاولة إنكارها وتقمص الهوية العربية بتسويقات مبالغ فيها، وهمية وخرافية عن أصل فينيقي عربي للأمازيغ بينما في لبنان مثلا فإن التيار الفينيقي مثلا بالعكس يصر على "فينيقية" لبنان للتأكيد على عدم عروبتها!

اللافت أن كثيرين في المقابل لا إشكال لهم، بل يعترفون بوجود رأس السنة الأمازيغية "يناير" كموروث شعبي بكل ما فيه من طقوس أكل واحتفاء يتم الاحتفال به منذ قرون، ولكن كسنة فلاحية، مرتبطة بالزراعة، ولكن نقطة الاعتراض هي التقويم الأمازيغي المعتمد، والذي وضعه الباحث الجزائري الراحل عمار نقادي عام 1980، والذي يبدأ تاريخ الرزنامة الأمازيغية من يوم 12 يناير وعام 950 سنة قبل الميلاد، وتأريخ ذلك بجلوس الملك المصري، الليبي الأمازيغي الأصل "شيشنق" أو "شيشناق" على عرش مصر، ليكون فرعون مصر وتحكم عائلته نحو 250 سنة.

وقد برر البعض هذا الاختيار على اعتبار أنه يتم تسمية "يناير" لدى بعض الأمازيغ بـ"عام الفرعون"، فربط الباحث هذا بذاك في وضعه للرزنامة الأمازيغية. نعم هناك مبررات موضوعية فعلا للرافضين لهذا الربط والتقويم، وأسطرة وتسويق "خرافي" مبالغ فيه لشيشنق إلى درجة نصب تمثال له بشكل غريب في منطقة القبائل بالجزائر، مما أثار غضبا في مصر وفي ليبيا على اعتبار أن شيشنق مصري وليبي. وهنا يجب الإشارة إلى أن القذافي ـ الذي كان يقمع الأمازيغ وهويتهم ـ وفي تقلباته الجنونية بين أمين القومية العربية، وملك ملوك أفريقيا، كان أعلن الاحتفال رسميا في 2008 برأس السنة الأمازيغية، وبشيشنق كبطل ليبي أمازيغي عظيم!

هل يمكن للصهاينة أن يلمعوا شخصية تاريخية سيطرت على فلسطين وهزمت اليهود وحطمت هيكلهم؟
بتقويم الباحث نقادي ربطا بشيشنق فإن الأمازيغ هم حاليا في عام 2975. نعم هناك نقاش مشروع حول هذا الموضوع، والتأكيد على أن رأس السنة الأمازيغية هو احتفال بالسنة الفلاحية، ويتم الاحتفال به في عموم البلاد، ويسمى في بعضها للمفارقة بـ"رأس العام تاع العرب"! ولتكن كذلك سنة فلاحية! فبعيدا عن هذا التقويم يبقى "يناير" عنوانا للعمق التاريخي.. وبعيدا عن جدل شيشنق لمن لا يصدق أو يعترف بربطه به، ويرى أنه احتفال بالسنة الفلاحية، ولتكن كذلك، وهي بالتالي أقدم حتى من شيشنق، ومن 950 سنة قبل الميلاد، أي مع بدء الإنسان في هذه المنطقة، وغيرها الزراعة، قبل أكثر من 9500 سنة قبل الميلاد!

لكن الملاحظ، بل المدهش أن الذين يدافعون عن حق بلغيث في التنظيرات (والاختراعات) التاريخية، يرفضون بشكل "هيستيري" معطيات تاريخية وعلمية موثقة عن الأمازيغ و عن شيشنق مثلا (الفرعون الأمازيغي الأصل)، المذكور في "التوراة" والموثق في كتب التاريخ، رغم توافر عناصر "البطولة" التي يفضل أن يروها في خليفة تركي مثلا! الملك شيشنق الذي بسط حكمه في مصر وسيطر حتى على فلسطين وما هي مدينة "القدس" حاليا، وهزم الصهاينة وحطم هيكلهم.

وهنا وجب القول رداً على الذين يتحدثون عن المؤامرات ويرون في ربط "شيشنق" بالسنة الأمازيغية "مؤامرة" وراءها "الأيادي الخارجية الصهيونية".. قليل من العقل والتعقل.. هل يمكن للصهاينة أن يلمعوا شخصية تاريخية سيطرت على فلسطين وهزمت الصهاينة وحطمت هيكلهم؟!

المفارقة أن بلغيث ومن معه من المتهجمين على الأمازيغية بدعوى الدفاع عن فلسطين لماذا لا "يتمثلون" شيشنق ويتوسمون أن يكون "أمازيغي" هو من يحرر القدس مثلا أم أنهم يفضلون أن يظلوا مفتخرين ببطولات الآخرين ويصرخون مثلا نحن"أمازيغ عربنا الإسلام"، لكنهم يفتخرون بـ"بطل تركي" مثلا، يفتخر بـ"تركيته" ولا يقول أبدا أنا "تركي عربني الإسلام".. وينكرون هويتهم، ويكذبون على نفسه، حتى بالزعم أنه ليس هناك شيء اسمه بربر أو أمازيغ (سميهم ما شئت!) لدرجة استيراد هوية أخرى، والقول مثلا إنهم فينيقيون وكنعانيون، وزادها بلغيث بـ"العماليق"! بينما آخر دراسة علمية تؤكد أن الجزائر هي مهد البشرية، كما أن هناك كذلك الفحص العلمي للخريطة الجينية من خلال الحمض النووي، والذي قمت به شخصيا، والذي يسقط وهم هذه الخرافات!

*كاتب جزائري مقيم في لندن