أثار رئيس النظام
المصري عبدالفتاح
السيسي، الجدل بحديث ارتجالي خلال احتفال وزارة الأوقاف بـ"ليلة القدر" ظهر الأربعاء الماضي، استشهد فيه بكلمات توراتية وإنجيلية.
وعقب قراءة كلمته الرسمية، نزل السيسي من فوق منصة الاحتفال موجها حديثه للحضور وهم وقوف، قائلا: "لا تقلقوا لأن الله يقف معنا دائما، هو اللي في ظهرنا، يطيب لي أن أتحدث عنه وحده، في ملكه وحده، أبدا أزلا وحده، لا شريك له. ما حدش يقدر يعمل حاجة".
وكلمتا "أزلي" و"أبدي"، اللتان أثارتا انتباه مصريين وعربا وصفان توراتيان إنجيليان ظهرا متتابعين ومنفصلين عشرات المرات في "العهد القديم" و"العهد الجديد".
وعلى سبيل المثال: في "العهد القديم"، في "سفر نحميا" (9/ 5 - 7): "قُومُوا بَارِكُوا الرَّبَّ إِلهكُمْ مِنَ الأَزَلِ إِلَى الأبدِ، وَلْيَتبَارَكِ اسْمُ جَلَالِكَ المتعَالِي عَلَى كُلِّ بَرَكَةٍ وَتَسْبِيحٍ".
ويستخدم العهد القديم كلمتين عبرانيتين للتعبير عن فكرة "الأبد" وهما עוֹלָם "عولام"، و עַד "عاد". أما العهد الجديد فيستخدم هذه الكلمات اليونانية: αἰών "أيون"، و αἰώνιος "أيونيوس"، و ἰδιώτης "أيديوس". وَتُرْجِمَت في العربية بـ"الدهرية" أو "القدم".
وكلمة αἰώνιος "أيونيوس" اليونانية تُستخدم عن "أزلية الله وأبديته" وقد ترجمت في العربية بكلمة "أزلي" (رومية 16: 26) وروحه (عب 9: 14)، وكذلك تشير إلى أبدية
الإنجيل (رؤيا 14: 6) والحياة الأبدية (يوحنا 3: 16-36) وملكوت المسيح (2 بط 1: 11) وبالمظال الأبدية في السماء (لوقا 16: 9)، وكذلك تشير إلى النار والعذاب الأبديين (مت 25: 41-46).
"خليط لاهوتي يهودي مسيحي"
واستفزت كلمات السيسي، وزير الخارجية التونسي الأسبق رفيق عبدالسلام، الذي كتب عبر صفحته على موقع "إكس"، يقول: "ما هذا الهراء، خليط لاهوتي يهودي مسيحي، وجبرية كلامية ميتافيزيقية لا علاقة لها بلغة الإسلام والمسلمين".
الدبلوماسي التونسي، أضاف: "الخلاصة: لا إرادة ولا فعل ولا قرار ولا حركة لتغيير (المنكر الصهيوني)، لأن كله (بيد ربنا)"، مؤكدا أنه "تحيل خبيث وادعاء وتلبيس على الله سبحانه، لأنه خلق الإنسان مستخلفا صاحب إرادة وتدبير وعقل".
وليست هذه هي المرة الأولى الذي يثير فيها السيسي، الجدل، بكلمات من العهد القديم، ولم ترد في القرآن الكريم.
ومنها قوله: "أمة العوز"، في حزيران/ يونيو 2018، في معرض تعبيره عن غضبه من هاشتاغ "#ارحل_يا_سيسي" حيث قال: "أدخلونا في أمة ذات عوز، عارفين (ماذا تعني) أمة العوز؟ أمة الفقر"، وهي الكلمة التي وردت في (سفر أيوب 30: 3): "فِي الْعَوَزِ وَالْمَحْلِ مَهْزُولُونَ، عَارِقُونَ الْيَابِسَةَ الَّتِي هِيَ مُنْذُ أَمْسِ خَرَابٌ وَخَرِبَةٌ".
وقوله للمصريين في آذار/ مارس 2019: "لم أعدكم بالسمن والعسل"، وهي الجملة التي ربطها البعض بوعد الله لقوم نبي الله موسى بـ"اللبن والعسل" في الأرض المقدسة إذا دخلوها، وهي الكلمات التي وردت بـ"العهد القديم"، (سفر أيوب 20: 17): "لاَ يَرَى الْجَدَاوِلَ أَنْهَارَ سَوَاقِيَ عَسَل وَلَبَنٍ".
وتكراره كلمات "أهل الشر"، و"الأشرار"، عندما يتحدث مع المصريين عن مخاوفه، وبينها ما قاله في عيد الشرطة، كانون الثاني/ يناير 2023، من كلمات لم يستخدمها القرآن الكريم، لكنها وردت في "العهد القديم"، ومنها في (الإصحاح 24): "لاَ تَحْسِدْ أَهْلَ الشَّرِّ، وَلاَ تَشْتَهِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ".
ودأب السيسي وفي مناسبات ومواقف عديدة على مخاطبة الله عز وجل بقوله "حضرتك"، التي لم ترد في القرآن الكريم، لكنها وردت مرارا بـ"العهد القديم" ومنها في (سفر إشعياء 64: 2): "كَمَا تُشْعِلُ النَّارُ الْهَشِيمَ، وَتَجْعَلُ النَّارُ الْمِيَاهَ تَغْلِي، لِتُعَرِّفَ أَعْدَاءَكَ اسْمَكَ، لِتَرْتَعِدَ الأُمَمُ مِنْ حَضْرَتِكَ".
وهو التكرار الذي دفع البعض للتساؤل حول دلالات استعانة السيسي بكلمات من العهد القديم والعهد الجديد في مناسبة إسلامية.
"موجة غربية"
قال ناشطون إن استعانة السيسي، بكلمات من العهدين القديم والجديد، تأتي إثر تزايد استعانة الساسة الغربيين في أوروبا وأمريكا برموز وعلامات وكلمات يهودية ومسيحية في حملاتهم الانتخابية وفي ظهورهم أمام الجماهير، وفي أسماء أحزابهم.
وفي 5 آذار/ مارس الجاري، ظهر وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو خلال لقاء تلفزيوني وعلى جبهته الصليب بمناسبة "أربعاء الرماد" أول أيام الصوم الكبير عند المسيحيين الكاثوليك.
وفي 26 آذار/ مارس الجاري، ظهر وشم باللغة العربية على ذراع وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيغسيث يحمل كلمة "كافر"، فوقها عبارة باللاتينية تعني "الرب يريد" التي استخدمها الفرنجة في حملتهم الصليبية الأولى على الشام (1095 ميلادية).
"لا تقلقوا.. وهاجس السيسي"
وفي السياق، جاء قول السيسي في ذات اللقاء: "لا تقلقوا"، و"ما حدش يقدر يعمل حاجة"، التي كررها في مناسبات سابقة، وأثارت تساؤلات بعض المراقبين.
وعبر صفحته على "فيسبوك"، تساءل الكاتب الصحفي جمال سلطان: "لماذا يكرر السيسي دائما عبارة: لا تقلقوا، لا داعي للقلق، لن يحدث شيء، لا أحد يستطيع فعل شيء، لا تخافوا، في لقاءاته مع قيادات سياسية أو دينية أو عسكرية أو أمنية؟".
وأضاف: "لماذا هو مهجوس بالقلق من حدوث شيء؟"، و"لماذا يذكره دائما، رغم ما تحمله الإشارة من معان سلبية ضارة بصورة الدولة في مصر؟".
ودفع تكرار السيسي، الحديث عن عدم الخوف والقلق البعض للقول إنها محاولة منه للبس الوجه الطيب بدلا من الوجه العابس في كل مناسبة إسلامية والمخيف ببطشه ونظامه الأمني، وأنه يحاول تغيير خطابه الذي دأب عليه بالتهديد والوعيد إلى اللغة الأولى التي اتخذها عقب انقلابه في 2013.
وأعرب السياسي المصري محمد عوض، عن تعجبه من خطاب السيسي، قائلا: "بدأت مسكنة وحنية، وبسرعة كشفت وراها قسوة أصلية، دلوقتي طالبة دروشة وسبحة ولبس عمة دينية".
وتساءل آخرون حول دلالات تلك الكلمات، مشيرين إلى أنها تعبر عن حجم ما يعيشه نظامه من قلق وتوتر داخل دوائر الحكم بسبب الأوضاع الإقليمية والداخلية.
ولفت الخبير بالإدارة الاستراتيجية وإدارة الأزمات الدكتور مراد علي، إلى تكرار "السيسي مؤخرا في عدة مناسبات دعوته لرجال الدولة ولحاشيته إلى عدم القلق"، متسائلا: "فهل هناك حالة قلق شديد داخل دوائر الحكم؟".
"إطراء على غير العادة"
وأثار جانب ثالث، من حديث السيسي، جدلا آخر، مع قوله: "كثير من الناس كانوا يراهنون على أن الظروف الصعبة التي تمر بنا سيكون لها تأثير سيئ على مصر والشعب.. ولكن العجيب أن الأمر لم يكن كذلك أبدا، ووجدوا أمة متماسكة صلبة صابرة".
وطوال سنوات حكم السيسي ومنذ العام 2014، دأب على تحميل فئات من المصريين سبب أزمات مصر السياسية والاقتصادية موجها الاتهامات لثورة يناير 2013، ومنتقدا إنجاب المصريين واستهلاكهم، وشكواهم من ارتفاع الأسعار وأنهم جزء من أسباب أزمة تراجع قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية.
ولاقى إطراء السيسي على المصريين، الانتقادات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ودفع البعض للقول إن وصف السيسي للمصريين بـ"أمة متماسكة صلبة صابرة"، محاولة لاستغلال المناسبة الدينية ومخاطبة المصريين بلغة المستعطف المستجدي، ودغدغة مشاعرهم لتقليل غضب الشارع المصري من ملف الاقتصاد، والحرب في غزة.
"مجتمع مغلق وعقل أمني"
وحول تكرار السيسي كلمات من العهد القديم والجديد وفي مناسبة إسلامية، علق السياسي المصري الدكتور عمرو عادل، قائلا: "المؤكد أن المستوى الثقافي بشكل عام له متواضع للغاية. كما أنه عاش حياته بالكامل في مجتمع مغلق داخل الجيش وزاد الأمر كارثية هو العقلية الأمنية نتيجة لطبيعة الوظائف التي كان يشغلها".
رئيس المكتب السياسي للمجلس الثوري المصري، أوضح في حديثه لـ"عربي21"، أن "هذه التشكيلة تصل بالشخص أي شخص إلى هذا الوضع المأساوي؛ مجتمع مغلق، ثقافة ضحلة، عقل أمني، سلطة مطلقة. ربما لا تظهر هذه المأساة المتكاملة للجماهير إلا إذا كان صاحب هذه الشخصية يعشق الميكروفون فيظهر كل هذه التناقضات في كلماته".
ويرى أنه "في الموقف الحالي؛ هو يعتقد أنه يأتي بما لم يأت به أحد، وأنه مبدع ومختلف"، مؤكدا أن "استخدام المصطلحات التوراتية اللاهوتية بكثرة منذ سيطرته على الميكروفون أعتقد أن لها احتمالين مع ضحالة الثقافة الواضحة"..
الاحتمال الأول بحسب عادل، هو "التأثر بالإرث العائلي، أحد أهم مدخلات المفردات وهذا هو الأقرب"، ملمحا إلى أن الاحتمال الثاني، هو "التلقين المباشر من أحد ما لتوصيل رسائل معينة، وربما هذا احتمال ضعيف".
وأضاف السياسي المصري: "أما أنه يتعمد هذا الخلط وهذا التوجه في دمج الأفكار كخط فكري أو توجه ثقافي فهذا غير محتمل كما أرى".
وخلص إلى القول إن "توجه الدولة المصرية منذ عقود وخاصة في العقد الأخير هو تحويل الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاص إلى أشكال فلكلورية لطيفة تبتعد عن القيم والثوابت والضوابط، وما يحدث من كوميديا أثناء الاحتفالات بالمناسبات الإسلامية خير شاهد".
"تعمد ممنهج"
وفي قراءته لدلالات حديث السيسي في ليلة القدر، قال الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية الدكتور ممدوح المنير، إن "إثارة السيسي للجدل باستخدام تعبيرات توراتية وإنجيلية في مناسبة إسلامية ليست مجرد زلة لسان، بل إنها تعكس تعمدا ممنهجا لتوظيف الدين لخدمة مشروعه السياسي".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد المنير أن "استخدامه لهذه المصطلحات الغريبة على الحسّ الديني الإسلامي في مناسبة كليلة القدر يعكس أمرين أساسيين: محاولته للتماهي مع الخطاب الديني الغربي المرتبط باليهودية والمسيحية، واستمرار نهجه في تفريغ المناسبات الإسلامية من مضمونها الحقيقي وجعلها منصة دعائية لنفسه".
ويرى أن "استخدامه تعبير (أبدا أزلا وحده)، يتجاوز مجرد استعارة لغوية، إذ إن هذه المصطلحات لها دلالات عقدية في التراث التوراتي والإنجيلي، وهو ما يعكس إشكالية في فهمه للخطاب الديني الإسلامي".
وأوضح أنه "بينما يفترض أن يكون حديثه متسقا مع روح المناسبة الإسلامية، فإنه يُصر على تقديم نفسه كحاكم متعال، يتحدث بلغة غير مألوفة للمصريين والمسلمين، ما يعزز الانطباع بأنه بعيد عن وجدان الأمة".
"تحول تكتيكي"
ويعتقد الباحث المصري أن "الأهم من ذلك هو سياق الخطاب، فقد بدا السيسي وكأنه يحاول تهدئة الشارع المصري وإقناع المواطنين بأنه المسيطر على الأوضاع".
ولفت إلى أن "عباراته مثل (لا تقلقوا)، و(لن يحدث شيء)، و(ما حدش يقدر يعمل حاجة)، تحمل دلالات واضحة على وجود قلق داخلي داخل نظامه، سواء بسبب الاحتقان الشعبي المتزايد نتيجة الأزمة الاقتصادية، أو بسبب التداعيات الإقليمية، وخاصة ما يحدث في غزة، والضغوط الأمريكية المتزايدة على نظامه في ملف التهجير وما قد ينعكس على الداخل المصري".
وأكد المنير، أن "هذه اللغة مختلفة عن خطابه التقليدي القائم على التخويف والترهيب، وهو تحول تكتيكي يعكس إدراكه لحجم السخط الشعبي المتزايد، ويعكس ذلك كذلك أنّه لم يعد ممسكا بزمام الأمور كما يجب".
وتساءل: "هل ينجح في خداع المصريين مجددا؟"، مشيرا إلى أن "الواقع يقول إن المصريين أصبحوا أكثر وعيا بحقيقة سياسات السيسي، خاصة مع استمرار الانهيار الاقتصادي، وبيع أصول الدولة، وإغراق البلاد في الديون. لم تعد الشعارات العاطفية كافية لامتصاص غضب الشارع، حتى بين مؤيديه السابقين".
ومن ناحية أخرى قال المنير: "لست من مؤيدي الإشاعة التي ترددت كثيرا منذ انقلابه عام 2013، حول أصول والدته اليهودية، التي قيل إنها تنحدر من المغرب فلا يوجد أي دليل معتبر عليها حتى الآن".
ويرى أن "السيسي لا يحتاج لإشاعة لمعرفة علاقته بالصهاينة فالرجل في العلن صهيوني قلبا وقالبا، وما يفعله في ملف غزة لا يقبل به حتى بعض اليهود ويرفضونه".
وفي نهاية حديثه، مضى يؤكد أنه "لا يمكن لأي خطاب مهما كانت صيغته أن يغير حقيقة أن نظام السيسي يقف في وجه تطلعات الشعب المصري، ويدعم الاحتلال الصهيوني، ويحاصر غزة، ويغرق البلاد في الأزمات، وأعتقد أنّ نهاية هذا النظام أوشكت".