في أحد
التصريحات الشهيرة زمن حكم حركة النهضة في
تونس، قال أحد رموز اليسار التونسي: "حتى
لو جعلت النهضة من تونس جنّة، لن نقبل بها".
جملة
صادمة، لكنها ليست نادرة في منطقتنا العربية. هي ليست مجرد اختلاف سياسي، بل إعلان
أن الكراهية أقوى من المصلحة العامة. رفضٌ لكل إنجاز، فقط لأنه جاء من الخصم. رفضٌ
لا يُقيّم الفعل، بل يُرفض لأن "من فعله ليس منّا".
هذا ليس
خلافا.. هذا احتقار متبادل
من
الطبيعي أن تختلف مع خصمك السياسي، لكن أن ترفض أي خير أو إصلاح يقدّمه، فقط لأنه
خصمك، فهذه ليست سياسة.. بل كراهية متلبّسة بلباس الموقف.
في تونس، لم يكن الخلاف حول السياسات فقط، بل حول وجود الآخر أصلا. بعض الإسلاميين رأوا اليساريين تهديدا للهوية والدين، وبعض اليساريين رأوا الإسلاميين خطرا على المدنية والتحرر
في علم
النفس السياسي، تُسمّى هذه الحالة "الرفض المُسبق" أو "التحيّز
الجماعي السلبي"، حيث لا يُقيّم الإنسان المواقف بناء على مضمونها، بل على
هوية قائلها. وفي هذه اللحظة، يتحول العقل السياسي إلى ما يشبه "الحصن المغلق"
الذي لا يسمح بدخول أي فكرة، حتى لو كانت منطقية، لأنها ببساطة قادمة من الجهة "الخاطئة".
في تونس،
لم يكن الخلاف حول السياسات فقط، بل حول وجود الآخر أصلا. بعض الإسلاميين رأوا
اليساريين تهديدا للهوية والدين، وبعض اليساريين رأوا الإسلاميين خطرا على المدنية
والتحرر.
هنا نشأ
ما يُسمّى في علم النفس الجمعي بـ"الشيطنة المتبادلة" (Mutual
Demonization)، حيث لا يعود الخصم خصما سياسيا، بل يُحوَّل إلى "خطر وجودي
تجب إزالته"، فصار النقاش مسموما، لا يبحث عن الحق، بل يسعى لإلغاء الطرف
الآخر بكل الطرق.
من تونس
إلى سوريا.. لا تكرّروا هذا الانقسام
سوريا
اليوم تدخل مرحلة جديدة بعد سنوات من
الثورة والتضحيات، وبقيادة الرئيس أحمد الشرح
بدأت ملامح بناء الدولة التي يحلم بها الشعب السوري؛ دولة عادلة، جامعة، تنتمي
لشعبها لا لحزب أو طائفة أو أيديولوجيا واحدة.
المرحلة
الانتقالية التي نعيشها اليوم تحتاج إلى كل مكونات الشعب السوري، ولا تحتمل
أن يُعاد إنتاج الكراهية التي دمّرت دولا أخرى.
الكراهية
السياسية، كما توضح دراسات السلوك الجماعي، لا تقتل فقط التعاون.. بل تُفقد
المجتمعات القدرة على رؤية المشترك، حتى لو كان واضحا. لا نريد في سوريا من يقول: "لن
نقبل، حتى لو أصلحوا"، بل نريد من يقول: "نتعاون، ما دام في ذلك خير
لسوريا".
لا نُجامل..
نحن نتعلّم
يجب ألا
نبرّئ أي طرف من الأخطاء، لكن أن نُحمّل الجميع مسؤولية تجاوز الكراهية والإقصاء، وتقديم
الوطن على الأيديولوجيا، والمستقبل على الأحقاد.
وهذا لا
يتطلب مثالية، بل فقط استعدادا نفسيا لتجاوز حالة "العداء المزمن"، وهو نمط
نفسي معروف يُصيب الشعوب الخارجة من الصراع، ويمنعها من بناء شراكة حتى في أكثر
اللحظات التي تحتاج فيها إلى التكاتف السياسي، حيث ينجح من يستطيع أن يعمل مع من
يخالفه، لا أن يستقوي بمن يشبهه فقط.
الشعب السوري انتصر في ثورته، وها هو اليوم يبني وطنه، بقيادة جديدة ومشروع جديد. الفرصة التاريخية أمامنا أن نُقيم دولة لكل السوريين، دون إقصاء، دون تصنيفات مسبقة، ودون تكرار كوابيس الماضي
في الختام:
الشعب
السوري انتصر في ثورته، وها هو اليوم يبني وطنه، بقيادة جديدة ومشروع جديد. الفرصة
التاريخية أمامنا أن نُقيم دولة لكل السوريين، دون إقصاء، دون تصنيفات مسبقة، ودون
تكرار كوابيس الماضي.
الشفاء
السياسي يبدأ بالاعتراف بأن كل طرف يحمل شيئا من الصواب وشيئا من الخطأ، وأن
الانتماء إلى سوريا يجب أن يكون أوسع من أي انتماء آخر.
سوريا
القادمة.. لا تُبنى بالحقد، بل تُبنى بالعقل، بالمصالحة، وبالإرادة الوطنية
الجامعة.
والدليل
على ما طرحته في هذا المقال ليس بعيدا ولا نظريا؛ فالتجربة القاسية لشعوبنا شاهدة
عليه. حين تَصارع أبناء الثورة بدل أن يتكاملوا، وحين طغت الحسابات الفئوية على
حلم الوطن الجامع، بدأت الثورة تأكل أبناءها. عندها، لم يكن العدو بحاجة لكثير من
الجهد؛ فالثغرة كانت من الداخل.
فُتحت
الأبواب لانقلابات.. بعضها ناعم يرتدي ربطة عنق، وبعضها دموي لا يعرف غير الحديد
والنار. وفي النهاية، عادت أنظمة لا تؤمن لا بحرية ولا بكرامة، لكنها ترفع
لافتاتها فقط لتغطي بها خواء الواقع.