الحديث عن الزعامات في الغرب لا يعني الحديث عن
أشخاصهم بقدر ما يعني الحديث عن المؤسسات التي يديرونها، فالمؤسسات تمثل الحقيقة
القومية الثابتة في أغلب الظروف، بينما الرئيس يمثل الصورة الدبلوماسية، ويمكن أن
نلخص الفرق بين الحقيقة القومية وبين الصورة الدبلوماسية في الأمور التالية:
أولا: الرؤساء في الغرب ليسوا كرؤسائنا، فهم يُختارون
بإرادة شعوبهم ولا يرثون شعوبا، ومن ثم فالشعب هناك هو السيد وهم وكلاء عنه ومسؤولون
أمامه في إدارة الحياة فترة محددة، أما بعض رؤسائنا -أطال الله أعمارهم- فهم
يملكون البلاد والعباد ويستطيعون تغيير كل شيء، بما في ذلك أسماء المدن والميادين
والشوارع والمناخ والفصول الأربعة لتكون بأسمائهم وأسماء أبنائهم وعائلاتهم، بينما
أنظمة الحكم في الغرب تقوم على مؤسسات، وموقع الرئيس هناك هو المعبر عن توجه
المؤسسة بثوابتها ومصالحها وامتداداتها، والفرق بين رئيس ورئيس هو الفرق في
التعبير عن الموقف وليس في تغيير الثوابت القومية.
ثانيا: أسلوب الوريث الجديد في البيت الأبيض لا
يختلف كثيرا عما كان يقوم به أسلافه في الولايات المتحدة أو في القارة الأوروبية،
فمواقف أبناء العم سام تجاهنا لم تتغير، وإن تغير التعبير عنها.
الاختلاف في التعبير عن الموقف وليس في الموقف ذاته، ولذلك نخلص إلى أن الفروق بينهم ليست إلا كالفرق بين الكوكاكولا والبيبسي كولا، والأمل أو المبالغة في قربهم منا أو بعدهم عنا، أو تغيير المواقف المبدئية للمؤسسات التي يديرونها، إنما هو نوع من الوهم المريح الذي تستطيبه خواطر بعضنا العابرة للقارات نحو أبناء العم سام
فمرة يكون التعبير شديد الأدب، رفيع الذوق، مصحوبا بالتواضع، كما فعل
أوباما مع بعض كبار السن من زعمائنا، ومرة يكون التعبير بعيون ناعسة الطرف ومصافحة
ناعمة الملمس دافئة الأحضان. وأحيانا يكون التعبير كقذف الحصى، أو كسعال
"عجوز مصدور"، أو كسواد ليل الشتاء وبرودته كحالة "جورج بوش" و"جون كيري" ومن قبلهما المأسوف على شبابها الست "كوندوليزا
بنت رايس" بطلعتها البهية. فالاختلاف في التعبير عن الموقف وليس في الموقف
ذاته، ولذلك نخلص إلى أن الفروق بينهم ليست إلا كالفرق بين الكوكاكولا والبيبسي
كولا، والأمل أو المبالغة في قربهم منا أو بعدهم عنا، أو تغيير المواقف المبدئية للمؤسسات
التي يديرونها، إنما هو نوع من الوهم المريح الذي تستطيبه خواطر بعضنا العابرة
للقارات نحو أبناء العم سام.
ثالثا: أن كلا من الرئيسين السابق واللاحق كان مدهشا، بايدن كان مدهشا إلى حد الصدمة في الغيبوبة، لكن جهات في المؤسسات الصلبة
كانت تدير حركته وتمسك بزمام الأمور، بينما الرجل اللاحق
ترامب مدهش أيضا إلى حد
الصدمة لدرجة أنك تشعر أن الرجل مصاب بإسهال في تصريحاته وتصرفاته وسلوكياته كلها،
ليس في منطقتنا وحدها، وإنما مع كل شعوب العالم، والدنيا كلها تسمع وترى باندهاش
وتتعجب من مستوى البازار السياسي الذي تجاوز كل الأعراف الدبلوماسية في طرح الرؤية
للعلاقات بين الدول، وخلق المشكلات واقتراح الحلول.
النجاح الساحق الذي حققه "دونالد
ترامب" ليس إلا اعتذارا وردّ اعتبار لخطيئة الديمقراطية التي جاءت
من قبل رجل أشبه ما يكون بثعبان أسرف في الشرب من دماء فريسته؛ ففقد وعيه وضاعت
بوصلته واختل توازنه فـ"جو بايدن" وفريقه كانوا شركاء مباشرين في
الإبادة الجماعية التي حدثت في
غزة، وهم يشكلون مجموع الفاعل بالشراكة في تدمير كل
مظاهر الحياة بما فيها البشر والشجر والحجر، بينما خليفته يبحث الآن في تصفية
القضية برمتها وتفريغ الأرض من أصحابها. فالغاية بين السابق واللاحق واحدة، والأول
قطع نصف المسافة، واللاحق يستكمل السير في ذات الطريق وبنفس الأدوات، والآليات
والوسائل هي هي:
فحينا تكون بإطلاق يد الجاني (أو الوكيل المعتمد "نتنياهو") في القتل
والتدمير وإمداده بأشد وأكثر أدوات القتل فتكا ودموية وبأسلحة محظورة دوليا، وحينا
آخر بالتهجير القسري وتفريغ الأرض من سكانها. وهذا الفعل جريمة في عرف القانون
الدولي تسمى "جريمة تطهير عرقي"، وهي في نظر
الفلسطينيين إعادة تدوير
للنكبة الأولى، بأسماء أخرى، وربما بشراكة واتفاق مع بعض دول الجوار.
رابعا: أن الصورة المنقولة حية في عملية تبادل
الأسرى عبر شاشات العالم كله كانت قاهرة ومذلة لغطرسة العدو وقيادته، وكانت محملة
بالكثير من الرسائل الكبيرة والعظيمة، وأثارت الكثير من التساؤلات والنقاشات
والمقارنات الحرة، وعكست بشكل دقيق حجم الفروق والسنوات الضوئية بين مبادئ
وأخلاقيات وشرف رجال
المقاومة في عهودهم ووعودهم وتعاملهم مع الأسرى الإسرائيليين،
وبعضهم جنود في جيش العدو، والبعض الآخر جاء محتلا لأرض ليست له، ومغتصبا لدار
غيره، وسارقا لحدائق وبيّارات لها أصحابها من آلاف السنين. ومع ذلك حظي هؤلاء
الأسرى بأرقى أنواع التعامل الإنساني وتمتعوا برعاية وبحماية من نيران جنود جيشهم
هم، بينما رأى العالم الصورة في الجانب الآخر نقلتها صورة الأسرى الفلسطينيين
الشرفاء وهم يخرجون من سجون العدو؛ بعد معاناة أشبه ما تكون بمعاناة أهل الجحيم
ودون مراعاة لأدنى حقوق الإنسانية.
هنا ترى الدنيا كلها بما فيها سكان الأرض المحتلة البعد الأخلاقي والفروق
الإنسانية حين تظهر في أعلى تجلياتها شرفا في الخصومة، وعدلا في الحكم، ورعاية
لآدمية البشر ولو كان عدوا، بصرف النظر عن كل الفروق والاعتبارات في القوة والتفوق
التقني.
في مفهوم سمسار العقارات الهارب من إنسانيته أن الأوطان يمكن أن تباع في
مزاد علني داخل أسواق الخردة، وأن الزعيم السياسي يمكن أن يستفيد في التعامل مع
دول العالم بطريقة البلطجي الفتوة مع بعض صبيانه.
وأحسب أن بعض ما طرح على لسان ترامب من عملية تهجير
لسكان غزة رغم ما فيه من خيال جامح -أشبه ما يكون بخيال اللص الظريف في روايات
أرسين لوبين- كان بمثابة بالون اختبار مفيدة، صحيح أنها فاضحة حد الوقاحة لكنها
تمثل طوق نجاة لنتنياهو من خصومه السياسيين في الداخل وما ينتظره من محاكمات في
قضايا فساد.
ثم إنها ستغطي كثيرا من الفشل والإحساس بالهزيمة
وفقدان المصداقية أمام ما ظهرت به فصائل المقاومة من تنظيم وبراعة ودقة وقدرة على
السيطرة والتحكم، والتحامها بالحاضنة الشعبية لها وظهور رجالها وكأنهم ما دخلوا
حربا ولا تعرضوا لحصار على مدى 14 شهرا، ولك أن تتصور حجم الشعور بالفشل والإحساس
بالهزيمة، وفقدان المصداقية لكل القيادات في إسرائيل وفي مقدمتهم نتنياهو أمام
شعبهم وشعوب العالم كله.
لله ثم للتاريخ
بعيدا عن سيطرة فكرة المؤامرة على العقل
العربي،
والتي تشكل هاجسا ودافعا لتأويل كل حدث، نؤكد أنه لا مؤامرة، لأن المؤامرة لا تكون
إلا في خفاء، والخفاء منطقة ضبابية يسود فيها الشك، بينما ما يحدث في غزة إنما هو
في الحقيقة والواقع عدوان سافر يحدث في العلن، وكما يقولون في المثل العربي
"على عينك يا تاجر"، وهو مثل يضرب للممارسات الفاجرة التي يمارسها
أصحابها بوقاحة وفي غير خجل أو تستر، ودون اعتبار لنظر الآخرين.
القنوات الفضائية الإسرائيلية ذاتها تدعي وعلى لسان بعض المسؤولين في
الموساد أن البيانات التي صدرت بخصوص تهجير أهل غزة والشعارات المزيفة وتظاهرات
بعض الأفراد المدبرة عند دول الجوار؛ ليست إلا لقطة ساذجة ورسالة خداع مفهومة
ومتفق عليها، وأنها تمت بالاتفاق معهم. هكذا يدعي إعلام العدو.
الغريب أن هذا الادعاء يقابل بحالة من الصمت، ولم يصدر بيان واحد من جهة
مسؤولة يكذبه. حالة السكون هذه ليست ثباتا لمبادئ أو إصرارا على موقف، وإنما هي حالة جمود
تشبه الإغماء أو الغيبوبة لشخص فقد الذاكرة.
على الضفة الأخرى لا بد أن نتذكر أن هناك من ينتظر هزيمة
غزة برجالها ومقاومتها ليعلن حالة الوفاة ويطالب بميراثه من أمة مقسمة ومنهوبة
ومحروبة؛ نهبها العم سام وأبناؤه واقتسموا خيراتها وثرواتها ولعبوا بها.
الوريث الجديد القادم منذ أيام قليلة "ترامب"
لا يرى في أمتنا شعوبا تستحق أن تحترم، ولا يرى فيها أنظمة يُحسب لها حساب، وإنما
ينظر إليها على أنها عجوز أصابها الكبر ولها ذرية ضعفاء لا يملكون غير المال ولا
يحسنون التصرف فيه، ولذلك يجب أن يكونوا دائما تحت الوصاية، ويمكنه أن ينتقل من
مرحلة اللعب بهم إلى مرحلة اللعب فيهم.
الأدوات المستخدمة من جهة الكبار في اللعب معنا أو اللعب بنا أو حتى اللعب فينا والتي ساعدت العدو على تحقيق أغلب وأهم أهدافه؛ فهي كثيرة ومتنوعة وجاهزة لأداء المطلوب والقيام بما يلزم
أما الأدوات المستخدمة من جهة الكبار في اللعب معنا أو اللعب بنا أو حتى
اللعب فينا والتي ساعدت العدو على تحقيق أغلب وأهم أهدافه؛ فهي كثيرة ومتنوعة
وجاهزة لأداء المطلوب والقيام بما يلزم.
بعض هذه الأدوات خارجية تملكها الدول الكبرى وهي تحت يدها وفي قبضتها،
ويمثلها معاهد أبحاث تُعنى بالدراسات الاستشراقية والسياسية الاستراتيجية الخاصة
بالشرق الأوسط، وهي معاهد تابعة لمراكز القرار وممولة من الجهات السيادية. أدوات أخرى داخلية تشتريها الدول الكبرى من داخل بلادنا وعمق أراضينا، ولديها
جرائد ومجلات وقنوات فضائية يملكها الكبار أو يستأجرونها.
أما العاملون في تلك الأدوات
الداخلية فهم من المؤلفة جيوبهم، ويشكلون كتائب ثقافية تتكون من صحفيين وروائيين
وفنانين وممثلين ومطربين وشعراء وأدباء، وجميعهم يمثلون الذراع الثقافي الذي يمهد
الأرض لمشروعات الكبار ويُخدِّم على توجهاتهم.
مرحلة "اللعب فينا" مشروع ضخم يقوم الكبار
على رعايته ويعملون بدأب ونفس طويل لخلق وإيجاد فرص التفتيت للمكون الأساسي
والمركزي الجامع للأمة وهو "الإسلام". مرحلة اللعب فينا هي أخطر المراحل
وأشدها فتكا بما تبقي للأمة من قدرات ومقدرات، وعناصر للمقاومة، والرجولة، والرفض.
القراءة الخاطئة للمشهد الآن من المستويات السياسية في مراكز القرار العربي
إن سمحت للوريث الجديد في البيت الأبيض أن يلعب فينا ستفضي حتما إلى كوارث على
مجموع الأمة أوطانا ومواطنين وليست كارثة واحدة، لأنها باستخفافها أو باستجابتها
لمطالب السيد ترامب تمارس عملية انتحار ذاتي حين تقدم لعدوها الرصاصة الأخيرة
ليطلقها على ما تبقى في الأمة من رجولة وعزة وكرامة..