ملفات وتقارير

بعد مساعي النظام المصري لمحو أرشيف ثورة يناير وإعادة كتابة التاريخ.. ماذا تبقى؟

دائما ما يشوه النظام المصري ثورة يناير وينسب لها كل فشل- جيتي
بعد القضاء على جميع المنافسين السياسيين وإحكام السيطرة على جميع المنصات الإعلامية، احتكر رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي الحديث والسردية التاريخية الخاصة بثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، في محاولة لطمس ذاكرة المصريين عن الحدث واستبدالها بسردية جديدة تربط الثورة بـ"الخراب والدمار"، وذلك لمنع أي تفكير في تكرارها. 

ولم يتردد السيسي، دائما في خطاباته في التخويف من أحداث الثورة، وأن البلاد "كانت ستضيع" لولا تدخلات معينة، مشدّدا على ضرورة عدم تكرار المسار نفسه مرة أخرى٬ وأن "الله أنقذ البلاد من مصير دول مجاورة مثل سوريا واليمن". 



ويُترجم هذا الخطاب إلى واقع عملي يسير عليه النظام الحاكم منذ الانقلاب على الثورة في 3 حزيران/ يونيو 2013، حيث يعمل على بناء وقائع جديدة تهدف إلى محو هذا الحدث من ذاكرة المصريين، وربط الثورة بـ"الخراب والدمار"، وذلك لمنع أي تفكير في تكرار هذا الحراك. 

ويتجلى ذلك في سلسلة من الترتيبات والإجراءات، تبدأ بمحاولة فرض سردية جديدة تخدم رواية النظام، وصولاً إلى إجراء تعديلات دستورية شملت حذف الديباجة التي كانت تمجد الثورة، وذلك في إطار خلق ما يُطلق عليه "الجمهورية الجديدة"، التي يتحدث عنها مسؤولو النظام الحالي. 


السيسي: أصعب لحظات حياتي ثورة يناير
ويكرر السيسي حديثه عن ثورة يناير، مؤكدا أن "التغيير بالقوة قد يؤدي إلى خراب لا يمكن السيطرة عليه"، قائلا خلال جلسة نقاشية ضمن فعاليات منتدى شباب العالم في مدينة شرم الشيخ: "في مصر كان ممكن يحصل كده! ربنا تفضّل علينا كثيراً جداً إن احنا ما دخلناش هذا المصير". 

ويذكر أن السيسي قال إن "أصعب وقت مرّ عليه كان في عام 2011"، مشيرا إلى أنه كان "يبكي على مصر" خلال تلك الفترة، حين شعر أن الأمور قد تخرج عن السيطرة وتدخل البلاد في "دوامة كبيرة جداً من الخراب والدمار"، على حد تعبيره. 



وجاء ذلك خلال كلمة له في احتفالية لذوي الاحتياجات الخاصة بعنوان "قادرون باختلاف"، حيث وصف أحداث عام 2011 بأنها "أصعب موقف مرّ عليه" خلال عمله في القوات المسلحة، حيث كان يشغل منصب رئيس جهاز المخابرات الحربية. 

نشطاء يعيدون نشر أرشيف ثورة يناير بعد محوه
وفي سياق المحافظة على صورة الثورة الحقيقية من التشويه٬ ركّز نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي على نشر صور وفيديوهات توثق أحداث الثورة، وذلك في محاولة لتعويض قيام نظام عبد الفتاح السيسي بحذف أرشيف الثورة من القنوات والصحف.

ومن أبرز تلك القنوات التي تم محو أرشيفها كانت قناة "أون تي في"، التي كانت تُدار برئاسة ألبرت شفيق، المقرب من جهاز المخابرات العامة.


وجاءت هذه الخطوة من قبل النشطاء كرد فعل على محاولات النظام طمس ذكرى الثورة وإزالة أي توثيق مرئي أو مسموع لأحداثها، في إطار سعيه لفرض سردية جديدة تخدم روايته الخاصة.

يُعتبر فهم التاريخ بدقة عنصراً حيوياً لفهم المستقبل السياسي والاجتماعي لأي بلد، حيث يمكن للمجتمع من خلال ذلك تحديد الأصدقاء والأعداء عبر العصور. ومع ذلك، يسعى النظام المصري إلى تشتيت الانتباه عن هذا الفهم الدقيق، خاصة بعد الانقلاب الذي أطاح بحلم ثورة يناير 2011. 


وتظهر في مصر فجوة كبيرة بين الرواية التاريخية التي يروّج لها النظام وذاكرة الثورة الحقيقية. وتُمثّل محاولات النظام لمحو أرشيف الثورة تحديًا كبيرًا أمام الحفاظ على التاريخ بشكل كامل وفهمه بدقة.

ويضع النظام الحالي ثورة 25 يناير وانقلاب 30 حزيران/يونيو 2013 في إطار دستوري واحد، حيث تم ذكرهما بشكل متتالٍ في ديباجة الدستور المعدل عام 2019 تحت مسمى "ثورة"، مع التأكيد على أن الانقلاب جاء لتصحيح ما وصفه النظام بـ"الخراب" الناتج عن ثورة يناير.

ولا تُعتبر هذه الخطوة بسيطة، بل تشكل ركيزة أساسية يعتمد عليها النظام لطمس تفاصيل تاريخ مصر. 

تشويه المناهج الدراسية
وتظهر محاولات النظام لتشويه تاريخ الثورة أيضاً في المناهج الدراسية، كجزء من استراتيجية متعمدة. فعلى سبيل المثال، تم حذف نص بعنوان "ثورة العصافير" من مادة اللغة العربية للصف الأول الابتدائي، والذي كان يتحدث بشكل مبسط عن ثورة يناير.


وتم حذف فصل من مادة الفلسفة في المرحلة الثانوية يتناول فلسفة الثورات، متخذًا من ثورة يناير نموذجًا تطبيقيًا. وجاءت هذه التعديلات تحت ذريعة تخفيف العبء الدراسي، لكن هدفها الحقيقي هو تسليط الضوء على ما يُسمى بـ"ثورة 30 يونيو"، وإزالة تأثير ثورة يناير تدريجيًا من ذاكرة الأجيال القادمة. 


ولا تقتصر محاولات النظام على المناهج الدراسية، بل تمتد إلى المحو المادي لأرشيف الثورة، حيث تم حذف مواد إعلامية متعلقة بها من وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة منصة يوتيوب. وشمل ذلك حذف حلقات كاملة من برامج تلفزيونية، بينما ظهر خطاب إعلامي يتناول ثورة يناير بشكل سلبي، مصورًا إياها على أنها مرحلة كارثية. 

نشطاء وأكاديميون يخلقون رواية بديلة
وفي كانون الثاني/ يناير 2017، أطلق ناشطون مصريون موقعًا إلكترونيًا بعنوان "أرشيف 858"، بهدف توثيق جميع أحداث ثورة يناير منذ بدايتها حتى نهاية عام 2017. ويحتوي الموقع على أرشيف كامل للثورة، بما في ذلك الصور والفيديوهات والوثائق التي تسجل تفاصيل تلك الفترة. وقد لاقى الموقع احتفاءً وتقديراً واسعين عند إطلاقه، كونه يمثل مرجعاً مهماً للحفاظ على ذاكرة الثورة. 

إلى جانب النشطاء، يسهم أكاديميون مصريون ومتخصصون في مختلف المجالات في خلق رواية بديلة لثورة يناير، من خلال الكتابة والتوثيق والتحليل. ويهدف هؤلاء إلى ترك أثر دائم للثورة يمكن للأجيال القادمة الاعتماد عليه كمرجع تاريخي، في مواجهة محاولات النظام طمس هذه الذاكرة وإعادة كتابة التاريخ وفق روايته الخاصة.


النظام يمحو معالم الثورة من ذاكرة القاهرة
وظهرت العديد من الكتب والإنتاجات الأكاديمية التي تسعى لتوثيق ثورة يناير 2011 بشكل بصري، ومن أبرزها كتاب "جدران الحرية" الذي صدر عام 2013، والذي يسلّط الضوء على تاريخ الثورة من خلال الجداريات ورسوم الغرافيتي التي انتشرت في الشوارع، خاصة في شارع محمد محمود بالقاهرة، والذي تحوّل إلى رمز للمقاومة والإبداع الثوري. 


وقامت الحكومة المصرية بإعادة طلاء الجداريات الثورية في ميدان التحرير، مدعية أن ذلك جاء في إطار "ضرورة إجراء الترميمات". كما تم تركيب كاميرات مراقبة في المناطق المركزية، بالتزامن مع نقل المكاتب الحكومية بعيداً عن قلب القاهرة إلى العاصمة الإدارية الجديدة. ويرى الباحث جينيفي شينديهوت أن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة "سيمحو مباني الحكومة من ذاكرة المقاومة". 

ويُعد مقر الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سابقاً أحد أبرز المعالم المرتبطة بثورة يناير. ويقع المبنى التاريخي على كورنيش النيل بالقرب من ميدان التحرير والمتحف المصري، وقد احترق أثناء الاحتجاجات في 28 كانون الثاني/ يناير 2011. وعلى الرغم من أن هوية من أشعلوا الحريق ما تزال مجهولة، إلا أن المبنى المحترق تحول إلى رمز لانتصار الثورة على نظام مبارك. 

وفي إطار الجهود الرامية إلى طمس هذا الانتصار من ذاكرة الشعب، قرر النظام هدم المبنى. كما قام بهدم أول نصب تذكاري بناه الثوار لشهداء 25 يناير في ميدان التحرير، بعد تنحي مبارك مباشرة، في محاولة واضحة لمحو أي أثر يذكر بالثورة وانتصاراتها.