قضايا وآراء

الإسلام ومفهوم المقاومة والثورة

"الإسلام يُعلِّمُ الأمةَ أن تواجه الظالم وأن تزأر في وجهه "لا"- جيتي
أضحت كلمة "المقاومة" من الكلمات الشائعة التي يثور لغَط كثير حولها وحول مشروعيتها، وخاصة إذا ارتبطت بحركات وفصائل مسلحة ويثور الجدل أيضا حول علاقة الدين بالمقاومة أو الثورة، فبين من يستخدم نصوص الدين لإثبات وجوبها وتثوير الشعوب بها، وبين من يقول بتحريمها وتخنيع الشعوب بالاستدلال ببعضها، فأردت في هذا المقال أن نبحث عن الحقيقة من جذورها.

ابتداء، كلمة "مقاومة" لها مرادفات كثيرة منها احتجاج، اعتراض، تصد، مجابهة، مواجهة، جهاد، قتال، كفاح، نضال.. وقد تعجب أن "المقاومة" من سنن الله في كل شيء وبغير "المقاومة" يختل ميزان الحياة بأسرها.

فمثلا خُلق الله الإنسان وأودع فيه جهاز "مقاومة" وهو الجهاز المناعي يواجه الأمراض والسموم ويهاجم الفيروسات والبكتيريا والأجسام الغريبة، وإذا ضعفت "المقاومة" كان الجسم عُرضة للأمراض وإذا زادت عن الحد اللازم تسببت في كثير من الأمراض؛ لأن فرط نشاط الجهاز المناعي يُفقده معرفة البصمة الجينية للخلايا فيفقد قدرته على التمييز بين العدو والصديق فبدل أن يهاجم البكتيريا والفيروسات والسموم والخلايا الورمية، فإذا به يهاجم خلايا الجسم فيسبب ما يسمى بأمراض المناعة الذاتية مثل النزيف والجلطات الدموية وتلف العظام والمفاصل والصدفية واللوكيميا وغيرها، لذلك لا بد من وجود "المقاومة" وفي ذات الوقت ينبغي أن تكون منضبطة ومُوَجهة.

وفي عالم الفيزياء والكهرباء تحتل "المقاومة" أهمية كبيرة تتميز بها الموصلات المعدنية في الدوائر الكهربية، فـ"المقاومة" هي "المعارضة" التي تقدمها المادة لتدفق التيار الكهربائي في الدائرة لذلك فهي تتناسب عكسيا مع شدة التيار، وهي ثابتة أو متغيرة ولها أربع أنواع كربونية وسلكية وحرارية وضوئية ومع تعدد أشكال "المقاومة" يلزم وجودها للمحافظة على الأجهزة وحمايتها، وكذلك يوجد ما يسمى بـ"مقاومة" الهواء وهي القوة التي يصادفها جسم متحرك في الهواء. ولو استعرضت معالم الحياة بأسرها لا تجدها بغير "مقاومة"، والثورة والمقاومة صنوان لا يفترقان فلا ثورة بغير مقاومة. ومن مرادفات كلمة "ثورة" فورة، هبّة، انتفاضة، عصيان. ومن أضداد كلمة "ثورة" رضوخ، خمود، همود، سكون، إذعان.

لو استعرضت معالم الحياة بأسرها لا تجدها بغير "مقاومة"، والثورة والمقاومة صنوان لا يفترقان فلا ثورة بغير مقاومة. ومن مرادفات كلمة "ثورة" فورة، هبّة، انتفاضة، عصيان. ومن أضداد كلمة "ثورة" رضوخ، خمود، همود، سكون، إذعان
وقد يحسن بنا تعريف "المقاومة" بأنها مواجهة القوة الغاشمة بما يُستطاع من قوة مع حسن التقدير والتدبير.

وهنا يثور السؤال الأساس: ما علاقة الإسلام بالمقاومة والثورة؟

والإجابة أن الإسلام دين ثورة ومقاومة، نعم ثورة على كل أشكال الظلم والفساد والاستبداد والاستعباد، الإسلام دين يشترط للدخول فيه قول "لا"، أَوَ ليست كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" تبدأ بلا؟ الإسلام دين ثورة يدعو أصحابه أن يقولوا "لا"، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" (رواه الحاكم وصححه وكذا الألباني)، فعد المقاوم للسلطان الجائر القائل له "لا" والمقتول في سبيل ذلك سيد الشهداء.

الإسلام يُعلِّمُ الأمةَ أن تواجه الظالم وأن تزأر في وجهه "لا" وإلا فلا قيمة لوجودها، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوِدع منهم"، أي فقدت أهلية الحياة (رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي)، ويقول الفاروق عمر رضي الله عنه: "يُعجبني الرجل إذا سِيمَ خُطة ضَيْمٍ؛ قال لا بملء فيهِ".

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قُتل دون ماله فهو شهيد ومن قُتل دون دينه فهو شهيد ومن قُتل دون دمه فهو شهيد ومن قُتل دون أهله فهو شهيد"، وفيه "ومن قُتل دون حرمته فهو شهيد"، وفيه "ومن قُتل دون أرضه فهو شهيد" (الترمذي والنسائي وأحمد وصححه الألباني).

"وجاء رجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّه ﷺ فَقَال: يَا رسولَ اللَّه أَرأَيت إنْ جاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلا تُعْطِهِ مالكَ قَالَ: أَرأَيْتَ إنْ قَاتلني؟ قَالَ: قَاتِلْهُ. قَالَ: أَرأَيت إنْ قَتلَني؟ قَالَ: فَأنْت شَهيدٌ قَالَ: أَرأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ" (رواهُ مسلمٌ).

وقد أمرنا الإسلام بـ"مقاومة" المنكر ليس لإزاحته فقط بل لتغييره يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "مَن رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (رواه مسلم).

ومع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة الآمرة بمقاومة الظلم ومواجهة الجور والثورة في وجوه الطغاة تتعجب من هؤلاء الذين يستشهدون ببعض الأحاديث، مع عدم صحتها أو ضعفها ومعارضتها لما هو أصح منها بغرض تخنيع الناس وسلب كرامتهم، فيسوقون مثلا عُجُز حديث في صحيح مسلم "أطع أميرك وإن جلد ظهرك وأخذ مالك"، ولي وقفة معه، فالحديث ليس في أصول أحاديث مسلم بل في المتابعات، وقال الدارقطني إن في سنده انقطاع (قال أبو سلام قال حذيفة)، وأبو سلام لم يسمع من حذيفة كما نص على ذلك الدارقطني وابن حجر والمزي ولذلك عده الدارقطني مرسلا وهو من أنواع الحديث الضعيف، وإن صح فهو يخالف ما هو أصح منه مما سقناه من الأحاديث السالفة وغيرها مما يَعِز حصره. وقد وجدنا بعض مشايخ السلاطين يفتى بأنك إذا رأيت الحاكم كل يوم يزني ويليط على شاشة التلفاز نصف ساعة فلا يجوز أن تؤلب الناس عليه بل يجب عليك أن تدعوهم لطاعته!!

هؤلاء يحرمون على الناس عبادة الأصنام الحجرية ويوجبون عليهم عبادة الأصنام البشرية، ويستشهدون بشطر حديث "وألا ننازع الأمرَ أهله"، نعم صحيح ولكن لماذا لا تذكرون بقية الحديث في رواية النسائي وأن نقول أو نقوم بالحق، حيث كنا لا نخاف لومة لائم. وأيضا ما المقصود بأهله؟ هل الإمام المبايَع أم المتغلب؟ هل الذي جاء بقبول الناس ورضاهم باختيار صحيح وانتخابات حرة نزيهة أم الذي جاء بانقلاب عسكري على إمام مُبايَع؟ أم الذي جاء بالتوريث ويقوم حكمه على الجور والقهر وطمس معالم الدين؟ أم الذي يوالي أعداء الله ورسوله ويسارع فيهم؟ هلا عرفتم لنا أهله حتى لا ننازع الأمر أهله؟.
الإسلام لا يعرف هذا الخنوع والذل ولا يرضى لأمته أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء أي منكر أو بغي بل أوجب عليهم مقاومته ومدافعته وجعل التدافع بين الحق والباطل من السنن الإلهية حفظا لاستقامة الحياة واعتدال ميزانها، وهي سنة ربانية

إن الإسلام لا يعرف هذا الخنوع والذل ولا يرضى لأمته أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء أي منكر أو بغي بل أوجب عليهم مقاومته ومدافعته وجعل التدافع بين الحق والباطل من السنن الإلهية حفظا لاستقامة الحياة واعتدال ميزانها، وهي سنة ربانية جاء تقريرها في القرآن الكريم بصفة عامة والتنصيص عليها في آيتي البقرة والحج بصفة خاصة:

- "وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ" (البَقَرَةِ: ٢٥١).

"وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰ⁠مِعُ وَبِیَعࣱ وَصَلَوَٰ⁠تࣱ وَمَسَـٰجِدُ یُذۡكَرُ فِیهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِیرࣰاۗ وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ" (سُورَةُ الحَجِّ: ٤٠).

وشاءت إرادة الله أن يكون التدافع بين الحق والباطل والجولات بينهما سُنٌةُ ماضية لا تعرف حدود الزمان والمكان ولا نهاية لها إلا بنهاية الدنيا، ومن اليقين الجازم أن الله قادر على سحق الباطل وأهله بدون أحد، ولكنه شرع "المقاومة" وأمر بالجهاد وسَنن التدافع وضرب لنا الأمثلة بأعظم "المقاومين" من رسل الله وأنبيائه ومن تبعهم بإحسان، ولك أن تسأل هؤلاء لماذا حوكم أبو الأنبياء إبراهيم الخليل وحُكم عليه بالإعدام حرقا؟ أَوَ ليس لأنه كان مقاوما للكفر وأهله؟ واسألهم لماذا حوكم نبي الله لوط وحُكم عليه بالنفي؟ أليس لأنه كان مقاوما لتلك الفاحشة المرذولة؟ ولماذا قُطعت رأس نبي الله يحيى؟ ولماذا حُكم يوسف بالسجن؟ ولماذا صلب فرعون زوجته آسية على الأوتاد؟ ولماذا أحرق ماشطة ابنته وزوجها وأولادها؟ وكيف قاوم كليم الله موسى فرعون وهامان وقارون؟ ولماذا خُدت الأخاديد وألقيت فيها تلك الثلة المؤمنة؟ ولماذا أعلنت قريش الحرب على سيد الخلق؟ لماذا تسألهم، فالقرآن حافل بقصص المقاومة والثورة على الكفر والظلم والبغي والمنكر ويحذر من مجرد الركون إلى الذين ظلموا، ويكأنهم يريدون طي المصاحف كما يطوى السجل الكتاب ويضعونها على الأرفف ثم يتخلصوا منها، وتمضى سُنّة التدافع ليختبر الله أهلَ الحق ويبلوَ أخبارهم.

- "ذَ ⁠لِكَۖ وَلَوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَٱ نتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَا۟ بَعۡضَكُم بِبَعۡضࣲۗ وَٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِي سَبِیلِ ٱللَّهِ فَلَن یُضِلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ" (سُورَةُ مُحَمَّدٍ: ٤) فإذا أخذوا بالأسباب وقاموا بواجبهم أعانهم الله وساعدهم.

- "قَـٰتِلُوهُمۡ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَیۡدِیكُمۡ وَیُخۡزِهِمۡ وَیَنصُرۡكُمۡ عَلَیۡهِمۡ وَیَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمࣲ مُّؤۡمِنِینَ" (سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ١٤).

وأهل الحق المجاهدون في سبيله المقاومون لأشكال الظلم والبغي والاستبداد والاستعباد مأجورون في جميع الأحوال، فإن انتصروا عاشوا أعزة كرماء ونالوا الأجر وإن قُتلوا ماتوا شهداء وفازوا بالأجر..

وإنه لجهاد، نصرُ أو استشهاد.