يعتقد كثير من الدارسين لتاريخ الشعوب
العربية والإسلامية الحديث منها والمعاصر، أن معارك الانتقال الديمقراطي وبناء
الدولة المدنية في العالم العربي، انطلقت منذ بواكير القرن العشرين، بعد أن تمكن
المستعمر الغربي من إسقاط الدولة العثمانية، وبسط سلطاته على معظم المناطق العربية. وضمن هذا المسار، يصنفون مختلف التحولات السياسية التي شهدتها العديد من الدول
العربية في المشرق والمغرب، منذ ثورة 1952 في مصر.
لكن تلك التحولات، تم تصنيفها ضمن محاولات طي
صفحة الهيمنة الغربية الاستعمارية على منطقتنا العربية، وبعضهم نظر إلى تلك
التحولات على أنه جزء، ولم يكن الحلم الديمقراطي وقتها قد تشكل بوضوح تام، إلى أن
جاءت أحداث أكتوبر من العام 1988 في
الجزائر، خلال حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن
جديد رحمه الله، التي دشنت عهد التعددية السياسية
وإنهاء نظام الحزب الواحد.
وقد نجم عن تلك الأحداث فوزا ساحقا للجبهة
الإسلامية للإنقاذ التي فازت بالانتخابات البلدية، ثم بالانتخابات التشريعية وكانت
قاب قوسين أو أدنى من قيادة البلاد، لولا أن المؤسسة العسكرية الجزائرية وقتها رفضت
التسليم بخيار الشعب الجزائري، وطلبت من الرئيس الراحل
الشاذلي بن جديد إلغاء
الانتخابات والدعوة لإعادتها، إلا أنه رفض ذلك واختار الاستقالة عن الانقلاب على
إرادة الناخب الجزائري.
الكاتب والمؤرخ الجزائري أحمد بن نعمان،
يعيد في هذه
الشهادة التاريخية التي يكتبها خصيصا لـ
"عربي21"، التذكير
بسيرة واحد من القادة الجزائريين، الذين انحازوا لخيار الشعوب وحقهم في تقرير
المصير، بعيدا عن وصاية الداخل والخارج.
حالة متميزة
يولد الناس سواسية في الشكل ولا يموتون كذلك
في الفضل والفرق بين هذا الوضع وذاك، هو عمر من الكفاح والعمل المتواصل، حسب
المواهب والمكاسب للحسنات والسيئات بكامل الإرادة والمسؤولية، على اعتبار أن
الله قد خلق الناس أحرارا في الاختيار بين طريق الجنة أو طريق النار.
ولذلك، فالتاريخ لا يحاسب المرء على قلة علمه
أو شكل جسمه، ولكنه يحاسبه على فعله خيره وشره، كرمه وبخله، عدله وظلمه، ولون قلبه
الذي يتحكم فيه، وليس لون جلده الذي يفرض عليه، هذا هو المقياس الذي يحكم به على
الناس بعد رحيلهم من الدار الفانية إلى الدار الباقية، ونحن هنا أمام حالة غير
عادية من ناحية الأبعاد القيمية للرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد، صاحب
العديد من الخصائل والفضائل والمواقف والأيادي البيضاء على البلاد والعباد، التي
تذكر له بكل أمانة وموضوعية في المحطات التالية:
أولا ـ البعد الديني والوطني:
بالنسبة للتنشئة الدينية للرئيس الراحل كما
يحدثنا عنها هو بنفسه، نجدها في قوله عن والده بأنه كان ينتمي إلى إحدى الطرق
الصوفية، وقد ورث هو عن والده هذه الروح الدينية والوطنية، وهو ما يذكره الشيخ محمد
متولي الشعراوي في حديثه عن ذكرياته في أثناء إقامته في الجزائر في الستينيات من
القرن الماضي (1966 ـ 1970 )، كرئيس للبعثة الأزهرية، فيقول بأنه كان يلقي درسا في
أحد المساجد في وهران، وكان مستعجلا ليعود إلى العاصمة في اليوم ذاته، فطلب منه
العقيد الشاذلي بن جديد (الذي كان من بين الحاضرين وكان حينها رئيس الناحية
العسكرية الخامسة)، أن يقضي يومه في وهران ويوصله هو بنفسه إلى العاصمة بسيارته
التي كان يقودها وبجانبه الشيخ الشعراوي، ويذكر الشيخ أحداثا طريفة ذات عبرة فائقة
وقعت لهما في الطريق، قرب مدينة مستغانم (مروية بلسانه في أحاديث تفسيره للقرآن، وهي
موجودة على اليوتوب).
أما دوره في هذا المجال الديني والدعوي (غير
المباشر) الذي قام به في أثناء فترة رئاسته للجزائر (من 1979 إلى 1992)، فهو حرصه على
إنجاز بناء مسجد وجامعة الأمير عبد القادر، الذي كان نائما في الأدراج لسنوات قبل
مجيئه، ويعود له الفضل الأكبر في إتمام هذا المشروع الشامخ، ليس في الجزائر فحسب، بل
في العالم الإسلامي بأسره. وكذلك حرصه على استقدام الشيخ محمد الغزالي، بتوصية من
الشيخ عبد الرحمن شيبان (وزير الشؤون الدينية في ذلك الوقت)، كما يذكر ذلك بنفسه
رحمه الله، وهو ما تعبر عنه هذه الجمل الصادقة والوفية للإسلام وأهله المخلصين، الواردة في وسام الاستحقاق الذي وشى به صدر الإمام الغزالي بمناسبة حفل تكريمه عند
مغادرته الجزائر سنة 1989 حيث يقول: "نحن الشاذلي بن جديد، رئيس الجمهورية،
صدر مصف الاستحقاق الوطني نقلد: الشيخ العلامة محمد الغزالي وسام الأثير من مصف
الاستحقاق الوطني؛ إكبارا لجهوده الجليلة والمستمرة في نشر العلم والمعرفة
الإسلامية، وإشادة بدوره في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتقديرا
لعمله الدؤوب المتواصل في إشعاع الشريعة الإسلامية السمحاء والدفاع عن قيمها
الأصيلة، وتنويها بمساهمته الفعالة في ترسيخ البحث العلمي، خاصة في أثناء وجوده بجامعة
الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، وفي إطار ملتقيات الفكر الإسلامي".
"أعطت الديمقراطية للشعب الجزائري اختيار الإسلاميين بكل حرية، تماما كما حدث في فلسطين عندما انتخب الشعب الفلسطيني الإسلاميين من حركة حماس، كان اختيار الفلسطينيين للإسلاميين عقابا وردّا على التصرفات والأخطاء التي ارتكبتها حركة فتح بحق الفلسطينيين ونهب أعضائها للمال العام، وهذا بالضبط ما حدث في الجزائر، عندما انتقم الشعب من تصرفات المسؤولين في جبهة التحرير الذين ارتكبوا أخطاء كبيرة في حق الشعب الجزائري ونهبوا أمواله، هذه هي الحقيقة".
وعن إسلامه الصادق وإيمانه العميق (كمجاهد
في سبيل الله والوطن) بالقدرة الإلهية التي حمت ثورة جهادنا الأصغر المظفر، يقول
في مقابلة له مع جريدة الشعب الصادرة بتاريخ 1980/02/26: "في البداية، أحب أن
أقول بأن العامل الديني كان أساسيا في نجاح الثورة الجزائرية. فمن جهة كان الدين هو
السياج الذي حمى مقومات الشخصية الجزائرية طوال فترة الاحتلال، كما كان أساسا
للوحدة الوطنية خاصة خلال الحرب التحريرية، ومن جهة أخرى، فإن الدين هو عامل إيجابي
في بناء المجتمع؛ لأن الإسلام بالنسبة لنا هو دين العدالة الاجتماعية الحقيقية،
ولقد نشأت شخصيا في أسرة متدينة، وكان لهذا أثر كبير في نشأتي، تدعم بعد ذلك خلال
حربنا التحريرية بالأحداث التي عشناها، وأحسسنا فيها بالقدرة الإلهية التي حمت
ثورتنا، وكانت سلاحنا الأساسي لتحقيق هذا النصر المبين".
ثانيا ـ البعد السياسي:
وعن هذا البعد الذي كان يعبر عن موقفه من
الزلزال العنيف، الذي ضرب أمل الشعب الجزائري في تحقيق أول ربيع عربي واعد سبق به كل أقطار الأمة في شهر أكتوبر من سنة
(1988)، يجيب سائله من مجلة (جامعة صوفيا للدراسات الآسيوية) أجراه معه سنة 2008
في الجزائر، وقد أعادت نشره جريدة الشروق اليومي بتاريخ 16 أكتوبر 2012 عن ثلاثة
أسئلة تتعلق بمأساة الجزائر التالية، وموقفه منها بما يستشف من إجابته الصريحة
والواضحة على الأسئلة عدم رضاه على مصادرة إرادة الشعب الجزائري، من طرف الذين
خيروه بين التنحي أو تدمير الجزائر، فاختار موقف الرئيس بن يوسف بن خدة التاريخي
إثر انقلاب العسكر على الشرعية الثورية والديمقراطية الشعبية سنة 1962. (انظر
مقالنا في "عربي21" عن الرئيس بن يوسف بن خدة أول سوار الذهب في تاريخ
العرب ليوم 9 أغسطس 2024).
يقول نص السؤال الأول الموجه من المجلة إلى
الرئيس الشاذلي بن جديد: لماذا استطاعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) تحقيق نتائج
كبيرة في انتخابات 1990؟
الجواب: "أعطت الديمقراطية للشعب
الجزائري اختيار الإسلاميين بكل حرية، تماما كما حدث في فلسطين عندما انتخب الشعب
الفلسطيني الإسلاميين من حركة حماس، كان اختيار الفلسطينيين للإسلاميين عقابا
وردّا على التصرفات والأخطاء التي ارتكبتها حركة فتح بحق الفلسطينيين ونهب أعضائها
للمال العام، وهذا بالضبط ما حدث في الجزائر عندما انتقم الشعب من تصرفات
المسؤولين في جبهة التحرير، الذين ارتكبوا أخطاء كبيرة في حق الشعب الجزائري ونهبوا
أمواله، هذه هي الحقيقة".
ونص السؤال الثاني يقول: "كما
هو معروف، لم تقبل الحكومة الجزائرية بنتائج الانتخابات 1991 وحظرت الجبهة
الإسلامية للإنقاذ ( FIS)،
وكانت النتيجة مأساوية، وراح ضحيتها أكثر من مائتي ألف قتيل في ذلك الوقت. هل
تعتقد أنه لو قبلت الحكومة نتائج الانتخابات وتعاملت معها كما يجب في إطار القانون،
لتجنبت البلاد كل تلك الأحداث التي تبعتها؟".
الجواب: "طبعا، كان يتوجب أن تعالج المشاكل
التي اندلعت بعد الانتخابات في إطار البرلمان. وبصراحة أنا لا أتهم كل جبهة
التحرير، ذلك لأن البعض في جبهة التحرير قبلوا نتائج الانتخابات، وفضلوا أن تقوم
الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS ) بتعيين حكومتها، ومن
ثم نقوم بنقل الصراع سياسيا إلى داخل البرلمان، من خلال طرح وجهات النظر المختلفة.
كان المفروض ألا تصل الأمور إلى تلك الأزمة الخطيرة التي مازلنا نعاني منها حتى
الآن. أنا كنت مع الإطار الديمقراطي، وبما أن الشعب اختار الطرف الآخر
(الإسلاميين)، كان يتوجب علينا تسليمهم الحكومة والسماح لهم بالإمساك بزمام الأمور
في الجزائر، لكن بعض أعضاء جبهة التحرير (يقصد الجناح الموالي للمؤسسة العسكرية)، خافوا على أنفسهم وطلبوا مني إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها من جديد، لكني رفضت
طلبهم احتراما مني للدستور، وتنفيذا للوعد الذي قطعته على نفسي عندما أقسمت على
القرآن الكريم أنني أحترم إرادة الشعب الجزائري، لذلك لم أطلب من الشعب أن يعيد
النظر في اختياره للإسلاميين. وماذا كان سيقول الرأي العام الجزائري والدولي عني
لو أنني قمت بإلغاء الانتخابات؟ لكانوا قد ظنوا أن الإصلاحات التي قام بها الشاذلي
كانت عبارة عن مناورة للبقاء في السلطة. ولهذا السبب، قررت ترك الحكم وقدمت
استقالتي احتراما لخيار الشعب الجزائري".
ونص السؤال الثالث الذي قدمته المجلة للرئيس
الشاذلي يقول: "كان على أصحاب القرار القبول بحكومة الجبهة الإسلامية للإنقاذ،
أليس ذلك صحيحا؟".
الجواب: "نعم، هذا صحيح، لو أن
"الحكومة" القائمة قبلت بنتائج الانتخابات، لما كنا قد وصلنا إلى ذلك
الوضع الخطير. لقد أردت من الشعب الجزائري أن يتحمل مسؤولية اختياره لممثليه بكل
حرية، ومن خلالهم تشكيل الحكومة كان يجب
علينا احترام خيار الشعب الجزائري، ومنح الفرصة للجبهة الإسلامية للإنقاذ ( FIS) في تشكيل
الحكومة. كان ينبغي الحكم على الجبهة الإسلامية للإنقاذ من خلال القوانين
والإجراءات الدستورية التي تحكم البلد، والخروج عن إرادة الشعب وخياره في
الانتخابات كان خطأ كبيرا جدا".
بما أن الشعب اختار الطرف الآخر (الإسلاميين)، كان يتوجب علينا تسليمهم الحكومة والسماح لهم بالإمساك بزمام الأمور في الجزائر، لكن بعض أعضاء جبهة التحرير (يقصد الجناح الموالي للمؤسسة العسكرية)، خافوا على أنفسهم وطلبوا مني إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها من جديد، لكني رفضت طلبهم احتراما مني للدستور، وتنفيذا للوعد الذي قطعته على نفسي عندما أقسمت على القرآن الكريم أنني أحترم إرادة الشعب الجزائري.
ومما يذكر للرئيس الراحل أيضا من مواقف
وطنية وسياسية شجاعة في محاربة رموز حزب فرنسا في الجزائر، الذين ثاروا عليه لما
بدأ يفكر في تطبيق الدستور فيما يتعلق باستكمال مقومات السيادة الوطنية المتمثل
على الخصوص، في تطبيق المادة الثالثة منه، والخاصة باللغة الوطنية المنصوص عليها في
أول دستور وطني صادر سنة 1963، الذي بقي (شاهد زور) في تطبيق هذه المادة السيادية طوال
عهدة بومدين وعهدة الشاذلي كليهما (بل وما
تزال على حالها المتذبذب حتى الآن)، إلى أن يثبت العكس الذي لم يحدث بعد، ولن يحدث حتى يطبق قانون اللغة العربية الذي وقعه
الرئيس الشاذلي، وذهب دون تطبيقه وجدد تفعيله الرئيس اليمين زروال، ولكن المتربصين
بالكنز الفرنكوفوني الأفريقي ذهبوا بالرئيسين المجاهدين واضعي القانون المصيري، وبقي
هو مجمدا يشهد عليهما حتى الآن، دون إلغاء رسمي أو تطبيق فعلي ممن تعاقبوا بعدهما
على رئاسة البلاد بالانقلاب أو بالانتخاب.
وتفصيل ذلك كله، موجود بالوثائق في كتاب:
(مصير وحدة الجزائر بين أمانة الشهداء وخيانة الخفراء!!) الصادر عن دار الأمة
بالجزائر ( 2005 ).
ونعود إلى سنة 1980 حيث ألقى الرئيس الشاذلي
بن جديد خطابا إثر اضطرابات وقعت في مناطق من البلاد، بإيعاز من المحتل السابق ذاته
الذي أُخرِج بالقوة من البلاد، وفي نفسه شيء كثير من الحقد على تلك المقومات
الوطنية التي أخرجته، وفي نفسه شيء كثير من الحقد عليها والرغبة في الثأر منها ومن رجالها الأوفياء، وقد تكرست في
عهد الرئيس الشاذلي بقرارات مهمة تخص تعميم استعمال اللغة العربية، للتخلص من هيمنة
اللغة الفرنسية في الإدارة الوطنية.
وكان الرئيس قد أصدر العديد من المراسيم
الرئاسية لصالح تعريب الإدارة ولغة التدريس وإنشاء المجمع الجزائري للغة العربية.
فأثيرت اضطرابات ونظمت مظاهرات تحت شعارات
مختلفة بعضها ملفوف وجلها مكشوف. وعلى إثر ذلك، ألقى الرئيس الشاذلي خطابا قال فيه:
"لقد ضربنا الاستعمار لرأسه... حرك ذنبه". وقد كتبت مقالا بعدها في
جريدة السلام بعنوان: "هل ننتظر من الاستعمار أن يقطع ذنبه يا سيادة الرئيس؟)
منشور في العدد الصادر يوم 11 يناير 1991 وذلك بسنة كاملة قبل
أن يقع الفأس في الرأس، ويتم إلغاء الشرعية الشعبية من طرف أصحاب "غنيمة
الحرب" الفرنسية، الذين كانوا وراء الانقلاب العقابي.
وأذكر أنهم قالوا بعد مصادقة البرلمان بالإجماع
على قانون اللغة العربية سنة 1990، وكان ينص في إحدى مواده (المبيتة) التي تقضي
بتأجيل تطبيقه إلى ما بعد سنتين من صدوره في الجريدة الرسمية بتوقيع الرئيس
الشاذلي بن جديد، أنه لا يدخل حيز التطبيق حتى سنة 1992، وهي سنة الانقلاب المحضر له
على مكث في المخابر بفرنسا والجزائر. وقالوا لنا حينها كما هو ثابت وموثق في أبواقهم الناطقة بلسانهم: "ومن أدراكم أنكم ستبقون حتى تطبقوه بعد سنتين؟".
وهذا ما قد وقع بالفعل، حيث تمت مصادرة
الإرادة الشعبية بالانقلاب، وإلغاء نتائج الانتخاب، وجمد القانون يوم إحياء الذكرى الثلاثين للاستقلال، وهو اليوم الذي كان مقررا أن يوضع
فيه القانون السيادي حيز التطبيق في مؤسسات دولة الاستقلال، الذي دفع من أجله الشعب
الجزائري أغلى ثمن من الشهداء في التاريخ المعاصر، مثل فلسطين في الوقت الحاضر، وحلت
بعده العشرية الحمراء ثم السوداء محل الأمن والرخاء، وعم الخراب كل الأرجاء كما
اعترف بذلك الرئيس الشاذلي ذاته، في حديثه السابق كواحد من الملايين المتألمين لما
حدث من خيانة الخفراء لأمانة الشهداء، وحينها صغت مقولة عن قوله المأثور في الخطاب
المذكور "ضربنا الاستعمار لرأسه حرك ذنبه"، فقلت: "لقد تأخر
الشاذلي في قطع الذنب، فذهب به الذنب وما كسب".
ثالثا ـ البعد القومي العربي الإسلامي:
وفي هذا الإطار، يمكن أن نذكر له مساعيه
الحميدة الصادقة التي قام بها لتفادي حرب الخليج الثانية التي نتجت عن غزو العراق
للكويت سنة 1990، وقبلها أيضا بذل أقصى جهده المخلص في محاولة إطفاء نار الحرب
التي اشتعلت بين العراق وإيران في بداية الثمانينيات، التي ذهب ضحيتها ملايين
الأشقاء من المسلمين بين البلدين، وكان من ضحايا تلك الحرب (المجنونة) مقتل وزيرنا
للخارجية محمد الصديق بن يحيى، والوفد المرافق له الذي أسقطت طائرته الخاصة بصاروخ
عراقي من صنع روسي، ونظرا لحسه القومي (رحمه الله)، لم يرد أن يصرح للشعب الجزائري،
بالقاتل الحقيقي لكي لا يزيد في توسيع شرخ الجدار القومي، الذي لم يكن ليستفيد منه
إلا أعداء وحدة الأمة في الداخل والخارج، ولقد كنت حاضرا في اجتماع خاص معه في مقر
وزارة الداخلية، التي كنت أشغل منصب مستشار بها مكلفا بملف التعريب (على المستوى
الوطني) جمعنا بولاة الوطن سنة 1984، حينها صرح بهذه الحقيقة التي نذكرها للتاريخ
كموقف قومي للرجل المسؤول، الذي يزن الأشياء، ويقدر عواقب الأمور.
وأشهد للتاريخ على تواضعه ووفائه لمن كان
مرؤوسا لهم في أثناء الثورة المسلحة، أن آخر مرة التقيت به كان في الملتقى الدولي
للفكر الإسلامي المنعقد في فندق الأوراسي بالجزائر العاصمة (في شهر سبتمبر سنة
1988)، وقد زار الملتقى ونظم حفل استقبال على شرف العلماء من معظم دول العالم
الإسلامي، وعندما دخل علينا في قاعة الاستقبال، صادف أنني كنت واقفا بجنب أحد كبار
قادة الثورة الجزائرية (رفيق بلقاسم كريم وسلف العقيد عميروش على رأس الولاية
الثالثة التاريخية)، ألا وهو العقيد السعيد محمدي (المعروف بسي ناصر)، الذي أصبح
قائد أركان القاعدة الشرقية على الحدود التونسية، مقابل العقيد هواري بومدين على
الحدود الغربية بالمغرب الشقيق قبل توحيد قيادة الأركان تحت رئاسة بومدين وحده سنة
1960، وظل كذلك حتى توقيف القتال في 19 مارس سنة 1962. وكان الشاذلي بن جديد وقتها
ضابطا برتبة ملازم أول، تحت قيادة العقيد محمدي السعيد الذي كنت واقفا بجانبه عند
الاستقبال، فصافحني الرئيس الشاذلي أولا، ثم صافح الذي يليني في الصف مباشرة، وهو
عميد العقداء وأول وزير للمجاهدين في حكومة الاستقلال ونائب رئيس الجمهورية أحمد
بن بلة، حتى الانقلاب عليه في 19 يونيو سنة 1965، فصافحه الرئيس الشاذلي بحرارة وظل
ممسكا بيده، ثم نظر إليه وقال له: "لم أنس الموضوع" فشكره مرافقي الذي أتى
يومها لتشريفي بحضور محاضرتي في الملتقى المذكور. وقد كنت ملازما له منذ خروجه
من تحت الإقامة الجبرية بعد وفاة بومدين (ديسمبر 1978)، وبقيت على اتصال دائم به
طوال الثمانينيات حتى وفاته رحمه الله في ديسمبر من عام 1994، وقد كان عضوا نشيطا
في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، حتى الانقلاب على الإرادة الشعبية والجبهة الإسلامية
ذاتها، وعلى الشاذلي نفسه في بداية سنة 1992.
وأذكر أننا عندما خرجنا من قاعة الاستقبال، بادرني هو نفسه ليشرح لي ما قصده الرئيس بتلك العبارة الغامضة بالنسبة للجميع، فقال
لي: "لقد كنت قد طلبت مقابلة معه قبل أيام في موضوع خاص.. فأشعرني بأنه لم
ينسَ الموعد". وأشهد أن المرحوم الشاذلي لم يكن يعلم ولا يتوقع أن يصادفه في
ذلك المكان على الإطلاق.
رحم الله الرئيس المجاهد الوطني الوفي
الشاذلي بن جديد، وأسكنه فسيح جنانه مع المجاهدين الصادقين الأوفياء في الأولين
والآخرين. وهذا درس لكل من يريد أن يعتبر بأنه لا يبقى في الدنيا من أعمال المرء
العابر إلا الأثر الصامد مثل الحجر في سجل التاريخ لاستخلاص العبر.