كتب

كيف وصل المشروع الوطني الفلسطيني إلى طريق مسدود؟ قراءة في كتاب

السياسة التي اتبعتها إسرائيل في مجالي الاستيطان والتهويد أعادت هيكلة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وقد جعلت من السلطة "شرطيا" يشارك في حفظ أمن إسرائيل.
الكتاب: "المشروع الوطني الفلسطيني، تطوره ومأزقه ومصائره"
المؤلف: ماهر الشريف
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية


يقدم ماهر الشريف، الباحث المختص بالشأن الفلسطيني ورئيس وحدة الأبحاث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في هذا الكتاب مراجعة شاملة للمشروع الوطني الفلسطيني عبر مئة عام من عمر النضال الفلسطيني ضد مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين، منطلقا في ذلك من حقيقة أن هذا المشروع (الفلسطيني) يواجه اليوم مأزقا كبيرا، بسبب عجز الحركة الوطنية الفلسطينية عن تحقيق أهدافه.

مشروع تبلور، بعد مرحلة تخبط سياسي في عهد الانتداب البريطاني، مع ولادة حركة "فتح" في أواخر خمسينيات القرن العشرين، لتحمله بعد ذلك منظمة التحرير الفلسطينية في النصف الثاني من الستينيات.

 وقد انتقل، عبر تطوره، من مشروع يركز على تحقيق هدفي التحرير والعودة، إلى مشروع يركز على تحقيق هدف الاستقلال في إطار دولة فلسطينية تحددت حدودها بالضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، إلى مشروع يراهن على قيام هذه الدولة بعد مرحلة انتقالية من الحكم الذاتي، وهو الرهان الذي وصل بالمشروع إلى مأزقه الحالي، بحسب الشريف. الافتراض الذي يبني عليه الشريف بحثه هو أن عجز الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير، عن تحقيق أهدافها يرجع إلى عاملين تداخلا فيما بينهما؛ الأول الاختلال الدائم في ميزان القوى لغير مصلحة الحركة الوطنية في صراعها مع الحركة الصهيونية وداعميها، والثاني يتمثل في الضعف الذي اعترى بنية الحركة الوطنية، وفي طبيعة الاستراتيجيات السياسية والوسائل الكفاحية التي اعتمدتها قيادتها.

بوصول المشروع الوطني الفلسطيني، الذي قام على مبدأ الاستقلال على قاعدة تقسيم فلسطين، إلى طريق مسدود، يجمع العديد من المنخرطين في هذه القضية على أن الفلسطينيين لا يملكون شريكا إسرائيليا يصنعون معه السلام، وأن أي استراتيجية فلسطينية جديدة يجب أن تنطلق من مبدأ " التشاؤم العميق"..
وفي فصول الكتاب التسعة ينتقل الشريف من تسليط الضوء على العوامل التي جعلت قيادة الحركة الوطنية عاجزة، خلال فترة الانتداب البريطاني، عن بلورة مشروع وطني واضح، إلى مواقف "الهيئة العربية العليا لفلسطين" عقب النكبة إزاء فكرة بعث الكيان السياسي الفلسطيني، إلى منطلقات مشروع التحرير والعودة الذي بلورته حركة "فتح" وتأسيس منظمة التحرير، ثم يتوقف عند هيمنة منظمات المقاومة المسلحة على "المنظمة"، وسيرورة انتقال المشروع الوطني الفلسطيني بعد إخراج قوات منظمة التحرير من الأردن، واندلاع حرب أكتوبر 1973، من هدف تحرير فلسطين إلى هدف الاستقلال في إطار دولة فلسطينية، والآمال التي عقدتها منظمة التحرير على مشاركتها في مساعي التسوية السلمية للصراع، والأسباب التي أدت إلى خيبة هذه الآمال.

كما يحلل الشريف تداعيات الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومضامين مبادرة السلام التي طرحتها المنظمة، والتحدي الذي واجهته من جانب التيارات الإسلامية، وصولا إلى قبولها بالشروط الأمريكية للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام وما لحق به من أوهام بنتها المنظمة على اتفاق أوسلو. ليختتم كتابه بعرض الأسباب الموضوعية والذاتية للمأزق الحالي، والاجتهادات التي طرحت للخروج منه، والتي طالت مضامين المشروع الوطني الفلسطيني، وأهدافه والاستراتيجيات الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف.

يذكر الشريف أنه طوال عشرينيات القرن العشرين سعت قيادة الحركة الوطنية، التي تشكلت بالأساس من ممثلي فئة الأشراف والبرجوازية التجارية في المدن، لتركيز النضال ضد المستوطنين اليهود.

وظلت تلك القيادة التي صارت تعبر عنها اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني تراهن على إمكان تغيير مواقف الحكومة البريطانية الداعمة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وذلك نتيجة عدة عوامل أبرزها رغبة تلك القيادات في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية ومكانتها السياسية. وبالتالي ظلت كذلك عاجزة عن بلورة مشروع وطني واضح المعالم، أو تقديم تصوّر لصورة فلسطين المستقلة، حتى أنها لم تطلب صراحة إنهاء الانتداب البريطاني الذي أضفى شرعية دولية على تصريح بلفور.

ولم تستوعب التغيرات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي حولت المستوطنين اليهود في فلسطين إلى أقلية سكانية وسياسية واقتصادية كبيرة، وبدلا من عرض قضية فلسطين على هيئة الأمم المتحدة اكتفت بدور جامعة الدول العربية، وبرفض قرار التقسيم رقم 181، من دون أن تطرح حلا واقعيا لمشكلة وجود 600 ألف يهودي تجمّعوا في فلسطين بعد المحرقة النازية. بينما كانت الأوضاع العربية، التي سادت فيها السيطرة الاستعمارية على دول المشرق العربي، وقيام أنظمة مهادنة للمستعمرين، لا تشجّع على تطور نضال الحركة الوطنية الفلسطينية.

المشروع الوطني

يشرح الشريف أنه لم يبرز مشروع وطني فلسطيني واضح المعالم إلا بعد ولادة حركة "فتح" في النصف الثاني من الخمسينيات، من ممثلي فئات البرجوازية الوطنية التي عانت من التشرد، واستندت في الأساس إلى اللاجئين الفلسطينيين في بلاد الشتات، حيث جاءت انطلاقتها في أجواء دولية تميزت بتصاعد نضالات حركات التحرر حول العالم.

وخلافا للشعار القومي السائد آنذاك "الوحدة العربية هي طريق تحرير فلسطين" أكدت "فتح" أن تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة العربية، وأن على الشعب الفلسطيني الاعتماد على نفسه في الأساس، من دون أن يعني ذلك الانتقاص من أهمية البعد العربي.

وفي أواخر الخمسينيات طرح الرئيس المصري جمال عبد الناصر فكرة تنظيم الشعب الفلسطيني لتمكينه من القيام بدوره في التحرير، وكُلف ممثل فلسطين في الجامعة العربية أحمد الشقيري بالإعداد لمؤتمر ينبثق منه كيان فلسطيني لتنتهي هذه الجهود إلى الإعلان عن منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964. لكن هزيمة 1967 حررت النضال الوطني الفلسطيني من جديد من قيود الوصاية الرسمية العربية، وكرست مرة أخرى توجهات "فتح"، وتحولت ظاهرة الكفاح المسلح التي أطلقتها الحركة من خلال قوات "العاصفة" سنة 1965 إلى حركة مقاومة تحظى بتأييد شعبي واسع، بالتزامن مع بروز جبهات ومنظمات فلسطينية جديدة، يسارية وقومية.

غير أن الهزيمة شجعت المنظمة أيضا على تبني فكرة "الدولة الفلسطينية الديمقراطية" بعد أن ثبت استحالة تطبيق النموذج الجزائري في فلسطين (رحيل اليهود عن فلسطين بعد تحريرها)، وجاءت حرب أكتوبر 1973 لتقنع المنظمة أكثر بقبول قرار تقسيم فلسطين بين العرب الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين، وضرورة المزاوجة بين الكفاح المسلح والنضال السياسي والدبلوماسي. ووصولا إلى العام 1977 كانت المنظمة قد تخلت عن الإشارة إلى هدف إقامة الدولة على كامل الأرض الفلسطينية، وفتحت الباب أمام بدء اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية.

 يقول الشريف إن "سراب التسوية" رغم ذلك كان يبتعد شيئا فشيئا، سيما بعد تأليف حكومة من الليكود بزعامة مناحيم بيغن، وقيام الرئيس المصري محمد أنور السادات بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، الذي أخرج مصر من جبهة المواجهة مع إسرائيل. وفضلا عن ذلك فقد عاشت منظمة التحرير في النصف الثاني من السبعينات هواجس الحصار والتخوف على مستقبل وجودها السياسي والعسكري في لبنان عقب اندلاع الحرب الأهلية التي انخرطت فيها. وبعد خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت في أغسطس 1982 طرحت الإدارة الأميركية مشروعا سياسيا لحل القضية الفلسطينية، يستلهم مشروع الحكم الذاتي الوارد في اتفاقية كامب ديفيد، ويقترح إشراك الأردن والفلسطينيين في مفاوضات مع إسرائيل من دون الإشارة إلى منظمة التحرير.

وبحسب الشريف، تصورت “فتح" أن الطريق نحو إحقاق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني صار محكوما بتحرك سياسي مشترك مع الأردن، وارتأت أنه لا بد من الانفتاح على مصر وتجاوز المقاطعة العربية لها. وفي العام 1985 أعلن عن اتفاق للتنسيق السياسي المشترك بين الأردن ومنظمة التحرير، وهو ما صار يعرف ب "اتفاق عمّان" تضمن، بصورة غير مباشرة، موافقة المنظمة على قرار مجلس الأمن رقم 242، وقبول مبدأ تشكيل وفد مشترك إلى مفاوضات السلام، وفكرة إقامة اتحاد كونفدرالي بين دولتي الأردن وفلسطين. ومع ذلك فإن كل " هذه المرونة السياسية الفلسطينية .. لم تفلح في فتح أبواب واشنطن أمام قيادة منظمة التحرير". وعلى كل حال فإن هذا الاتفاق لم يدم كثيرا حيث أعلن الملك حسين في العام 1986 وقف التنسيق السياسي مع المنظمة، محملا إياها مسؤولية تعطيل التحرك المشترك على الساحة الدولية.

أزمة المنظمة

يقول الشريف أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) فتحت آفاقا جديدة أما النضال الوطني الفلسطيني، ومنحت منظمة التحرير الأرضية التي انطلقت منها لطرح مبادرتها السلمية الخاصة، فأعلنت في العام 1988 قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وموافقتها، لأول مرة، على قرار تقسيم فلسطين رقم 181 ، وعلى قراري 242 و 338 كأساس لمشاركة المنظمة في المؤتمر الدولي للسلام. لكن الانتفاضة خلقت أيضا تحديا جديدا أمام المنظمة، تمثل في بروز الإسلاميين كمنافسين يطرحون مشروعا بديلا عن مشروعها الوطني، قائما على تحرير كامل التراب الفلسطيني ورفض "مبادرة السلام".

لم يبرز مشروع وطني فلسطيني واضح المعالم إلا بعد ولادة حركة "فتح" في النصف الثاني من الخمسينيات، من ممثلي فئات البرجوازية الوطنية التي عانت من التشرد، واستندت في الأساس إلى اللاجئين الفلسطينيين في بلاد الشتات، حيث جاءت انطلاقتها في أجواء دولية تميزت بتصاعد نضالات حركات التحرر حول العالم.
ومن جهة أخرى فقد فشلت الانتفاضة ومبادرة السلام الخاصة بالمنظمة في إحداث أي خرق في مواقف الحكومة الإسرائيلية. وصولا إلى العام 1991 وجدت المنظمة نفسها في وضع صعب للغاية، تواجه أزمة داخلية بسبب الحصار المالي والسياسي الذي فرض عليها جراء موقفها من أزمة الخليج، وتراجع الدعم الدولي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، دفعها نحو سلسلة من التنازلات والقبول بالشروط الأميركية للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام من خلال وفد أردني ـ فلسطيني مشترك، ثم القبول بأن يتشكل الوفد الفلسطيني من الشخصيات الوطنية في الضفة والقطاع، مع استثناء ممثلي القدس الشرقية وممثلي اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، وأن يعقد المؤتمر على أساس القرارين 242، و338 فقط، من دون أي إشارة إلى قرارات الشرعية الدولية الأخرى، وأن يكون هناك مرحلة انتقالية من الحكم الذاتي قبل أن يتقرر المصير النهائي للمناطق الفلسطينية المحتلة.

يقول الشريف أنه بتوقيع المنظمة على اتفاق "إعلان المبادئ" في العام 1993 كانت قد "اختزلت المشروع الوطني الفلسطيني، عمليا، إلى مشروع إقامة دولة فلسطينية، مراهنة على أن تتحول السلطة التي ولدت من رحم هذا الإعلان إلى دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وقطاع غزة عاصمتها القدس الشرقية، بينما تركت مصير اللاجئين الفلسطينيين معلقا.. بموافقتها على ترحيل قضيتهم إلى مفاوضات الحل النهائي، لا على قاعدة القرار الدولي رقم 194 الذي يضمن حقهم في العودة.. كما تجنبت التطرق إلى قضية العرب الفلسطينيين في إسرائيل، واستبعدتهم من أن يكونوا جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية". ليتبيّن بعد سنوات أن السلطة الوطنية الفلسطينية لم تسيطر على أكثر من خمس مساحة الضفة الغربية وعلى ثلثي مساحة غزة، وأن السياسة التي اتبعتها إسرائيل في مجالي الاستيطان والتهويد أعادت هيكلة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وقد جعلت من السلطة "شرطيا" يشارك في حفظ أمن إسرائيل.

يرى الشريف أنه بوصول المشروع الوطني الفلسطيني، الذي قام على مبدأ الاستقلال على قاعدة تقسيم فلسطين، إلى طريق مسدود، يجمع العديد من المنخرطين في هذه القضية على أن الفلسطينيين لا يملكون شريكا إسرائيليا يصنعون معه السلام، وأن أي استراتيجية فلسطينية جديدة يجب أن تنطلق من مبدأ " التشاؤم العميق"، لكنهم يختلفون فيما يتعلق بمرتكزات المشروع الوطني الفلسطيني، وهي مسألة في غاية الأهمية. من ذلك طبيعة الكيان السياسي المنشود، هل هو دولتان على أساس التقسيم، أو دولة واحدة، أم استراتيجيا جديدة تماما تعيد الصراع إلى صراع بين حركة تحرر وطني وحركة استعمارية احتلالية. أيضا هناك تساؤل كبير حول مصير السلطة الوطنية، وما إذا كان يجب حل هيئاتها، أو تغيير وظائفها بحيث تتحلل من التزاماتها إزاء اتفاق أوسلو، وتنتقل إلى ضمان أمن الفلسطينيين وتوفير مقومات صمودهم. يضاف إلى ذلك تساؤل بخصوص إعادة بناء منظمة التحرير وإصلاح مؤسساتها، وتوسيع طابعها التمثيلي، وتعزيز دور فلسطينيي الشتات، ودور الفلسطينيين في إسرائيل.