ملفات وتقارير

جنوب لبنان.. تاريخ طويل من المقاومة أعادته "طوفان الأقصى" للواجهة

معاناة اللبنانيين جرّاء توالي عدوان الاحتلال الإسرائيلي لم تقف عند حدّ القصف والنزوح القسري- جيتي
"أودّ التجوّل في ضيعتي المدمرة والصراخ ملء صوتي، تفجيرا لغضبي من الظلم الذي نتكبّده لسنوات، وانفعالا على الظالم، وعن كل ساكت متخاذل تركنا في فوهة البركان" بهذه الكلمات تعبّر حنين، شابة تقطن بالجنوب اللبناني، عن حزنها لما آلت إليه الأوضاع.

وتصف حنين، المشهد لـ"عربي21" بالقول: "كأنك في كابوس لا تستفيقين منه، مشاهد رعب لن يستطيع أفضل مخرجي السينما تخيّلها؛ نحن سكان الجنوب اللبناني، نشعر أننا تُركنا لمصير مجهول، وبتنا ضحايا استشراس إسرائيلي، وصمت عالمي".

وعقب ما يناهز 17 عاما دون مواجهات، أي منذ عام 2006؛ أعادت عملية "طوفان الأقصى" التي شنّتها المقاومة الفلسطينية بقيادة كتائب عز الدين القسام "حماس" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ضد مستوطنات غلاف غزة،  جنوب لبنان، إلى واجهة المعارك الضّارية، حيث ساند قطاع غزة المحاصر، ضد عدوان الاحتلال الإسرائيلي المتواصل.


رصدت "عربي21" جُملة من الصور ومقاطع الفيديو، التي جابت مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الأيام القليلة الماضية، توثّق ما يمكن وصفه بـ"المأساة الحارقة" لشوارع المناطق الجنوبية، حيث تحوّلت المنازل لركام، والسيارات لحطام.. حيث تم مسح حياة بأكملها، بكل ما فيها من ذكريات وأحلام، في لحظة.


هنا الجنوب.. 
فاطمة، سيّدة ستينية، تنحدر من قرية عيتا الشعب، في الجنوب اللبناني، تقول لـ"عربي21": "من وقت ما وعينا، وإسرائيل معيّشتنا في رعب، تعتدي علينا في ضي النهار وعتمة الليل، بالقصف والضرب؛ بس ما فقدنا الأمل ولا راح نفقده؛ وكلي إيمان إنو رح أرجع على ضيعتي الحلوة "عيتا الشعب"، ورح قطّف الزيتون والغار". 

في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اضطرت فاطمة للنزوح من الجنوب إلى الضاحية الجنوبية؛ وقبل أسبوع، جرّاء القصف العنيف، نزحت مرة أخرى، رفقة أسرتها الصغيرة، إلى منطقة تسمّى الشويفات.

أوامر الإخلاء، ورعب السكان، والاضطرار إلى النزوح من منطقة نحو أخرى، مع الحفاظ على مفاتيح المنازل، أعاد لآلاف اللبنانيين، مشهدين؛ الأول يرتبط بما عرفوه وسمعوه عن "النكبة الفلسطينية" في عام 1948؛ والثاني هو ما سبق لهم أو لآبائهم عيشه حقّا، من حرب الاحتلال الإسرائيلي على الجنوب اللبناني خلال 2006، وما قبل.

ومنذ الإعلان عن قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال عام 1948، بات الجنوب اللبناني، لا يُشفى من حرب، إلاّ ويجد نفسه يخوض حربا أخرى، فبات السكّان على وعي بالحروب ومأساتها، لكنّهم أيضا عُرفوا بصمودهم، وبسالة مُقاومتهم، على الرّغم من عمق الاجتياحات، وما تخلّفه من أوجاع.

وبالعودة للتاريخ، فإنه ما بين عامي 1967 و1976، نفّذ الاحتلال الإسرائيلي في قلب مناطق الجنوب، ما قُدّر بـ 1434 خرقا للأجواء، و1818 قصفا مدفعيا، و120 قصفا جويا، و266 عملية دخول في المياه الإقليمية؛ فيما دخل 388 مرة في الأراضي الجنوبية، وقام بشقّ 24 طريقا، و453 تمركزا بالداخل، وذلك وفقا لإحصائيات المركز العربي للمعلومات في بيروت.

ويحدّ جنوب لبنان من الشرق سوريا ومن الجنوب دولة الاحتلال الإسرائيلي، فيما تبلغ مساحة جنوب لبنان قرابة 1045 كم². ويبلغ عدد سكانه ما يناهز 800 ألف نسمة؛ فيما تشكل هذه المنطقة جزءا أساسيا من لبنان، حيث تشتمل على الكثير من المواقع التاريخية والثقافية.



"حرب إبادة".. الجنوب في الواجهة
في تطوّر عنيف للأحداث الجارية، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي، قد أعلن مساء الاثنين 23 أيلول/ سبتمبر الماضي، عن قصف الضاحية الجنوبية في العاصمة اللبنانية بيروت؛ فيما قالت إذاعة جيش الاحتلال، إن "هدف الضربة هو القيادي في حزب الله علي كركي"، وهو الذي نفى حزب الله عقب ذلك، نبأ اغتياله. 

هذا القصف، خلال هذا اليوم لوحده، خلّف "492 شهيدا، بينهم 35 طفلا و58 امرأة، فيما لم يتم التعرّف على الباقي؛ وزاد عدد الجرحى عن 1645" بحسب تصريحات وزير الصحة اللبناني. ما جعله يوصف بـ"الأكثر دموية في تاريخ الصراعات بين الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله". ناهيك عن القصف المتوالي منذ أشهر على الجنوب، وما خلّفه من آلاف الشهداء والجرحى.


وفيما صرّح نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، بكون "المواجهة مع إسرائيل دخلت مرحلة الحساب المفتوح"؛ ندّد رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، بقصف الاحتلال الإسرائيلي، داعياً المجتمع الدولي للتدخل.

وقال ميقاتي: "إن العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان هو حرب إبادة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وخطة تدميرية تهدف إلى تدمير القرى والبلدات اللبنانية". مطالبا "الأمم المتحدة والجمعية العامة والدول المؤثرة بردع العدوان الإسرائيلي".

كذلك، أعلن حزب الله، عبر بيان، آنذاك، عن قصف ثلاثة أهداف إسرائيلية، خلال ردّه على غارات الاحتلال الإسرائيلي العنيفة على جنوب لبنان وشرقه. مردفا أنه استهدف "المقر الاحتياطي للفيلق الشمالي، وقاعدة تمركز احتياط فرقة الجليل، ومخازنها اللوجستية في قاعدة عميعاد، ومجمعات الصناعات العسكرية لشركة رفائيل في منطقة زوفولون شمال مدينة حيفا بعشرات الصواريخ". 

وبحسب تقديرات رسمية لبنانية، فقد أدّى التصعيد الأخير إلى نزوح مليون شخص من جنوب لبنان، بعضهم نزحوا عدة مرات. يضم هذا الرقم مئات النساء الحوامل اللواتي اضطررن للسكن في أماكن مكتظة وغير مجهزة بالكامل، أو النزوح نحو أماكن تفتقر لمراكز الرعاية الطبية.

أيضا، أدّى عدوان الاحتلال الإسرائيلي، إلى حرمان أكثر من 200 ألف شخص من المياه النظيفة، وذلك بحسب تقرير أممي صدر خلال آب/ أغسطس الماضي، ويُرجّح لكون الرقم قد تضاعف إثر التصعيد الأخير. وهو ما يخلّف لا محال زيادة خطر تفشي الأمراض. 


الجنوب.. للمُقاومة عنوان 
"لنا تاريخ طويل مع النضال والمقاومة، ومن لم يقرأ التّاريخ لا بد وأنه سمع شعرا أو أغاني عن الجنوب اللبناني" هكذا قال أبو شادي، في حديثه لـ"عربي21" مبرزا أن "فعل المُقاومة لم يكن أبدا حدثا فُجائيا لدى سكان الجنوب، فهم شاركوا في الثورة العربية ما بين 1918 و1920، وفي الثورة السورية خلال عام 1925".

وأضاف: "كذلك شارك أهل الجنوب في جيش الإنقاذ خلال معارك 1948 في فلسطين في مواجهة الانتداب البريطاني"؛ مشيرا في الوقت نفسه، إلى أنه خلال اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في عام 1978، وفي عام 1982، بات المشهد اللبناني يتصدّره كل من حركة أمل وحزب الله، وهما من جعلا الجنوب ينتفض من جديد في وجه الاحتلال الغاشم.

إلى ذلك، إثر تمكّن "حزب الله" من تكوين الجناح العسكري، ومن ثمّ مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتحرير أراضي الجنوب خلال عام 2000، زادت أهميته في كل من الأوساط الشعبية العربية والإسلامية؛ وارتفعت أسهمه أكثر خلال حرب الاحتلال على لبنان في عام 2006، إذ بات مرادفا للجنوب اللبناني وفعل المقاومة.

كذلك، يُعرف الجنوب اللبناني لضمّه خمسة مخيمات للاجئين، هي:
مخيم الرشيدية: أنشئ عام 1936 على بعد 7 كيلومترات من جنوب مدينة صـور بغية إيواء اللاجئين الأرمن؛ وفي عام 1948 استقبل الفلسطينيين.

وبحسب أرقام صادرة عن "الأونروا" هو الآن يحتضن أكثر من 22 ألف نسمة، غير أنّه من أكثر المخيمات الفلسطينية معاناة من توالي قصف الاحتلال الإسرائيلي، جرّاء قربه من الحدود.

مخيم البص: أنشئ عام 1939 جنوب مدينة صور، بغية إيواء اللاجئين الأرمن؛ وبدأ في عام 1948 في استقبال الفلسطينيين، فيما يسكنه الآن أكثر من 10 آلاف لاجئ.

مخيم عين الحلوة: أنشئ عام 1949 قرب مدينة صيدا، وهو يعتبر من أكبر المخيمات اللبنانية مساحة وأيضا سكانا.

مخيم المية ومية: أنشئ عام 1954، ويقع على تلّة تبعد بـ4 كيلومترات من مدينة صيدا، فيما يسكنه ما يناهز 4995 نسمة، وذلك بحسب وكالة "الأونروا" خلال عام 2003.

مخيم البرج الشمالي: أنشئ عام 1955، ويقع على بعد 3 كيلومترات شرق مدينة صور، فيما يضم عددا كبيرا من اللاجئين، ينحدر معظمهم من قرى متواجدة في شمال فلسطين.

دعوات لضبط النفس.. ولكن
أصدرت كل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة، عدّة بيانات، ترمي لضبط النفس وتجنب التصعيد، حيث أعربت واشنطن عن قلقها من تداعيات هذه الضربات وما قد تؤدي إليه من توسيع نطاق الصراع. 

كذلك، دعت عدد من الدول، بينها الأردن وروسيا، إلى "تهدئة الوضع والبحث عن حلول دبلوماسية لوقف التصعيد. ووجّه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، رسالة مصورة، لدعم اللبنانيين، جاء فيها: "لبنان لا يمكنه أن يعيش في ظل الخوف من حرب وشيكة". 

وعبر بيان عاجل، قال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل: "إن المدنيين على جانبي الحدود يدفعون ثمنا باهظا. وسوف يكونون أكثر من يعاني مرة أخرى في حرب شاملة لا بد من تجنّبها، من خلال جهود الوساطة الدبلوماسية المكثّفة المتجدّدة. وسيكون هذا على رأس جدول أعمالنا في الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما ندعو من جديد إلى التنفيذ الكامل والمتكافئ لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701".

وعبر بيان آخر، من البيت الأبيض، أكد الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وكامالا هاريس، مُتابعتهما للهجوم الإيراني على دولة الاحتلال الإسرائيلي، من قلب غرفة العمليات؛ فيما أمر بايدن، الجيش الأمريكي بـ"مساعدة إسرائيل". ما دفع الكثير من اللبنانيين للقول إنها: "حرب مُمنهجة ضد الجنوب".

خوف من تكرار ما سبق
رغم اقتران الجنوب اللبناني بكافة معاني الصمود والأمل، إلاّ أن عدوان الاحتلال الإسرائيلي المُتواصل عليه منذ أشهر، أماط اللّثام عن خوف دفين في قلوب الكثير من سكان الجنوب، ممّن باتوا يحملون هم العودة للوراء، وتكرار ما يصفونها بـ"مأساة ما قبل عام 2000" حيث تمّ ترسيم الخط الأزرق، وهو ما رسمته الأمم المتحدة، على طول حدودي قدّر بـ120 كيلومترا، عقب انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب.



وتقع تحت هذا الخط، عدد من أكبر وأهم قرى الجنوب اللبناني، التي تُقصف اليوم على مرأى العالم: كفركلا، مارون الراس، يارون، العديسة، ميس الجبل، بنت جبيل، عيتا الشعب، رميش، الخيام، ناهيك عن مزارع شبعا وقرية الغجر، إذ يتواصل الجدل بخصوص السيادة عليها. 

ما أجّج الخوف في قلوب الكثير من سكان الجنوب اللبناني، هو التصريحات الأخيرة للمسؤول في جيش الاحتلال الإسرائيلي، أوري غوردين، حيث دعا إلى "احتلال جزء من جنوب لبنان لتشكيل منطقة عازلة تهدف لإبعاد مقاتلي حزب الله عن الحدود الإسرائيلية". 

وفي السياق نفسه، أشارت عدد من التقارير الأمريكية والعبرية، المُتفرٍّقة، إلى أن وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، كذلك قد ناقش الفكرة ذاتها مع القيادة العسكرية. فيما تمّ تبرير الدعوات بكونها "وسيلة لتأمين الحدود الشمالية لإسرائيل من هجمات حزب الله".

انتهاكات بالجُملة.. 
معاناة اللبنانيين جرّاء توالي عدوان الاحتلال الإسرائيلي لم تقف عند حدّ القصف والنزوح القسري فقط؛ بل تجاوزها حدّ اقتراف الاحتلال، في حقّهم جرائم حرب، بينها: استخدام الفوسفور الأبيض في قصفه المتواصل على جنوب لبنان. 

وبحسب تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، خلال حزيران/ يونيو الماضي، فإنّه تمّ توثيق استخدام الفوسفور الأبيض  في 17 بلدة بجنوب لبنان، بين الفترة من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وحزيران/ يونيو 2024. ما يعرّض حياة المدنيين للخطر. 

أيضا، تسبّب الفوسفور الأبيض، بحسب وزارة الفلاحة اللبنانية، في حرق أكثر من 60 ألف شجرة زيتون غالبيتها معمّرة ومنتجة. حيث يشتعل الفوسفور الأبيض، تلقائيا في الهواء عند درجات حرارة عالية، ويستمر في الاحتراق حتى يتأكسد بالكامل، وينتج عن حرقه دخان كثيف أبيض اللون ومهيِّج يحتوي على خليط من أكاسيد الفوسفور.



ويعتبر الفوسفور الأبيض، مادة كيميائية مستخدمة في قذائف المدفعية والقنابل والصواريخ، يحرّم القانون الدولي استخدامها في الحروب، لكونها تؤدّي للوفاة الفورية أو لإصابات قاسية تجرّ صاحبها لمعاناة مدى الحياة.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع