قضايا وآراء

خمس سنوات على الانقسام المصري

1300x600

تبدأ السلطة عادة من أعلى، ويبدأ التغيير دائما من أسفل.. تبدأ السياسات من قرارات الرئيس والبرلمان والوزير والمحافظ، ويبدأ التغيير من الثقافة والتعليم والإعلام والمجتمع المدني. تستطيع السياسة أن تفرض تغييرات وقوانين لحظية باستخدام القوة، لكنها لا تضمن لها الاستمرارية. وفي مصر كانت المعادلة مستقرة لأمد لطويل: الإسلاميون وحلفاؤهم يعملون من أسفل، والعسكر وحلفاؤهم يعملون من أعلى.. لم يكن واردا أن تتبدل المعادلة في المدى القصير أو المتوسط، حتى زلزلت الأرض زلزالها في كانون الثاني/ يناير 2011.

في غضون أشهر قليلة اتخذ الإسلاميون وحلفاؤهم في مصر الطريق إلى أعلى الهرم، لا فرق إن فعلوا ذلك مجبرين أم مختارين، فالنتيجة واحدة.. واتجه العسكر تدريجا إلى أسفل؛ يبحثون عن تحالفات مع المثقفين والأذرع الإعلامية والرموز الاجتماعية. فعلوا ذلك قطعا تحت إجبار شارع غاضب ومحيط عالمي مضطرب وموقف سياسي وأمني مهزوز.. أصبح الهرم التقليدي في مصر مقلوبا.

أنفذت الدولة العميقة الإسلاميين من دهاليزها، بينما استرخى العسكر وسخَّر كل إمكانياتهم في بناء تحالفات نخبوية وإعلامية سريعة، حتى وصلنا للنقطة الصفرية التي حدث فيها تغيير غير دستوري في البلاد ليس له سوى تعريف واحد: انقلاب


حينما تتغير الأدوار تتغير الأولويات ويتغير الخطاب السياسي. وفي الظروف العادية، فإن هذا مقبولا في بيئة سياسية صحية يتعلم الجميع فيها من أخطائه ويعتاد على طبيعة دوره الجديد، لكن حينما يتم في لحظات مفصلية فارقة، فإنه ينشئ وضعا هشا قابلا للكسر في أي لحظة. من ملامح هذا الوضع الهش، أن كثيرين من كل الاتجاهات رأوا في جلوس اللواءات وأركان الحرب مع المثقفين والفنانين تواضعا واقترابا من المجتمع، وتعلما من دروس الماضي، ولم يكن الأمر كذلك. في الوقت نفسه، رأى كثيرون من كافة المشارب أن وجود الإسلاميين المظلومين الخارجين لتوهم من السجون في مواقع المسؤولية السياسية والإدارية في البلاد على اختلاف مستوياتها؛ انتهازية وتحول غير طبيعي، ولم يكن كذلك أيضا. أنفذت الدولة العميقة الإسلاميين من دهاليزها، بينما استرخى العسكر وسخَّر كل إمكانياتهم في بناء تحالفات نخبوية وإعلامية سريعة، حتى وصلنا للنقطة الصفرية التي حدث فيها تغيير غير دستوري في البلاد ليس له سوى تعريف واحد: انقلاب.

وبدلا من اللوم المستمر لمن شرعنوا الحدث من القوى السياسية المختلفة، أو لوم الإسلاميين الذين لم ينجحوا في كبح جماح هؤلاء وأولئك، ثمة طريق ثالث يستهدف إنهاء الانقسام ذاته


هو في الحقيقة لم يكن انقلابا على مؤسسات دستورية وحسب، ولكنه كان تتويجا لانقسام سياسي مزمن. والانقسام معنى سلبي في السياسة، بعكس الاختلاف السياسي الطبيعي. إذ إن الاختلاف يتم بشكل حضاري، ويبقى أو ينتهي مع الحوار والاحتكام لصناديق الانتخاب أو منصات القضاء العادل. أما الانقسام، فنحن أمام إعادة اصطفاف وشحن طائفي، حتى في حال عدم وجود طوائف وعرقيات متباينة. وقد كان هذا الانقسام هو الجسر الذي مرت عليه الدبابات في الثالث من تموز/ يوليو، لتنتقل من الشرعية الدستورية إلى العسكريتارية الديكتاتورية. فمع قوة السلاح لا بد من أرضية سياسية تشرعن هذه التصرفات. وبدلا من اللوم المستمر لمن شرعنوا الحدث من القوى السياسية المختلفة، أو لوم الإسلاميين الذين لم ينجحوا في كبح جماح هؤلاء وأولئك، ثمة طريق ثالث يستهدف إنهاء الانقسام ذاته، فهو بيت القصيد وأس الداء.

بعد خمس سنوات من الانقلاب، لم يعد العسكر كما كانوا، ولم يعد الإسلاميون كما كانوا، ولم يعد الشعب المصري كما كان


وإنهاء الانقسام ببساطة يعني أن تعاد صياغة قائمة المطالب والأولويات عند كل تيار سياسي بشكل واقعي وعملي، وليس بأسلوب عاطفي أو أيديولوجي. فبعد خمس سنوات من الانقلاب، لم يعد العسكر كما كانوا، ولم يعد الإسلاميون كما كانوا، ولم يعد الشعب المصري كما كان. وحده الانقسام المذموم بقي صامدا تحميه الدبابة من جهة، والتيه السياسي للنخب السياسية من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن أن ترفع شعار القصاص مجردا لتستعدي كل الثارات الماضية والتاريخية، ويمكن أن ترفع شعار العدالة الانتقالية لتنتقل إلى مستوى أهم من العقاب؛ وفقا لظروف المرحلة بما يحفظ حقوق الجميع.

يرى المفكر والمستشار طارق البشري أن في مصر ثلاث قوى رئيسية: الإسلاميين ويملكون القوة الشعبية والجماهيرية على الأرض، والدولة بما تملكه من قوة عسكرية وسلطة، والنخب الليبرالية بما تملكه من تأثير في وسائل الإعلام، وأنه لا يمكن أن تحكم إحدى هذه الجهات من دون توافقات واضحة مع الجهات الأخرى. وهذه ليست محاصصة طائفية، بقدر ما هي إدراك لتوازنات القوى ومعرفة آلية التعامل معها.

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع