في خضمّ السجال الدائر حول مشروع قانون معالجة الفجوة
المالية وتحديد
مصير
الودائع (على ما يحب تسميتها البعض)، وهي ليست فجوة كلامية إنما فجوة مسؤولية
من الجميع، تبرز حقيقة لا يمكن الالتفاف عليها: لا حلّ ممكنا من دون تحمّلٍ جماعيٍ
للمسؤولية. فالأزمة التي يعيشها
لبنان ليست نتاج خللٍ واحد أو طرفٍ واحد، بل هي
حصيلة تراكم طويل من قرارات سياسية خاطئة، وإدارة مالية ونقدية قاصرة، وممارسات
مصرفية لم تكن دائما بمنأى عن المخاطر. وأي محاولة لحصر الكلفة بطرف واحد، أكانت
الدولة أو
المصارف أو المودعين، لن تؤدي إلا إلى تعميق الانهيار بدل الخروج منه.
اقتصاديا، إنّ مقاربة الفجوة المالية في صيغها المتداولة تعاني خللا
بنيويا لأنها تنطلق من مبدأ تجزئة المسؤوليات بدل توزيعها بعدالة. فالنسخ المسرّبة
من المشروع، ولا سيما النسخة التاسعة، تُظهر توجّها واضحا لإعفاء الدولة من أي
مساهمة فعلية، رغم أنّها الطرف الأول في صناعة الخسائر، سواء عبر الإنفاق
العشوائي،
في قلب هذه المعادلة يقف المودعون، الذين لم يكونوا شركاء في القرار ولا في السياسات، لكنهم تحمّلوا حتى الآن الجزء الأكبر من الخسائر
أو هدر المال العام، أو السياسات التي أدّت إلى استنزاف الاحتياطات
والتعثّر عن سداد الديون. هذا الإعفاء لا يتعارض فقط مع المنطق الاقتصادي، بل مع
القوانين المرعية التي تُلزم الخزينة بتغطية خسائر مصرف لبنان.
وفي المقابل، لا يمكن إنكار أنّ المصارف بدورها تتحمّل جزءا من
المسؤولية، سواء من خلال الإفراط في توظيف أموال المودعين في الدين السيادي، أو
ضعف إدارة المخاطر، أو الارتهان المفرط لسياسات الدولة. لكن تحميلها وحدها العبء
النقدي للخسائر، من دون إطار متكامل لإعادة الهيكلة ومشاركة الدولة، يهدّد
بانهيارها الكامل، ما يعني ضرب ما تبقّى من النظام المالي، وإلحاق الضرر الأكبر
بالمودعين أنفسهم.
أما مصرف لبنان، فلا يمكن فصله عن منظومة المسؤولية. فالهندسات
المالية، وإدارة الدعم، واستخدام الاحتياطات، كلّها قرارات ساهمت في تعميق الفجوة.
ومع ذلك، فإنّ معالجة خسائره لا يمكن أن تتمّ فقط عبر استخدام أصول تعود في جوهرها
إلى المودعين، أو عبر سندات طويلة الأجل غير واضحة المعالم، من دون مساهمة مباشرة
من الدولة بوصفها الضامن الأخير.
وفي قلب هذه المعادلة يقف المودعون، الذين لم يكونوا شركاء في القرار
ولا في السياسات، لكنهم تحمّلوا حتى الآن الجزء الأكبر من الخسائر. فودائعهم
جُمّدت، وقيمتها تآكلت، وحقوقهم أُرجئت باسم المرحلة الانتقالية تارة وشراء
الوقت تارة أخرى.
من دون هذا المنطق الشامل، ستبقى الحلول عالقة في المأزق السياسي، وستبقى الثقة المفقودة عائقا أمام أي إنقاذ
لذلك، فإنّ أي طرح جدي لا بد أن ينطلق من مبدأ أساسي عنوانه: "المودعون
ليسوا الحلقة التي تُستكمل عبرها تسوية أخطاء الآخرين".
إنّ تحميل الجميع المسؤولية لا يعني المساواة بين
من صنع
الأزمة ومن تضرّر منها، بل يعني الاعتراف بالدور الحقيقي لكل طرف، ووضع
آلية عادلة لتوزيع الخسائر وفق هذا الدور؛ الدولة عبر مساهمة مباشرة وإصلاحات
بنيوية، والمصارف عبر إعادة هيكلة شفافة وتحميل المساهمين جزءا من الكلفة، ومصرف
لبنان ضمن إطار قانوني واضح، على أن يكون هدف هذه العملية حماية المودعين واستعادة
الثقة، فالفجوة فجوة ثقة قبل كل شيء.
الحقيقة تقول إنه من دون هذا المنطق الشامل، ستبقى الحلول عالقة في
المأزق السياسي، وستبقى الثقة المفقودة عائقا أمام أي إنقاذ. فالثقة لا تُفرض
بالقوانين، بل تُبنى حين يشعر الناس أنّ الجميع، من دون استثناء، تحمّل نصيبه من
المسؤولية. ومن دون ذلك، سيبقى المودعون يدفعون فاتورة الإهمال وشراء الوقت،
وستبقى الأزمة مفتوحة على مزيد من الانهيار، وهذا ما لا نتمناه، ومن الأكيد أن لا
يرغبه العهد ولا خطاب القسم، فهل إلى خروج من سبيل؟ الأسف كل الأسف القول إن
المسألة في جوهرها ليست مسألة مصرفية ومالية فقط إنما نظامية وبامتياز.. المسألة
ليست فجوة مالية إنما فجوة مسؤولية وفجاجة مسؤولين، ومفتاح الحل واقع بين
المسؤولية والثقة.