قضى الله تعالى
بالموت على كل حي، وخلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، وهو سبحانه الحي
الذي لا يموت، وإذا كان الله تعالى سمى الموت مصيبة، فإن موت عالم من العلماء
الذين يجمعون بين علوم الدنيا والدين ليس مصيبة واحدة، ولكن مصائب بعضها فوق بعض.
وقد غيب الموت عن الساحة
العلمية والدعوية منذ أيام العلامة الدكتور
زغلول النجار عن عمر ناهز 92 عاما،
قضاها في محراب العلم والدعوة إلى الله، ورحل وهو يحمل همّ رسالته لآخر لحظة، ذلك
العالم الجليل الذي يمثل رائد
الإعجاز في
القرآن الكريم والسنة الشريفة، وأهم
الأصوات التي جمعت بين العلم والإيمان، وبين خطاب العقل وروحانية الرسالة. ولم يكن
الرجل مجرد عالم جيولوجيا أو متخصصا في الإعجاز العلمي فحسب، بل كان مدرسة قائمة
بذاتها، تؤثر فيمن يجالسها وتترك أثرا لا يُمحى في كل من يقترب منها؛ بكلامه الذي
يخرج من فمه بسلاسة الأسلوب وجمال العبارة وروح الكلمة وأثر الإقناع، حتى فتح الله
له قلوب الناس في بقاع الأرض وأسلم على يديه الكثير والكثير.
لم يكن الرجل مجرد عالم جيولوجيا أو متخصصا في الإعجاز العلمي فحسب، بل كان مدرسة قائمة بذاتها، تؤثر فيمن يجالسها وتترك أثرا لا يُمحى في كل من يقترب منها؛ بكلامه الذي يخرج من فمه بسلاسة الأسلوب وجمال العبارة
وأنا واحد من الذين
نالوا شرف معرفة العلامة الدكتور زغلول النجار والجلوس إليه والنيل من علمه
والتأثر بتواضعه وأخذ القوة العلمية من دعمه، فقد كان لقائي الأول معه منذ سنوات في
المملكة المغربية، بمدينة تطوان، خلال مؤتمر الإعجاز العلمي، وما زلت أذكر تلك
اللحظات التي حملت لي الكثير من الإلهام. كان حديثه ممتعا، ينساب برفق ويستقر في
القلب قبل العقل، وكانت جلساته تحمل نورا من نور العلماء الربانيين الذين يجمعون
بين بساطة العبارة وعمق الفكرة. وفي ذلك اللقاء الأول كلّمني حديث العالم الحكيم، ودار
حديث بيني وبينه عن رغبتي في التوجه نحو الكتابة بصورة أكثر تفصيلا في الإعجاز
التشريعي في الاقتصاد، فكان تشجيعه لي دافعا مهما، خاصة وأن هذا الباب لا يزال
بكرا، وفيه خير كبير للأمة إذا أُحسن استثماره دون تكلف.
وعدت من المغرب أحمل دعمه
في قلبي، وبدأت في كتابة أول كتاب لي بعنوان: "الإعجاز الاقتصادي في الزكاة"،
وكان من تمام الفضل أن كتب العلامة الدكتور زغلول تقديما لهذا الكتاب، وقد كان ذلك
التقديم شهادة علمية ومعنوية أعتز بها. ثم توالت كتبي في هذا الاتجاه: فصدر كتابي:
"الإعجاز الاقتصادي في التنمية"، وكتابي: "الإعجاز الاقتصادي في حِل
البيع وحرمة الربا"، كما كان من دافع الشرف والبركة في عملي أن قمت بعمل
إهداء لفضيلته في كتابي: "الهندسة المالية الإسلامية" تقديرا لمكانته وفضله.
وقد التقيت العلامة
الدكتور زغلول النجار بعد ذلك مرات عدة وكان التواصل معه هاتفيا مستمرا. وكان
دائما في رحلاته العلمية وتواصلاته الشخصية لطيف الجانب، قريبا من القلب، يتحدث
بهدوء العالم وثقة الخبير، فلا تملك إلا أن تُصغي له. وكان آخر لقاء جمعني به في
إسطنبول، إذ دعوتُه لتناول الغداء هو وحرمه الفاضلة في بيتي، لنيل البركة من
وجوده، ولكن شاءت إرادة الله أن تتعب زوجتي، وفي الوقت نفسه أشفقت عليه من طول
المسافة بين مكان إقامته وبيتي، فذهبت إليه في مكان إقامته وانتقلنا إلى أحد
المطاعم القريبة من مكان إقامته، وكان هذا اللقاء دافئا مليئا بنور العلم وهدوء
الحكمة، إنه كان بحق لقاء مميزا بكل محتوياته؛ من معلومات عن الإعجاز العلمي، وعن
العلماء في الغرب الذين أسلموا من جراء الإعجاز العلمي، فضلا عن رحلته العلمية بين
دول العالم، وأوصاني بعمل مؤسسة للإعجاز في تركيا،
كان قادرا على أن يربط بين النص القرآني والاكتشاف العلمي بذكاء واتزان، بلا مبالغة ولا تقوّل، بل بمنهجية تحترم العلم ولا تُفرّط في قدسية الوحي
حيث كان يرى أن فتح القلوب في
تركيا لا سيما للعلمانيين يبدأ من الإعجاز العلمي، ومن ثم ترك لي حرية ترجمة كتبه
للغة التركية ورشّح لي ما أبدأ به منها، وقد سعيت لتأسيس جمعية لذلك سميتها "جمعية
إعجاز"، وقد كتب العلامة الدكتور زغلول النجار نظامها الأساسي بنفسه، وتم
إشهارها بتركيا، ولكن لم يكتب لها الاستمرار بسبب دواعي لوجستية، وما زالت وصيته
-رحمه الله- في ذهني وترنّ في قلبي كتكليف علمي وأمانة فكرية.
وبين تلك اللقاءات
وما حوتها من دروس وعلم نافع، يدرك المرء أن رحيل العلماء ليس حدثا عابرا، فالعالم
إذا غاب غاب معه نور كثير، ويصدُق فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ
اللهَ لا يَنْزِعُ العِلْمَ انتزاعا يَنْتزِعُهُ من الناسِ، ولكنْ يَقْبِضُ
العُلماءَ، فيَرْفَعُ العِلْمَ معهم..". وهي كلمة ندرك معناها كلما رحل عالمٌ
بحجم العلامة الدكتور زغلول النجار، الذي لم يكن مجرد ناقلٍ للعلم بل منارة هادية
ومعلّما يفتح العقول والقلوب معا، وكان نموذجا عمليا في قول كلمة الحق بكل قوة في
قضايا الأمة في زمن وقف فيه علماء مع أهل الظلم والبغي والباطل واشتروا بآيات الله
ثمنا قليلا.
لقد كان الرجل نموذجا
نادرا للعالم الذي يجمع بين رصانة البحث وقوة الحجة ونور الإيمان، وكان قادرا على
أن يربط بين النص القرآني والاكتشاف العلمي بذكاء واتزان، بلا مبالغة ولا تقوّل،
بل بمنهجية تحترم العلم ولا تُفرّط في قدسية الوحي. وقد لمس الناس هذا التوازن في
حضوره الإعلامي وفي محاضراته التي أثرت في ملايين الشباب، وفي كتبه التي انتشرت في
العالم الإسلامي كله. ومع رحيله، لا نفقد باحثا أو محاضرا فقط، بل نفقد روحا علمية
مضيئة أثرت في أجيال، وفتحت آفاقا فكرية لم تُطرق بهذا العمق من قبل. ورغم أن
الموت يغيّب الأجساد، إلا أن أثره سيبقى حيا في كتبه، وفي تلاميذه، وفي كل مشروع
علمي سار في الطريق الذي بدأه. إنّ رحيله يجعلنا ندرك حجم الخسارة، لكنه يترك لنا
أيضا إرثا علميا يظل شاهدا على أن بعض الرحيل ليس غيابا، بل بداية لحضورٍ ممتد في
ذاكرة الأمة.
رحم الله العلامة الدكتور
زغلول النجار، ورفع درجته في عليين، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وإنا
لله وإنا إليه راجعون.
x.com/drdawaba