قضايا وآراء

أسطرة الرموز والطقوس.. الحالة السورية

حسين عبد العزيز
قد تكون عملية أسطرة الرموز والطقوس من أجل بناء أمة وطنية موحدة تعلو على الفروقات الاجتماعية والثقافية، ولكنها في أحيان أخرى قد تكون موجهة نحو فئة معينة.. جيتي
قد تكون عملية أسطرة الرموز والطقوس من أجل بناء أمة وطنية موحدة تعلو على الفروقات الاجتماعية والثقافية، ولكنها في أحيان أخرى قد تكون موجهة نحو فئة معينة.. جيتي
يخبرنا التاريخ السياسي أن السلطات الجديدة، سواء جاءت بعد ثورات سريعة أو عقب انهيار إمبراطوريات أو دول، سرعان ما تقوم بعملية أسطرة للرموز والطقوس من أجل بناء سردية سياسية وطنية جديدة، تكون أحيانا صريحة (قومية معينة) أو مُضمرة (أقوامية ضيقة).

في الحالتين يجري التلاعب بالأسطورة والرموز والمشاعر، وغالبا باستعمال الدين، والثقافة، والتقاليد، والتاريخ، واللغة.

هنا، تصبح السلطة استبدادية وشمولية، عبر العمل على تحديد المعنى السياسي والتاريخي للأنا (الدولة والمجتمع)، وبالتالي تحدد المعنى والهدف النهائي للوجود الفردي والجماعي، من خلال فرض نظام إلزامي من المعتقدات والأساطير والطقوس والرموز.

قد تكون عملية أسطرة الرموز والطقوس من أجل بناء أمة وطنية موحدة تعلو على الفروقات الاجتماعية والثقافية، ولكنها في أحيان أخرى قد تكون موجهة نحو فئة معينة، وفي حالة ثالثة قد تكون خطوة لإنشاء هوية خاصة بالسلطة الجديدة تميزها عن النظام السابق.

تم إلغاء عطلة ذكرى حرب 6 أكتوبر 1973، التي تعتبر في وجدان السوريين والعرب يوما وطنيا لإحياء ذكرى حرب التحرير ضد إسرائيل، كما تم إلغاء عطلة عيد الشهداء التي توافق يوم 6 مايو، والتي كانت تُخَلد فيها ذكرى إعدام مجموعة من الوطنيين السوريين على يد السلطات العثمانية عام 1916 في دمشق.
وبهذا المعنى، ووفقا لتعبيرات إميليو جنتيلي، لا يمكن مطلقا اعتبار تصوير السياسة من خلال الأساطير والطقوس والرموز ظاهرة دينية، ولكن يجب شرحها حصريا من ناحية الابتكار الواعي للأساطير والممارسات الطقوسية لطبيعة منفعية وذرائعية بشكل أساسي.

هذا ما فعله نظام الأسد حين غالى في أسطرة سرديات ورموز وشخوص مثل "النزعة القومية" و "قلعة الصمود والتصدي" والقضية الفلسطينية، كأدوت تمنح الشرعية، وهذا ما يحدث اليوم في سورية.

مناسبة هذا القول إصدار الرئيس السوري المرسوم رقم 188 لعام 2025، والذي ينص على تحديد الأعياد الرسمية.

ووفقا للمرسوم الجديد، تم إلغاء عطلة ذكرى حرب 6 أكتوبر 1973، التي تعتبر في وجدان السوريين والعرب يوما وطنيا لإحياء ذكرى حرب التحرير ضد إسرائيل، كما تم إلغاء عطلة عيد الشهداء التي توافق يوم 6 مايو، والتي كانت تُخَلد فيها ذكرى إعدام مجموعة من الوطنيين السوريين على يد السلطات العثمانية عام 1916 في دمشق.

حرب أكتوبر

لم تقدم الرئاسة كعادتها بيانا توضيحيا حيال المسائل الحساسة، ومنها مسألة الأسباب التي دفعتها إلى إلغاء هذه الأعياد، لكن أحمد موفق زيدان المستشار الإعلامي للرئيس السوري، خرج علينا عبر صفحته في "فيسبوك" بشرح أسباب إلغاء عيد 6 أكتوبر، وهو شرح يصل بالنسبة له إلى مرتبة اليقين والبداهة التاريخية التي لا تحتاج إلى تفسير.

تابع زيدان القول بلغة قطعية "إن حافظ الأسد باع الجولان والقنيطرة عربونا لمنصبه"، وكنا نتمنى لو أن زيدان قدم لنا وثيقة واحدة تثبت ذلك، لأن المسائل من هذا النوع يكاد يكون من الاستحالة بمكان إثباتها إلا بوثائق دامغة، ومن دون هذه الوثائق الدامغة لن يبقى أمامنا سوى تفسير الظواهر وفق معطياتها القائمة آنذاك وضمن الأفق الاستراتيجي الذي كان سائدا، وهي معطيات في جزء منها يدعم سردية زيدان دون أن تصل إلى مرتبة الدليل القطعي، وفي جزء آخر تؤكد عكس ما ذهب إليه زيدان.

الخطر الأكبر على المجتمع هو أن يقوم شخوص في السلطة بتقديم رؤاهم الأيديولوجية على أنها حقائق موضوعية، كما كان يفعل نظام حافظ الأسد وابنه تماما.

ولم يكتف زيدان بسردية خيانة حافظ الأسد، بل ذهب أبعد من ذلك حين وصف من لا يوافقون على رؤية الخيانة كحقيقة قائمة بـ "الحمقى والهبل"، وهي لغة تعكس خلفية الرجل الذي يمتلك الكثير من الأيديولوجيا والقليل من المعرفة.

يكاد لا يختلف أحد على أن سبب خراب سورية وأزمتها هو حافظ والأسد وحكمه، وهو متعلق تحديدا بالنظام الاستبدادي الرث الذي قضى على حركة الفرد والمجتمع، أي على كينونة المجتمع السوري الفاعل تاريخيا في كافة المجالات، وحوله إلى مجتمع لا يمتلك الحرية وبالتالي الفعل الخلاق.

الخطر الأكبر على المجتمع هو أن يقوم شخوص في السلطة بتقديم رؤاهم الأيديولوجية على أنها حقائق موضوعية، كما كان يفعل نظام حافظ الأسد وابنه تماما.
كما يمكن لي القول إن النظام السوري (حافظ الأسد) كنظام أقلوي، استفاد داخليا من استمرار الصراع مع إسرائيل من أجل الاستمرار في ضخ السرديات القومية الكبرى كأيديولوجيا عابرة للطوائف، وأداة للتشحيذ السياسي الداخلي من أجل التعمية عن الواقع الداخلي.

لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الأسد الأب كان خائنا وعميلا لإسرائيل، فقد يكون معاديا بقوة لإسرائيل ويحمل بعدا قوميا رئيسا في تفكيره حيال فلسطين، في وقت استفاد من الواقع القائم (استمرار الصراع) داخليا.

والحقيقة أن علماء السياسة وعلماء الاجتماع السياسي ممن كتبوا حيال سورية تحت حكم الأسد، لم يذهبوا في اتجاه تقديم الأسد كعميل لإسرائيل، فهذا أمر يتطلب أدلة متينة ووقائع ناصعة البياض لا تحتمل التأويل.

وكما قال عزمي بشارة ذات مرة، يمكن أن يكون النظام مستبدا وعدوا لإسرائيل في ذات الوقت، ولا يمتلك صاحب هذا المقال ولا غيره ـ على ما أجزم ـ الدليل القطعي الذي يؤكد سردية السلطة الجديدة حيال موقف حافظ الأسد من إسرائيل أو ينفيها.

لكن الأهم من كل ذلك، أن الحرب وقعت كحقيقة تاريخية، وهذه هي القضية الأساسية، وأن الجيش السوري ـ المكون من أفراد تنتمي إلى كل المكونات السورية، خصوصا السُنة، بحكم أكثريتهم العددية ـ شارك فيها، ووصل الجنود السوريون إلى بحيرة طبريا.

أما سبب انكسار الجيشين المصري والسوري لاحقا في الحرب، فهذا يتطلب تفسيرا علميا دقيقا (وهو متوفر إلى حد كبير)، دون استبعاد احتمال "الخيانة"، لكن ليس اعتبار الخيانة التفسير الوحيد، وإذ فعلنا ذلك فكأننا نقوم بعملية قلب أيديولوجي للتاريخ.

عيد النيروز

أيضا، لا يبدو مفهوما إلغاء عيد النيروز، وهو عيد رأس السنة الفارسية والسنة الكردية، ويوافق يوم الاعتدال الربيعي، أي 21 مارس في التقويم الميلادي، وقد ظل الاحتفال بهذا العيد مستمرا بعد الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس حتى يومنا هذا، وهو أكبر الأعياد عند القومية الفارسية والأكراد في سورية والعراق وتركيا.

والحقيقة يصعب تفسير الأسباب التي أدت إلى إلغاء هذا العيد، فلا يمكن الاهتداء إلى تفسير واحد مُقنع، ذلك أن التواصل الإنساني كما قال ماتياس دسميت مثقل بالغموض وإساءة الفهم والشك، لأن الرموز التي تنطوي عليها اللغة البشرية يمكن أن تدلل على عدد لا متناه من الأشياء تبعا للسياق الذي تصدر فيه.

وربما يكون أحد التفسيرات ما ذهبت إليه "جبهة كردستان سورية" حين قالت إن قرار الإلغاء يكرس استمرار سياسة الإقصاء والتمييز الممنهجة التي مورست بحق الشعب الكردي لعقود طويلة، ويُعبر بوضوح عن بقاء النهج البعثي ذاته الذي سعى إلى طمس هوية هذا الشعب وإنكار تاريخه وحقوقه القومية والثقافية.

لا يبدو مفهوما إلغاء عيد النيروز، وهو عيد رأس السنة الفارسية والسنة الكردية، ويوافق يوم الاعتدال الربيعي، أي 21 مارس في التقويم الميلادي، وقد ظل الاحتفال بهذا العيد مستمرا بعد الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس حتى يومنا هذا، وهو أكبر الأعياد عند القومية الفارسية والأكراد في سورية والعراق وتركيا.
وتزداد الأمور حيرة وربما سوءا، حين يكون لدينا علما ومعرفة بالأسباب التي أدت إلى إلغاء عيد 6 مايو، وهو عيد يشكل خصوصية تاريخية لسورية ولبنان، وقد أقرت الحكومة اللبنانية تسمية ساحة الشهداء الشهيرة وسط بيروت ذكرى لعملية الإعدام التي نفذتها السلطات العثمانية بحق الوطنيين السوريين آنذاك في دمشق وبيروت ما بين 21 أغسطس 1915 وأوائل عام 1917.

إن ذكرى عيد الشهداء لا تعكس، كحدث مباشر، عملية إعدام الوطنيين فحسب، بل، وهذا هو الأهم تعكس مرحلة "السفر برلك" بما تتضمنه من اضطهاد ومجاعات.

لا يبدو خافيا على أحد أن قرار إلغاء عيد السادس من مايو جاء من أجل استرضاء تركيا التي تعمل جاهدة منذ عقود على طي صفحات الظلم التي قامت بها السلطنة العثمانية أواخر عهدها، سواء مع الأرمن أو العرب.

وربما يكون مبررا إلى حد ما إلغاء هذا العيد ترضية لتركيا في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها سورية، وتشكل فيها تركيا دورا فاعلا في حماية الدولة الجديدة ومنعها من السقوط في ظل تربص الكثيرين بها.

غير أن مكر السياسة يأبى إلا أن يظهر بصورة واضحة، فالسلطة السورية، ألغت عيدا وقائعه ثابتة بالمطلق تاريخيا (6 مايو) في وقت ألغت أيضا عيدا تفسيراته ليست مطلقة الإثبات، وإن كانت وقائعه حقيقة تاريخية (6 أكتوبر).

هنا تتداخل البراغماتية السياسية الفجة مع الأيديولوجيا الدوغماتية الفجة، وفي كلتا الحالتين نحن أمام مأزق سياسي كبير.. إنها عملية مصادرة من طرف واحد يعتبر نفسه قيماً على المجتمع.

جبل باشان

لا يمكن إنهاء المقال دون التطرق إلى ظاهرة شيخ عقل الدروز حكمت الهجري الشخصية المضطربة سياسيا ومعرفيا ووطنيا، فبعد رفع الأعلام الإسرائيلية في سورية، ومطالبته بتدخل إسرائيل عسكرياً، ودعوته لانفصال السويداء عن سورية، نشر الهجري قبل نحو عشرة أيام عبر صفحة الرئاسة الروحية للموحدين الدروز في السويداء على "فيسبوك"، بيانا استخدم فيه المسمى التوراتي "جبل باشان" بدلا من منطقة جبل العرب، في إشارة إلى أن المنطقة هي منطقة إسرائيلية تاريخيا وليست عربية، وهي من حق إسرائيل لا العرب.

وباشان اسم عبري يُطلق على الأرض المستوية، وكان يُقصد بها قديما حوران والجولان واللجاه، وذكر الاسم في الفقرة 33 من الإصحاح 21 من سفر العدد من العهد القديم "ثم تحولوا و صعدوا في طريق باشان فخرج عوج ملك باشان للقائهم هو و جميع قومه إلى الحرب في اذرعي"، وفي الفقرة 15 من الإصحاح 68 من سفر المزامير ذكر الاسم أيضا "جبل الله، جبل باشان، جبل أسنمة، جبل باشان".

الفارق بين سردية السلطة في دمشق وسردية الهجري، هو أن حالة السلطة السورية تنحصر في عملية تأويل للتاريخ، سواء أصابت أم أخطأت (عيد 6 أكتوبر)، وتنحصر في عملية تعمية سياسية مقصودة لأهداف براغماتية (عيد 6 مايو)، وتنحصر ربما في قراءة أيديولوجية ضيقة للرموز (عيد النيروز 21 مارس).

أما حالة الهجري، فهي حالة خيانة المبادئ الوطنية العليا، وهي خيانة لا تقبل المساومة ولا النقاش، وربما يمكن القول إن ذهاب الهجري بعيدا خارج الصيغة الوطنية والقومية إنما يعود إلى حالة الإفلاس والعجز السياسي وفقدان البوصلة.

ومع ذلك، فإن خطورة حالة الهجري تكمن في ذهابه بالسويداء خارج حمولاتها الواقعية والتاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وهو اتجاه إما قد ينتهي بمواجهة أخرى على غرار ما حدث في يوليو، وأما أن ينتهي بأياد أهل السويداء أنفسهم.
التعليقات (0)

خبر عاجل