مقالات مختارة

تعرية الصهاينة والإمبرياليّة و”المخاذِلة”!

عبد الحميد عثماني
إكس
إكس
الآن وقد وضعت أوزارَها حربُ العدوان الغاشم على أهلنا في غزة، على أمل التزام الأطراف الدولية والإقليمية الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار بتنفيذه بشكل نهائي ودائم، لأنّ الكيان الصهيوني جاهز للتنصُّل منه بمجرد استرجاع الأسرى من قبضة المقاومة، فإنّه من المهمّ التوقف عند ثلاث سرديّات تقاطعت في الهدف والمآل.

ربّما يجتهد كثيرون، بحسن قصد، في تقييم وقائع ما جرى منذ اندلاع “طوفان الأقصى” المبارك في 07 أكتوبر 2023، لكن هناك فئة أخرى تريد الوقوف على نتائج المعركة المفتوحة، بسوء نيّة مبيّتة، بحثًا عن أدلة إدانة للمقاومة الباسلة، بعد ما خذلوها، بل حاربوها منذ بداية المواجهة، ومن منطلق مبدئي مكشوف.

تكلمنا في مناسبات سابقة، وسنقف مجددا في مساحات لاحقة، عن إنجازات الطوفان الإستراتيجية لصالح القضية الفلسطينية، لإيماننا الراسخ أنه سيظل محطة فارقة في مسار حركة التحرُّر الفلسطيني عند منْ يفقهون مسارات التاريخ الكبرى ومشاريع الاستعمار الاستيطاني ويستوعبون طبيعة الكيان الصهيوني.

لذلك، ما يهمنا في هذه السانحة هو فقط إبراز مكاسب الطوفان في تعرية ثلاث سرديّات أساسيّة، في سياق المعركة التحرريّة المفتوحة، وهي روايات الكيان الصهيوني وصورته الزائفة أمام الرأي العامّ الدولي، ومعه قوى الإمبريالية القديمة المتجددة، ثم خطابات تيار “المخاذِلة” المستتر بالفقه السّلطاني الملكي.
سقطت السردية الصهيونية بمظلومية اليهود عبر التاريخ

لقد سقطت السردية الصهيونية بمظلومية اليهود عبر التاريخ، وعلى رأسها حادثة “الهولوكوست”، ليكتشف العالم مجددا وحشية هذا الجنس البشري غير السويّ، ومدى انتهاكه لكل الشرائع الدولية والقانونية والأخلاقية واستهتاره بالمؤسسات الأممية.

كل ما بنته السرديّة الغربية، طيلة 77 سنة من التضليل، عبر مؤسساتها الدعائية الإعلامية والفنية والأكاديمية عن “دولة إسرائيل” الديمقراطية ونموذج حقوق الإنسان و”الشعب اليهودي” تبخّر بتورّط الكيان في العدوان الجنوني للردّ على “طوفان الأقصى”.

لم يسبق للاحتلال الإسرائيلي التعرُّض للضغط القانوني والأخلاقي والملاحقات القضائية والشعبيّة والنخبويّة خارج العالم العربي والإسلامي، مثلما وقع منذ 7 أكتوبر 2023، حتّى تحوَّل إلى كيان منبوذ دوليًّا، تحتجّ الجماهير على ممارساته العدوانية في معاقل إنشائه ودعمه التاريخي، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، خاصة في أوساط الفئات الشبابية والطلابية، في مقابل ما كسبته القضية الفلسطينية من آفاق إنسانية وزخم دولي على كافة المستويات، رفعها إلى صدارة الأحداث الدوليّة بعد ما خطط أعداؤها لوأدها إلى الأبد.

من جهة أخرى، عرّى الطوفان المبارك بشكل نهائي قوى “الحداثة” الغربية وتيارها المادي المتدثر بالعقلانية وإعلاء القيم الإنسانية، ومعهم المؤسسات الدولية الوظيفية في صالح تكريس الهيمنة الإمبريالية للاستعمار الجديد، إذ ظلت في موقع الداعم للكيان الصهيوني، متجاوزة كل القوانين والمواثيق والأعراف الأممية، وفي أحسن الأحوال، اصطفَّت مع المتفرّجين في انتظار أن يسفر العدوان عن اجتثاث الشعب الفلسطيني من أرضه.

وبين هؤلاء المفتضَحين، تكشّفت أيضا عورات كثير من الحداثيين العرب الذين باعوا ضمائرهم الميّتة لـ”عواصم البترودولار”، فآثروا الصمت، أو بالأحرى، التواطؤ، أمام تناثر الأشلاء وجريان الدماء وقتل الأطفال والنساء وتدمير كل شيء على وجه الأرض في غزة، ليتأكد المخدوعون بهم أنّ شعارات التنوير والتنويم الديني ما هي في واقع الحال سوى أقنعة برّاقة لمحاربة مرجعية الأمة، لكن عندما يجدّ موعد التاريخ مع ساعة الحريّة يقفز أدعياء العقلانيّة إلى صف العدوّ طمعًا في الغنيمة، وانتقامًا من خصومهم الأيديولوجيين، حتى لو كان الثمن هو ضياع قضية مقدَّسة في مستوى المركزية الفلسطينيّة.

أما ثالث المفضوحين شعبيًّا في الآونة الأخيرة، فهو ذاك التيار “المُخاذل” الذي طالما جعل من الطعن في سادة العلماء وتجريح كل الجماعات والمذاهب الإسلامية وعموم الأمة منهجًا له، مُدّعيًا العصمة لرموزه واحتكار الحقيقة المطلقة في فهم الدين وتطبيق السنة النبويّة الشريفة.

صحيحٌ أن فساد الفهم والنهج وسوء الطويّة والأخلاق عند هؤلاء القوم لم يكن خفيًّا عن ذوي الألباب ولا السرائر السويّة، لكن ما توقّع أحدٌ أن تصل بهم الوقاحة والجهر بالفجور إلى حدّ الشماتة علنًا في شهداء المسلمين وأبطال الجهاد، وأن تتحوّل صفحاتُهم الافتراضية ومجموعاتهم إلى منصات اجتماعية تنوب عن الذباب الصهيوني في الإساءة إلى المجاهدين والتشفّي في ارتقائهم على يد عدوّ مُبين.

وأمام التفاف الجماهير الحرّة للأمة، بنخبها الصادقة وقواها الحيّة وعلمائها العاملين، حول خيار المقاومة والتحرير في فلسطين وجد هؤلاء “المخاذِلة” أنفسهم في حالة تخبُّط منهجي وارتباك بالغ في ضبط محدِّدات الخطاب ومفردات التواصل، إذ أثاروا في بداية المعركة دعاوى “العقيدة الفاسدة” لحركة حماس وعدم جواز إعلان الجهاد إلاّ بإذن الحاكم (لا نعلم إن كان المقصود هو المنسِّق الأمني مع الإسرائيليين أم وكلاء أمريكا في المنطقة).

لكن عندما جرفهم تيّار التعاطف مع المقاومة والصدود عن شذوذهم الفكري، انتحلوا صفة الخبراء العسكريين والاستراتيجيين، زاعمين أنّ المقاومة جلبت الدمار الشامل إلى القطاع بسبب تهوُّر خيارها، أي توزير الأشقّاء عوض تجريم العدوّ، وهمْ بذلك يروِّجون، بإيعاز غير عفويّ، لأسطوانة الأنظمة العربية العميلة، رفعًا للحرج عن نفسها في التخلّي عن الحقوق الفلسطينية.

هكذا تقاطعت مع نهاية جولة الطوفان الأولى سرديّات الكيان الصهيوني وقوى الاستعمار العالميّة والتيار الديني الوظيفي في الوطن العربي، غير أن عجلة التاريخ في مضيِّه نحو المستقبل لن توقفه أي قوة على وجه الأرض.

الشروق الجزائرية
التعليقات (0)

خبر عاجل